الرد على المجبرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المحسن إلى جميع خلقه، بما عمهم من فضله وإحسانه، الذي:{ لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما } [النساء: 40]. الذي خلق خلقه لعبادته، وقواهم على طاعته، وجعل لهم السبيل إلى ما أمرهم به، كما قال سبحانه:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات :56].وقال:{ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. وذلك دين القيمة } [البينة:5]. وقال:{ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } [النساء:64]. وقال لموسى وهارون صلى الله عليهما: { اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } [طه: 41 - 42].
فزعمت القدرية الكاذبة على ربها، أن الله عز وجل عن قولهم: خلق أكثر خلقه ليعبدوا غيره، ويتخذوا الشركاء والأنداد، مع قوله:{ فلا تجعلوا لله أندادا } [البقرة:23]. ومع قوله:{ يا أيها الناس اتقوا ربكم } [لقمان: 33]. وقوله:{ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } [النور: 54]. وقوله:{ يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها } [يونس: 108]. { وما ربك بظلام للعبيد } [فصلت: 46].
فزعموا أنه لم يرد منهم أن يطيعوا رسله، وأن الله أمر بما لا يريد، ونهى عما يريد. وخلقهم كفارا، وقال الله:{ وكيف تكفرون } [البقرة: 28]. ومنعهم من الإيمان، وقال:{ وماذا عليهم لو آمنوا بالله } [النساء: 39]. وقال:{ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } [الإسراء:94]. ومنعهم من الهدى، وأفكهم، وقال:{ أنى يؤفكون } [المائدة: 75، والتوبة:30، والمنافقون: 4]. وصرفهم عن دينه، وقال:{ أنى يصرفون } [غافر:69].
Shafi 369
فافهموا - وفقكم الله - ما يتلى عليكم من كتاب الله، فإن الله يقول:{ وشفاء لما في الصدور } [يونس: 57]. ويقول:{ كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } [فصلت: 42]. ويقول:{ فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } [الجاثية: 6]. ويقول:{ اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } [الزمر: 55].
وقد بين الله للخلق، واحتج عليهم بما بين لهم في كتابه، وأمرهم بالتمسك بما في الكتاب، والاقتداء بما عن نبيه جاءهم، فإنما هلك من كان قبلهم، بإعراضهم عن كتاب ربهم، والترك لمن مضى من أنبيائهم، من أهل الكتاب وغيرهم.
فاتقوا الله، وانظروا لأنفسكم قبل نزول الموت، واعلموا أنه لا حجة لمن لم يحتج بقول الله، فإن الله سبحانه يقول:{ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } [العنكبوت:51]. فاسمعوا قول المفترية على الله. فمن قولهم: إنه لم يعمل أحد خيرا ولا شرا .. فرد الله عليهم مكذبا لهم: فقال: { الذين كفروا وصدوا سبيل الله أضل أعمالهم } [محمد:1]. وقال:{ كفارا حسدا من عند أنفسهم } [البقرة: 109]. وقال:{ وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى } [النجم: 52]. وقال:{ بل هم قوم طاغون } [الذاريات: 53]. وقال:{ اليوم تجزىكل نفس بما كسبت } [غافر: 17]. وقال:{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } [الزلزلة:7]. مع الآيات الكثيرة المحكمة الواضحة، من كتاب الله، تصديقا لما قلنا، وتكذيبا لما قالوا.
Shafi 370
وإنما أنزل الله الكتاب ليتمسك به، قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:{ اتبع ما يوحى إليك من ربك } [الأحزاب:2]. وقال:{ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } [طه:123 - 124]. وقال:{ اتبع ما أوحي إليك من ربك } [الأنعام: 106]. ثم قال لجميع الأمة:{ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون } [الأعراف:3]. فاتقوا الله ولا تقولوا على الله إلا الحق، فقد بين لكم آثار من مضى من أسلافكم، وقص عليكم قصة من كان قبلكم، من المؤمنين والصالحين، ومن أوليائه المرسلين، وما أمركم من الاقتداء بهم، ورغبكم في مرافقتهم، وقد خبركم ما قد أصبح بمن خالفهم وسلك عكس طريقهم، من قوم لوط، وأصحاب فرعون، فأخذهم الله بذنوبهم فقال: { فكلا أخذنا بذنبه } [العنكبوت:40]. وقال، سبحانه لنبيه:{ أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده } [الأنعام:90]. وقال:{ فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب } [الزمر: 18، 19].
