فابتسم الملك ارتياحا، ولاحت منه نظرة إلى وجه سوفخاتب في ساعة خذلانه، فأحس نحوه بعطف وقال: أنت رجل مخلص يا سوفخاتب، ومشير نصوح .. فلا يحزنك أن خولف رأيك.
فقال الرجل: لست يا مولاي من قوم مغرورين، يغضبون أشد الغضب إذا خولفت نصيحتهم، لا خوفا من العواقب، ولكن ذودا عن كرامتهم، حتى ليبلغ الغرور بأحدهم أن يتمنى لو يقع شر كان أنذر به، ليعرف من لا يعرف قدره .. أعوذ بالرب من شر الغرور، فما يدفعني إلى محض النصيحة سوى الإخلاص وما يحزنني حين مخالفتها سوى الإشفاق من صدق حدسي، وما أتمنى على الرب من شيء إلا أن يكذب رأيي، ليطمئن قلبي.
وكأن فرعون أراد أن يطمئنه، فقال: لقد نلت بغيتي، ولن ينالوا شيئا مني؛ فمصر تعبد فرعون، ولا ترضى عنه بدلا.
فأمن الرجلان على قول مولاهما بإخلاص، ولكن كان سوفخاتب مضطربا، يحاول عبثا أن يقلل من خطورة الأمر الذي أصدره فرعون، ويذكر في ضيق صدر أن الكهنة سيتلقون الأمر الشديد وهم مجتمعون في آبو، فيتسع لهم المقام لتبادل الرأي، وتباث الشكوى، فيعودون إلى ولاياتهم وقد أطبقت أفواههم على التذمر والحزن، وإنه ليعلم علم اليقين من هم الكهنة وما هو نفوذهم على القلوب والعقول .. ولكنه لم يبن عن آرائه؛ لأنه وجد الملك فرحا راضيا ضاحك الثغر، فأشفق من تعكير صفوه، وبسط صفحة وجهه، ورسم على شفتيه ابتسامة راضية.
وقال الملك بسرور: لم أشعر بمثل نشوة الظفر هذه منذ اليوم الذي انتصرت فيه على قبائل المعصايو جنوب النوبة في حياة أبي، فلنشرب نخب هذا الفوز السعيد.
وجاءت الجواري بإبريق من خمر مريوط وكئوس ذهبية، وصببن الخمر، وقدمن كئوسا مترعات إلى الملك والرجلين المخلصين، فشربوا في صفاء وهناء وعلوا في نشوة، وجعل سوفخاتب يذب عن قلبه الخواطر المقلقة، ليركز حواسه في رحيق مريوط، ويشارك الملك والقائد سعادتهما، وكانوا جلوسا صامتين تتبادل أعينهم المودة والصفاء، والبركة من تحتهم يستحم في مائها الطرب شعاع الشمس المائل، والأشجار من حولهم ترقص أغصانها على شدو الأغاريد، وتنبثق الأزهار من بين أوراقها انبثاق الخواطر السعيدة من غيابات النفوس .. واستسلموا إلى يقظة ناعسة زمنا غير يسير حتى انتبهوا على حادثة غريبة انتزعتهم من أحلامهم بعنف؛ إذ سقط شيء في حجر الملك من عل، فانتفض واقفا، وتبعه الرجلان، فسقط الشيء عند قدميه، وإذا به صندل ذهبي، ونظروا إلى أعلى دهشين، فرأوا نسرا هائلا يحلق في سماء الحديقة فوق رءوسهم ويبعث في الفضاء صرصرة مخيفة، ويصليهم نظرات ملتهبة من عينين متقدتين، ثم ضرب بجناحيه الهواء ضربة عنيفة حلق بها في آفاق بعيدة.
وعادوا بالنظر إلى الصندل، والتقطه الملك بيده، وجلس يتأمله بعينين مبتسمتين تلوح فيهما آي الدهشة. ونظر الرجلان إلى الصندل بغرابة، وتبادلا نظرات الإنكار والدهشة والارتياب.
ومضى الملك في تأمله، ثم غمغم قائلا: هذا صندل امرأة، بلا ريب، ما أجمله وما أثمنه!
وتساءل طاهو وعيناه تلتهمان الصندل: ترى هل خطفه النسر؟
فابتسم الملك قائلا: لا يوجد في حديقتي شجر يتساقط منه نبت طيب كهذا.
Shafi da ba'a sani ba