رجل قال: والله لا أشرب من الفرات. إن شرب كرعا حنث، وإن شرب بآناء لم يحنث وذلك أنه إذا قال من فمن هنا لابتداء الغاية ولا يكون للتبعيض فلو أنها للتبعيض كان لا يحنث أبدا لأن الفرات اسم للأرض وليست باسم للماء فلو كان الفرات اسم الماء لكان المسمى ذهب وما أتى لم يسم وأنت إذا قلت أتيت الفرات لم ترد أنك أتيت الماء ولكنك تريد أنك أتيت البلاد التي على النهر فالنهر اسمه الفرات لا الماء فكأنك قلت والله لا أشرب من هذا الكوز ولو قلت هكذا لكانت يمينك على الشرب من الكوز لا على ما في الكوز فلو صب ما في الكوز في كوز آخر وشرب منه لم يحنث والنهر كما علمت اسم للحفرة المستطيلة كما قيل سيف منهر لم يرد أن الماء يجرى فيه ولكنه أراد المفقر ومنه سمى سيف النبي صلى الله عليه وسلم ذا الفقار ولو كان قال لا أشرب من ماء الفرات فإن شرب منه أو من إناء نقل من الفرات أو شرب بكفه حنث لأنه أضاف الماء إلى نهر مخصص لأنه لو كان اسما للماء لم يجز إضافته إليه كما تقول ماء الفرات فلو كان الماء اسمه الفرات لما قلت هذا ماء الفرات وإنما كنت تقول الفرات لأن الشيء عندهم لا يضاف إلى نفسه كما لا تقول هذا غلام غلام ولكنك تقول هذا غلام زيد فيضيف الغلام إلى زيد كأنه قال لا أشرب من هذه الماء الذي في هذا الكوز فسواء شرب منه أو من إناء آخر نقل إليه منه حنث ولو قال لا أشرب من هذا البئر يحنث إذا شرب بإناء. الفرق بينهما أن البئر غير مقدور على الشرب منها على الحقيقة فصار كأنه حلف مجازا كما لو قال: والله لا آكل من هذه الشاة فاليمين على لحمها لأنه يقدر على أكلها حقيقة ولو قال لا آكل من هذه النخلة، فاليمين على ثمرتها لأنه لم يقدر على أكل عينها حقيقة، فحمل على المجاز فكذلك الفرق بين الفرات والبئر.
واعلم أن العرب إذا وجدت الحقيقة في كلامهما لا يعدلون عنه وإذا لم يجدوا الحقيقة حملوا كلامهم على المجاز المتعارف فإذا لم يجدوا حملوا على المجاز فأما الحقيقة إذا قال رجل هذا أسد لا يشكون أنه رأى عرباضا ولو قال زيد الأسد حمل على المجاز إذ كان الحمل على الحقيقة متعذرا قال الله تعالى: وأزواجه أمهاتهم
فلم يرد أنهن أمهاتنا لكنه حمله على المجاز فلما جاء إلى الحقيقة قال: إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا
وأما المجاز المتعارف فقوله تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط*
فإن أحدنا لو جاء الغائط ألف مرة لا ينتقض وضوءه وإنما جعل الغائط كناية عن الحدث وإن كان الحدث أيضا مجازا إلا أننى استقبحت أن أذكر الحقيقة إذ لم أجد له في العربية اسما حقيقيا إلا اسما واحدا وأما المجاز غير المتعارف فقولهم الوطء يكون على الوطء بالقدم على الحقيقة وكناية عن الجماع قال الله تعالى: وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها
والمراد منه الجماع لأنه لما قال أرضهم وديارهم كفى في البلاد وأرضا لم تطؤها يعنى النساء.
مسألة
رجل قال: أن خرج فلان من هذه الدار حتى آذن له فعبدي حر. فأذن له مرة ثم خرج بغير أمره لا يحنث لأن حتى تكون للغاية فإذا قال حتى آذن له فكأنه قال غاية ذاك إذني له قال الله تعالى: فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي
فلو كان أبوه أذن له مرة لم يحتج إلى إذن ثان. ولو كان قال إلا بإذنى احتاج إلى الإذن في كل مرة. ألا ترى إلى قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
فيحتاج إلى الاستئذان في كل مرة.
والفرق بينهما أن المسألة الأولى جعل لها غاية بقوله حتى. فإذا انتهت غايتها سقطت كأنه قال لا أكلمك حتى يدخل رمضان فإذا دخل رمضان جاز له الكلام من غير حنث لأنه جعل رمضان غاية ليمينه. وأما الإذن فقال تعالى: آمنتم له قبل أن آذن لكم*
Shafi 12