ثم قال :{ إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان لهم سول وأملى لهم } [محمد:25].
فهذا ما أخبر الله عز وجل ذكره عن جميع عباده، كيف من ضل منهم، واهتدى من اهتدى منهم، ومن بعدما قد حكى الله من أنبيائه صلوات الله عليهم، وعلى آدم وحواء، قال الله: { وعصى آدم ربه فغوى } [طه: 121] ثم قال:{ ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } [الأعراف:22] فاعترفا بذنبهما، فقالا مقرين تائبين عن معصيتهما :{ ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } [الأعراف:23].
ولم يقولا: معصيتنا من الرحمن وإرادته.
والقدرية والمجبرة يقولون: معصيتنا بقضاء الله وإرادته، خلافا على أبي البشر عليه السلام.
Shafi 371
وقال الله، عز وجل، يخبر عن موسى صلى الله عليه:{ فوكزه موسى فقضى عليه، قال هذا من عمل الشيطان } [القصص: 15]. ولم يقل: هذا من الله ومشيئته. وقال يعقوب عليه السلام:{ بل سولت لكم أنفسكم } [يوسف: 18]. والقدرية تقول: إن الله سول لهم ذلك. وقال يوسف صلى الله عليه:{ من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } [يوسف:100]. وقال يخبر عن يونس، عليه السلام:{ فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [الأنبياء: 87]. والقدرية تزعم أن الظلم قضاء رب العالمين. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: { إن ضللت فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } [سبأ: 50]. فجعل ضلالته من قبل نفسه، وهداه من قبل ربه، موافقة لله، إذ يقول سبحانه:{ إن علينا للهدى } [الليل: 13]. وقال:{ الذي قدر فهدى } [الأعلى: 3]. وقال:{ يبين الله لكم أن تضلوا } [النساء:76]. أي لئلا تضلوا. وقال:{ فأما ثمود فهديناهم، فاستحبوا العمى على الهدى } [فصلت: 17]. فكل ما كان من هدى فقد أضافه إلى نفسه، وكل ما كان من ضلال فقد أضافه إلى خلقه، والله أولى بما أضاف إلى نفسه، والعباد أولى بما أضاف إليهم، وكانوا هم المعتدين الظالمين، الجائرين المخالفين لقضائه وقدره، تبارك وتعالى.
فأقرت الأنبياء، صلوات الله عليهم بالإساءة والتقصير، فيما أغفلت وقصرت، وأضافت ذلك إلى أنفسها ، وإلى الشيطان، معرفة منهم بالله، أنهم لم يؤتوا في ذلك من ربهم. وخالفت المجبرة والقدرية كتاب الله، ووافقت الشيطان، قلة معرفة منهم بعدل الله في خلقه، ورحمته لهم، وانتفائه من ظلمهم، في قوله:{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجرا عظيما } [النساء:40].
فقد ذكرنا جملة مما احتج الله على القدرية الكاذبة على الله في كتابه، وعلى النبيين.
Shafi 372
وكيف يتوهم عاقل، أو ينطوي قلب مؤمن ؟! أنه مصيب مع خلافه لقول الله وقول أنبيائه ؟! إن من ظن ذلك لقد جهل جهلا مبينا، وضل ضلالا بعيدا.
فزعموا من بعدما حضرنا ما ذكرنا، وما لم نذكر من حجج الله عليهم، وما قد رد الله من مقالتهم، وأكذبهم ما لا يحصى، فزعموا أن الله خلق الخلق صنفين، وجعلهم جزأين، فجعل صنفا يعبدونه، وصنفا يعبدون الشيطان، وجعل من يعبد الشيطان أكثر ممن يعبد الله، فأكذبهم بقوله:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56].
