وأن التناقض يظهر واضحا جليا، عندما نجد أن أي محاولة لمناقشة أزلية النص تتهم فورا بالكفر والإلحاد، وفي الوقت ذاته، ودون أن يطرف لهم جفن يأخذون قضية النسخ من المسلمات، ومن لا يؤمن به كافر بدوره، ولا نجد مبررا لكلا الموقفين المتناقضين غير الإبقاء على بدائل تظل دوما متاحة للتخديم على المصالح وقت الحاجة، حتى لو كانت تلك المواقف شديدة التناقض.
وللحق، فإن الإصرار على وقوع النسخ هو موقف حق، لكنه يحتاج في الجانب الآخر التنازل عن المفهوم السائد حول الأزلية والثبات، ومن النماذج التي تشير إلى التمسك بوقوع النسخ على سبيل المثال، ما جاء عند شيخ علوم القرآن «جلال الدين السيوطي» في قوله: «قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله تعالى إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ. وقد قال علي رضي الله عنه لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت.»
كذلك ما ورد عن «أبي جعفر النحاس» في قوله: «ومن المتأخرين من قال: ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ. وهذا قول عظيم جدا يئول إلى الكفر.»
وهو ما صادق عليه «الدكتور شعبان إسماعيل» وكيل الأزهر بقوله: «وأهمية معرفة النسخ تتضح مما يأتي: أولا: أن أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين جحدوا وقوع النسخ وهو واقع، وثانيا: أن الإلمام بالناسخ والمنسوخ يكشف النقاب عن سر التشريع الإسلامي، ويطلع الإنسان على حكمة الله في تربيته للخلق وسياسته للبشرية، وثالثا: أن معرفة الناسخ والمنسوخ ركن عظيم في فهم الإسلام، والاهتداء إلى صحيح الأحكام، فالمنكرون لوقوع النسخ في القرآن الكريم يخالفون صريح النص القرآني والسنة النبوية الصحيحة وإجماع المسلمين.»
وتأسيسا على ذلك، يصبح إنكار النسخ لونا من الكفر الصريح، والنسخ إنما يعني تاريخية النص وتفاعله مع واقعه وارتباطه بظروف ذلك الواقع، وفي الوقت ذاته فإن إنكار عكس ذلك ورفض الأزلية والثبات كفر بدوره وهو ما يتبناه الشيخ الغزالي هذه الأيام، وبين الكفرين يضيع المسلم ولا يبقى سوى أن يركن لمن يفسرون له الحكمة في التناقض، بالتعتيم على الإشكالية، لاستخدام المتناقضين حسب الحاجة والطلب والمتغيرات، دون احترام مطلوب لذلك النص الرفيع، الذي تأكدت تاريخيته درسا تربويا للمؤمنين به، تلك التاريخية التي أكدتها نصوص القرآن الكريم ذاتها بما لا يحتمل لبسا أو تأويلا.
كشف الخدع فيما جاء به الخطاب الديني من بدع1
هل يبدو العنوان مستفزا؟ لا شك أنه كذلك لأول وهلة؛ لأننا نخلط بشكل غير واع بين الدين بقداسته التي تمثلها كتبه الموحى بها، وبين الخطاب الديني الذي يستخدمه كل من هب ودب للدفاع عن قضيته، حتى لو كانت أشد القضايا بطلانا، وهو الخلط الذي انسحب من الدين على الخطاب الديني، وعلى أصحاب هذا الخطاب أنفسهم، الذين عمدوا إلى تأكيد ذلك المعنى، بالخلط المقصود بين الدين في ذاته وبين خطابهم المصلحي! حتى أصبحوا ينعمون في نظر العامة على الأقل بهيبة مستمدة من قداسة الدين، وبخوف خرافي من الزي (اليونيفورم) الذي يرتديه رجل الدين المتكهن عادة، وهو ما ساعد أصحاب الخطاب الديني، دوما على خداع الجماهير ضد مصالحها، وتبرير أفظع المظالم، وتمرير أشد الفظائع إثما، باعتبارها مشروعة دينيا، وهو الأمر الذي تدلل عليه إطلالة سريعة على تاريخ الأنظمة «الثيوقراطية»، سواء في أوروبا أو في بلادنا، عندما كان الناس يحكمون بمساندة رجال الدين، أو بهم مباشرة، خاصة عندما يدعون لأنفسهم قميصا سربلهم الله به، أو حقا إلهيا مزعوما، وسواء كان ذلك الدعي بابا أم سلطانا أم خليفة أم امبراطورا.
ومن نكد الدهر أن نعي هذا الخلط، ونظل فيه سادرين، ومن ثم فإن ما نسمع ونقرأ من كلام مرسل، لم يستطع أن يفرق بوضوح بين الدين وبين المشتغلين بأمور الدين، وبين الدين وبين الخطاب الديني، وبين الدين في ذاته كمقدس، سر تقديسه الوحي الإلهي، وبين الفكر الديني الذي يشرح أو يفسر أو يضيف أو يئول أو يستخدم ذلك الوحي لمأربه أو لوجه الله.
والمثال الأوضح هنا، أننا نعلم جميعا ولا شك لحظة أن الوحي القرآني هو كلمة الله الواحدة الثابتة، ومع ذلك فإننا وجدنا عبر متغيرات سياسية واجتماعية، من كان يبرر لنا النظام الاشتراكي بالقرآن والسنة والقواعد الفقهية، ثم جاءنا من يبرر الاقتصاد الحر ويكفر الاشتراكية والاشتراكيين، وبتغيير الأحوال عبر الأيام، وتداولها بزوال نظام اقتصادي اجتماعي وقيام آخر؛ كنا نجد لدى الخطاب الديني مشروعية كاملة لمحاربة دولة إسرائيل، بينما نجد في زمن كامب ديفيد كل المبررين يتقدمون بدلائهم السلمية وآرائهم الشرعية، التي تؤكد أنهم ما داموا قد جنحوا للسلم، فعلينا أن نجنح لها ونتوكل على الله (؟!). وفي حرب الخليج وجد نظام صدام من رجال الدين في مختلف أنحاء بلاد لا إله إلا الله العدد الكافي لتبرير مواقفه، وعلى الجانب الآخر وجد المتحالفون ضده (من المسلمين تحديدا؛ لأن الأمريكان لم يفعلوها) من يبرر لهم موقفهم تبريرا شرعيا.
وهكذا مع شديد الأسف، نهدر قيمة الوحي الصادق، ونتعامل معه «بفهلوة»، تبرر ما نريد، وترفض ما لا نحب، وتدافع عن ظلم، وتقرر لمواقف شديدة التنافر مصداقيتها الدينية، وهو الأمر الذي يستهين بالوحي الإلهي، ويجعله مطية لكل الأغراض، ويمتهن كلمة الله الصادقة، دون أن يرف له جفن، وهذا هو بالتحديد ما نقصده بما جاء به الخطاب الديني من بدع، ليست من صحيح الدين، ولا من سلامة الضمير ولا الإيمان.
Shafi da ba'a sani ba