وفي طريق العودة حادث الوزير نفسه: إن الملكة شديدة الحزن، وعسى أن ينفع حزنها قضيتنا العادلة.
نيتوقريس
غيب الباب الوزير، ووجدت الملكة نفسها وحيدة في البهو الكبير، فأسندت رأسها المتوج إلى ظهر العرش، وأغلقت جفنيها، وتنهدت تنهدا عميقا، صعد أنفاسا حارة مكتوية بصورة الحزن والألم، فلشد ما تتصبر وتتجلد، حتى إن أدنى الناس إليها لا يدري بألسنة اللهيب التي تحترق بها أحشاؤها بغير رحمة .. وقد ظلت تطالع الناس بوجه هادئ يكتنفه الصمت كأبي الهول.
وما كانت تجهل من الأمر شيئا، فقد شاهدت المأساة من بدء فصولها، ورأت الملك يتردى في الهاوية، ويذهب فريسة لهواه الجامح، ويهرع إلى تلك المرأة - التي شاد بحسنها كل لسان - لا يلوي على شيء. وأصابها سهم سام في عزة نفسها وسويداء عواطفها، ولكنها لم تبد حراكا، ونشب في صدرها صراع عنيف بين المرأة ذات القلب، والملكة ذات التاج، وأثبتت التجربة أنها كأبيها قوية الشكيمة، فصهر التاج القلب، وخنقت الكبرياء الحب، فانطوت على نفسها الحزينة سجينة خلف الستائر. وهكذا خسرت المعركة، وخرجت منها مهيضة الجناح، وما رمت عن قوسها سهما واحدا.
وكان الذي يدعو إلى السخرية، أنهما ما زالا يعدان عروسين. على أن تلك الفترة القصيرة كانت كافية لإظهار ما انطوت عليه نفسه من الجموح العنيف والهوى الطائش؛ فما عتم أن ملأ الحريم بعدد لا يحصى من الجواري والمحظيات من مصر والنوبة وبلاد الشمال. ولم تكن تأبه لهن؛ لأنهن جميعا لم يصرفنه عنها، ولبثت ملكته وملكة فؤاده. إلى أن ظهرت في أفقه هذه المرأة الساحرة فجذبته إليها بعنف، وملكت عواطفه وعقله جميعا، واستأثرت به دون زوجه وحريمه ورجاله المخلصين، ولعب بها الأمر الخادع حينا، ثم أسلمها إلى اليأس، يأس مكفن بكبرياء فأحست بقلبها يتجرع سكرات الموت.
وكانت تأتي عليها أحايين يثب الجنون في دمائها، وتشع عيناها نورا خاطفا، فتهم بالوثب والبطش والمنافحة عن قلبها الكسير، ثم سرعان ما تقول لنفسها باحتقار شديد: كيف يصح لنيتوقريس أن تنازل امرأة تبيع جسدها بقطع الذهب؟ فتبرد دماؤها، ويتجمد الحزن في قلبها كالسم الفاتك في المعدة.
ولكن ثبت لها اليوم أن هناك قلوبا غير قلبها تعاني الآلام بسبب تهور الملك، وها هو ذا خنوم حتب يشكو إليها بثه ويقول لها بعبارة بينة: إنه لا يجوز أن تنزع أملاك المعابد لتلهو بها رادوبيس الراقصة. ويؤمن بقولها المئون من صفوة الحكماء .. أفلا ينبغي أن تخرج عن صمتها؟ وإذا لم تتكلم الآن فمتى ينبغي لها أن تعالج جنونه بحكمتها. وقد آلمها أن يرتقي الهمس إلى العرش المكين، وأحست بأن واجبها يقضي عليها بإزالة الهواجس وإعادة الطمأنينة، وهان عليها أن تدوس على كبريائها، وتوطد العزم على أن تتقدم بخطى ثابتة في سبيلها السوي مستعينة بالأرباب.
وارتاحت الملكة لتفكيرها الذي أملته عليها الحكمة والدواعي الباطنة، انهار عنادها الأول بعد أن ثابر مثابرة المستميت، وصدقت عزيمتها على مواجهة الملك بقوة وإخلاص.
وغادرت البهو إلى مخدعها الملكي، وقطعت بقية نهارها في التفكير والتأمل، ونامت ليلها نوما متقطعا شديد العذاب، وانتظرت الضحى على لهفة، وهو الوقت الذي يصحو فيه الملك بعد سهر الليل .. ولم يداخلها التردد، فانتقلت بخطى ثابتة إلى جناح الملك، وقد أحدث انتقالها الغريب حركة بين الحراس، فأدوا لها التحية، وسألت واحدا منهم قائلة: أين جلالة الملك؟
فأجابها الرجل بإجلال قائلا: في مثواه الخاص يا صاحبة الجلالة.
Shafi da ba'a sani ba