ثم زعموا أن الله تبارك وتعالى، رضي بذلك وأراده وأحبه، وأنه لا يرضى أن يعبد من أرضاه أن يكفر به، تكذيبا بقول الله وردا عليه إذ يقول:{ لا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم } [الزمر:7]. ويقول:{ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [البقرة:205]. فتعالى الآمر بالعدل والاحسان، أن يكون راضيا بالمنكر والعدوان، لأنه لا يريد الظلم لأنه عدل، ولا يريد الفساد لأنه مصلح، ولا يحب المنكر لأنه حكيم حاكم بالحق.
Shafi 373
وقال سبحانه ردا على من زعم أن الله أراد الكفر والظلم، فقال سبحانه:{ وما الله يريد ظلما للعباد } [غافر:31]. وقال:{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185]. وقال:{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ... إلى قوله: أن تميلوا ميلا عظيما } [النساء: 26، 27]. فأخبر أنه يريد أن يبين لنا ويهدينا، وأن الشيطان يريد خلاف ذلك بنا. إذ كان سبحانه ناظرا رحيما بنا، وكان الشيطان عدوا لنا مبغضا، فلا يكون الناظر لنا يريد بنا عدوانا . وقال:{ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون } [الصف: 8]. وقال:{ تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم } [الأنفال: 67]. وقال:{ يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا } [النساء: 28]. في آي كثيرة، ولولا طول الكتاب ذكرتها، وفيما ذكرنا كفاية. والحمد لله.
زعمت القدرية: أن العباد ما شاءوا شيئا قط، ولا يريدون شيئا، والله هو المريد للظلم، والغرآة عليه، فرد الله عليهم بقوله:{ من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [الكهف:29]. و:{ من شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } [الإنسان:29]. وقال:{كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة } [عبس:11 - 13]. وقال موسى، عليه السلام:{ لو شئت لاتخذت عليه أجرا } [الكهف: 29]. وقال أهل الجنة:{ الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } [الزمر:74]. فذكر الله المشيئة في غير موضع من الكتاب، وذكر أن العباد يريدون ويفعلون ويشاءون، تكذيبا لمن قال بخلاف ذلك.
فقد ذكرنا جملة من كتاب الله تبارك وتعالى، مما فيه رد عليهم، وحجة بلاغ لقوم عابدين.
Shafi 374
[أسئلة إلى المجبرة]
ونحن سآئلون بعد ذلك، وبالله نستعين، مع أن في المسألة آيات كثيرة مما قد دل الله العباد، وبين لهم أنهم يشاءون ويريدون، ويرضون ويحبون.
فأما المشيئة فقال: { اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } [فصلت:40]. وقال:{ ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا } [الفرقان: 57].
فأما الإرادة فقال: { منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة } [آل عمران: 152].
وأما الرضى، فقال: { رضي الله عنهم، ورضوا عنه } [المائدة: 119].
وأما المحبة، فقال: { يحبون من هاجر إليهم } [الحشر: 9]. وفي ذلك آيات كثيرة مما لم نذكره.
ثم يقال لمن زعم أن الله خلق أكثر خلقه ليعبدوا غيره: ما حجتك وما برهانك على ما ادعيت من ذلك ؟ أبكتاب الله ما قلت ؟! أم بسنة ؟ أم بقياس ؟
فإن ادعا حجة من الكتاب.
سئل ؟
فإن قال: قلت: يقول الله:{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } [الأعراف:179].
يقال له: إنا لم نسألك عما أجبت، وإنما سألناك عن قولك: خلق الله أكثر خلقه ليعبدوا غيره، فمن زعم أن الله خلق أكثر خلقه للكفر والمعصية، فلا يجد إلى ذلك سبيلا. مع أن لقوله:{ ولقد ذرأنا لجنهم كثيرا من الجن والإنس }. تأويل عدل الله، وإنما ذرأ لجهنم من عصاه، وابتغى غير سبيله، فجعلهم ذرو جهنم، جزاء بما كانوا يكسبون، ويعملون.
ثم يسأل عن قوله سبحانه:{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56] ؟ فإن زعم أن ذلك خاص في المؤمنين ! سئل عن الحجة في ذلك والدليل على ما قال ؟ ثم يعارض، فيقال له: إذا زعمت أن ذلك خآص، ثم زعمتم أن قوله:{ يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا } [الأعراف: 158]. فإن كان خآصا إلى المؤمنين، والمؤمنون قد آمنوا، فما معنى قوله: آمنوا، وقد آمنوا ؟! فلا يجدون وجه الآية أبدا إلا قول الحق خآصا في المؤمنين، دون الكافرين، ولا يجدون فرقا في ذلك.
Shafi 375
ثم يسألون فيقال: أخبرونا عن إبليس، خلقه الله ليعبده ؟ أو ليعبد من دونه ؟..
فإن قالوا: خلقه ليعبده. تركوا قولهم. وإن قالوا: ليعبد من دون الله، زعموا أنه أول من أشرك بنفسه، إذ جعل إبليس ليعبد من دونه ويشركه في عبادته، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ثم يقال لهم: إن زعمتم أن الله خلق خلقه كفارا، وأمرهم بالإيمان، أفليس قد أمرهم أن ينتقلوا من خلقهم، وأن يصيروا إلى خلاف ما خلقهم عليه ؟!
فإن قالوا: نعم. قيل لهم: فلم لا يجوز أن يخلقهم سودا ويأمرهم أن يصيروا بيضا، كما خلقهم كفارا، وأمرهم بالإيمان ؟! فلا بد من إجازة ذلك، أو يتركوا قولهم.
ثم يسألون أيضا، فيقال لهم: إذا خلق الكفار كفارا، أيجوز أن يكون الكفر فعل الكفار ؟
فإن قالوا: نعم. قيل لهم: وكذلك يجوز أن يخلق الأبيض أبيض، ويكون البياض فعله، ويخلق الأسود أسود ويكون السواد فعله !!
وإن سألوك فقالوا: إذا زعمت أن الله تبارك وتعالى، خلق العباد للايمان، فلم يؤمنوا، لم لا يجوز أن يخلقهم للموت فلا يموتوا ؟
فقل لهم: إنما أعني بقولي: إن الله خلقهم ليفعلوا الايمان ، ولم يخلقهم للموت ليفعلوا الموت، فهذا فرق ما سألتم عنه.
فإن قالوا: خلقهم للايمان فلا يؤمنون ؟
قلنا: نعم. كما أمرهم بالايمان فلم يؤمنوا.
فإن قالوا: فما أنكرتم من أن يخلقهم للايمان كما خلقهم للموت ؟
قيل لهم: من قبل: أن معنى قولي: خلقهم للموت، أريد أن الله خلقهم ليميتهم ويضطرهم إلى ذلك، فلو كان خلقهم للايمان كما خلقهم للموت كانوا كلهم مؤمنين، كما كانوا كلهم يموتون، ولو كان ذلك كذلك، لم يجز أن يأمرهم بالإيمان، ولا ينهاهم عن المنكر والكفر، كما لا يجوز أن يأمرهم بالحياة، ولا ينهاهم عن الموت، ولا يجبرهم على شيء من ذلك، ولا يثيبهم به. فمن هاهنا أنكرنا ما ذكرتم.
ثم يقال لهم: إذا زعمتم أن الله خلق الناس كفارا، فمن جاء بالكفر ؟ من خلقه ؟! أو من لم يخلقه ؟!
Shafi 376
فإن قالوا: من خلقه يقال لهم: فما معنى قوله:{ لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السموات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا } [مريم: 89 - 91]. وقوله:{ لقد جئت شيئا نكرا } [الكهف:74]. فهل يكون هذا على معناكم وأصلكم ومذهبكم إلا كذبا ؟! لأنكم زعمتم أن الله تبارك وتعالى، جاء به. وقال للكفار: أنتم الذين جئتم به. فلو أردتم تصفون ربكم بالكذب كيف كنتم تقولون ؟! وهل يجوز هذا عندكم ؟! وفي عقولكم أن يكون للصادق أن يفعل شيئا، ثم يقول لغيره: أنت فعلته! ولو جاز أن يكون فاعل هذا صادقا، جاز أن يكون من فعل شيئا وجاء به، وقال: أنا جئت به أن يكون كاذبا، مع أن الله تبارك وتعالى، قد عاب فاعل ذلك وذمه، فقال: { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا، فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا } [النساء: 112].
وإن زعم أن الكفر جاء به من لم يخلقه، ومن خلقه لم يجئ به خرج من المعقول، ولزمه أن يقول: إن من لم يخلق الموت هو الذي جاء به، ومن خلقه لم يجئ به، وهذا خروج من عقول الخلائق.
فإن سأل سائل عن قول الله تبارك وتعالى:{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } [الأعراف: 179]. فقال: إذا كان قد أخبر أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس، كيف يزعم أنه خلقهم لعبادته ؟ وإلا فبينوا ما تأويل الآية عندكم ؟!
Shafi 377
فأول ما نجيبه أن نقول له: ينبغي أن تعلم أن كتاب الله لا يتناقض ولا يختلف، ولا يكذب بعضه بعضا، لأن الاختلاف لا يأتي من عند حكيم، وقد قال تبارك وتعالى:{ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } [النساء:82]. فإذا علمت أن ذلك كذلك، فقد وضح لك الأمر، أمر الآية من قبل أنه أخبرنا أن خلق الإنس والجن لعبادته، وقال في موضع آخر:{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس}. ثم أخبرك من هم فقال: { لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها...... } [الأعراف: 179] إلى آخر الآية. فينبغي لك إذا ورد عليك شيء من كتاب الله، مما ذهب عنك معناه، أن تسأل عنه العلماء، فإن الله عز وجل، يقول:{ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [النحل: 4]. وقال:{ إنما يخشى الله من عباده العلماء } [فاطر:28]. وليس ينبغي لعاقل أن يدع ما علم لما جهل، وليس لك أن تشك في الواضح إذا ذهب عنك الخفي، فينبغي للعاقل أن يتمسك بالواضح من كتاب الله، وبالمحكم من كلام الله، فإن في ذلك تبيانا وشفاء لمن طلب الحق وأراده. وقد رغب الخلق في التمسك بالمحكم من كتابه، فقال: { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، يقولون آمنا به } [آل عمران: 7]. وأنا مخبرك بتأويل الآية: قال بعض أهل العلم: إن معنى قوله:{ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس}. يريد الإعادة ولم يرد ابتدأهم لجهنم. ألا ترى أنهم كانوا في الدنيا يتمتعون ويأكلون !
Shafi 378
ولكن لما علم تبارك وتعالى، أن أكثر عاقبة هذا الخلق يصيرون إلى جهنم بكفرهم، جاز على سعة الكلام ومجاز اللغة:{ ولقد ذرأنا لجهنم }. وإن كان إنما خلقهم في الابتداء لعبادته، وذلك جائز في اللغة. وقد قال نظير ما قلنا في كتابه في موسى، عليه السلام، قال:{ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا } [القصص: 8]. وإن كانوا إنما التقطوه ليكون لهم قرة عين، وهكذا حكى الله عن امرأة فرعون، إذ قالت:{ قرة عين لي ولك، لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } [القصص: 9]. ومثل قوله:{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا } [النساء:10]. لما كان عاقبة أمرهم إلى ذلك، وإن كانوا لا يأكلون في الدنيا إلا الأخبصة، والفالوذجات، والأطعمة الطيبة.
وقد قال الشاعر ما يدل على ما قلنا من ذلك:
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
وللحتوف برى الأرواح باريها
وللمنايا تربي كل مرضعة
والوجه الثاني قال فيه بعض العلماء: إن معنى قوله:{ ذرأنا لجهنم كثيرا }: خلقنا، ومعنى خلقنا: على أن سنخلق، وليس على قد خلقناكم في الابتداء لجهنم، وإنما أراد به في القيامة، كما قال:{ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } [الأعراف:44]. على معنى سينادون، وكما قال:{ قال الذين استضعفوا للذين استكبروا } [سبأ:33]. إنما يريد الله بقوله سنخلقهم بمعنى الإعادة، وهو يوم القيامة في النشأة الأخرى، فهذا تأويل الآية.
وإنما يدخلون جنهم بأعمالهم جزاء بما كانوا يكسبون، وجزاء بما كانوا يكفرون، وجزاء بما كانوا يعملون، قال الله عز وجل:{ لهم قلوب لا يفقهون بها } [الأعراف:179]. يعني لا يتفقهون بها، وقد كانوا يفقهون ما يقولون، ويبصرون ما هو ألطف من الخردل، ويسمعون ما يريدون، ويستثقلون ما لا يريدون. فعلى هذا المعنى تأويل الآية، وكل آية تشبهها.
ومن سألك فقال: من خلق الشر ؟!
Shafi 379
فقل له: إن الشر على أمرين: شر هو ألم وأذى وعذاب، وشر هو ظلم وجور وكذب وعيب.. فعن أي الشرين تسأل ؟
فإن قال: عن الظلم والجور.
فقل: إن الظلم من أفعال الظالمين، والجور من الجائرين، والكذب من الكاذبين.
فإن قال لك فالجور من خلقه ؟
فقل له : لم نقل إنه مخلوق، فتسألنا عن خالقه. فإن قال لك: فلم يخلق الله الكذب، والجور ؟!
فقل له: إن معنى خلقه: فعله، والله لم يفعل الجور والكذب والظلم، لأن الجور والكذب لا يفعله إلا كاذب جائر ظالم.
فإن قال: ما دليلك على أن الحمى والألم شر ؟
فقل له: دليلي على ذلك قول الله تبارك وتعالى:{ ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء:35]. وقوله:{ وإذا مسه الشر جزوعا } [المعارج:70]. وقول القائل: لم أزل البارحة في شر طويل، من حمى ووجع ضرس، أو أذن، أو بدن، على ما قال المتوجع.
ثم يقال له: أخبرني عن الخير والشر، كله من الله ؟!
فإن قال: نعم.
يقال له: وإذا كان الخير كله من الله، فهل كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخير أيضا ؟
فإن قال: نعم. ترك قوله، وزعم أن النبي فعل خيرا، وفعل النبي غير فعل الله. فإن قال: لم يفعل النبي خيرا، فقد شك في الحق وكفره، وجحد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وجهله.
ثم يسأل عن إبليس، يقال: كان من إبليس شر قط ؟
فإن قال: نعم. ترك قوله. وإن قال: لا. فقل له: فلا ينبغي لك أن تستعيذ من شر إبليس، لأن من استعاذ من شره فهو أحمق عابث، وإذا استعاذ من شر من لا شر له فقد جهل. هذا مع قول الله عز وجل:{ قال أعوذ برب الفلق... } [الفلق:1] إلى آخر السورة.
ومن سأل عن ولد الزنا، من خلقه ؟ فيقال: الله خلق ولد الزنا وولد الكافر، والناس أجمعين.
Shafi 380
فإن قال: فأراد الله أن يخلقه ؟ فيقال: نعم. فإن قال: فقد أراد الله الزنا ؟! يقال: إن ولد الزنا غير الزنا، والله لم يغضب من ولد الزنا، وإنما غضب من الزنا، وكذلك لم ينه الزاني عن الولد، وإنما نهاه عن الزنا، فما نهى الله عنه فليس من الله، وما لم يرده فليس منه.
فإن قال: فيكون ولد إذا لم يزن الزاني ؟
يقال له: يكون الولد بأن يتزوج، فيكون الولد على غير الزنا.
فإن قال : الولد الذي بعد الزنا كان يكون إلا من الزنا ؟ يقال له: قد أخبرناك أن الولد لم يكن من الزنا، وإنما كان لأن الله خلقه. فإن قال: فلو لم يزن الزاني، كان الله يخلقه ؟! يقال: لا ندري بعد، الله كان يخلقه ولو ولم يزن، كأن يتزوج.
فإن قال: أرأيتك إذا زعمت أن الله أراد أن يخلق ولد الزنا ولم يرد الزاني يزني، كيف يكون ذلك ؟ يقال له: مثل ذلك: رجل اغتصب أرض رجل، فبذر فيها، وأراد الله أن ينبته، فالله هو أراد أن ينبت الزرع، ولم يرد الرجل أن يبذر في أرض غيره.
فإن قال: فما معنى هذا ؟ يقال له: مثل ذلك: رجل زنى وسرق فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقطعه وأن يجلده ولم يرد أن يسرق ولا يزني، فإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقطعه ولا يجلده حتى يسرق ويزني، فكذلك لم يرد الزنا، وإن كان الولد لا يكون إلا بعد الزنا.
تم الكلام والحمد لله ولي الأنعام. وصلى الله على رسوله محمد وآله الكرام، وحسبي الله وحده وكفى، ونعم الوكيل.
Shafi 381