أما اليوم والسيوف مسلولة وأفواه المدافع مفغورة، والموت يتخطف بلا حساب من البر والبحر والهواء، فهؤلاء شبابنا بل هؤلاء كهولنا يتبارون جاهدين في إدراك الشرف بحمل السلاح، فإذا شيعهم أهلوهم فكما تزف العروس، وماذا أبعد أرن «الزغردة» وأحلى الغناء؟
نحن في نهضة قومية جليلة، أرجو أن تجدي علينا أول ما تجدي قسوة شعورنا بالواجب، ومسارعتنا بباعث من أنفسنا إلى القيام به؛ لأنه الواجب لا طمعا في ثواب ولا خوفا من عقاب، وأن يكون ذلك الفتح في القريب جدا إن شاء الله.
في الإصلاح أيضا
سمعت من الراديو في ليلة من ليالي هذا الأسبوع أن زعماء الأحزاب في إنجلترا وقادة الرأي فيها، قد اجتمعت نيتهم على أن يقوموا بحملة شديدة في جميع أرجاء الجزيرة يشرحون فيها للشعب الإنجليزي أغراض الحلفاء من الحرب، وكيف خاضوها ولماذا غامروا فيها؟
أما أن زعماء الأحزاب على اختلاف مذاهبهم وتفرق نزعاتهم، يتفقون على هذا ويبادرون إليه، فذلك ما لم يقع عندي موقع عجيب؛ لأن وطنية الإنجليز هكذا وخاصة في الأيام الشداد؟ وإنما الذي استرعى كل عجبي أن الشعب الإنجليزي المثقف المستنير، ما برح في حاجة إلى من يقفه على السبب الذي حمل دولته على الاشتباك مع الألمان في هذه الحرب الضروس.
على أن عجبي لم يطل، فإن الحلفاء إنما أعلنوا الحرب باسم الديموقراطية، وإنما حشدوا جميع قواهم وكل كيدهم لقمع الدكتاتورية الصائلة المعربدة في الأرض، والتي إذا تركت وشأنها لا تنتهي عربدتها وعصفها بالأمم الوادعة عند حد، فمن حق هذه الديمقراطية على الرجال المسئولين أن يراجعوا الشعب نفسه، ويدلوا إليه بحجتهم فيما أقدموا عليه، وما يجشمونه في سبيله من التضحيات الضخام، وأن يبينوا للناس ما عسى أن يكون قد تبهم عليهم من العلل والأسباب حتى يحيطوا بالجليل والدقيق مما لا يضر في علم الجمهور به وظهوره عليه، وفي هذا فوق ذلك ما فيه من زيادة الاستحماس للحرب، والشد على العزائم للقضاء على العابثين بالحضارة والمفسدين، وأقول زيادة لأنه بحسب وطنية الإنجليز أن يسمع من حكومته وبرلمانه النفير إلى القتال ليركب رأسه أو يحتويه ميدان، سواء في البحر أو في الأرض أو في السماء!
ولا يذهب عنا بعد ذلك أن من أخطر الأسلحة التي يقاتل بها الألمان إن لم يكن أخطرها جميعا، هو سلاح الدعاية الذي لا يتحبس ولا يتوقف، ولا يسكن ولا يبرد ولا يهدأ ولا يفتر، والذي يسلكون به كل بلد ويرمون به كل قرية، وينفذون به بالراديو إلى كل بيت ووسيلتهم فيه هي الكذب المتوالي، والإفك المتدارك مصورا في صور ومجلوا على أشكال وأوضاع، قصدا إلى توهين العزائم وإظلال النفوس باليأس، ولا تنس النصيحة الترابية القاتلة: اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب!
وإذا كان الإنجليز هو آخر من تبلغ فيه مثل هذه الدعاية أو تنال من عزمه الجبار على الصراع، وخاصة إذا كان صراعا لمجد الإمبراطورية فلا شك في أن من الخير ألا يترك هذا الوطني الشجاع المتطوع، وفي نفسه من أغراض الحرب التي يحتسب فيها بدمه شيء أو أشياء!
إذن فليس من العجيب أن يجرد من زعماء الأحزاب الإنجليزية وغيرهم من أعلام الرأي حملة لهذا الغرض أو حملات، ولكن العجيب كل العجب ألا نصنع نحن مثل هذا ونحن أحوج إليه بأكثر من الكثير!
وإني أبادر فأقرر أن حملاتنا التي من هذا الطراز لا يحتاج - والحمد لله - إلى تظاهر الزعماء السياسيين واشتراكهم في هذا السعي؛ لأننا لسنا بحاجة إلى من يدلي إلينا بالأغراض التي من أجلها دخلنا الحرب؛ لأننا لم ندخل بعد حربا، أما استحماس الجماهير وشد عزائمه لخوض الحرب إذا أذن النفير فإنه ليغنينا في ذلك: «يا قاعد في دارك والعالم في نار.» وأخواتها فقد انتفخنا استحماسا بكثرة الاستماع إليها كل يوم، في الصبح والظهيرة والأصيل ومغرب الشمس، وفي جوف الليل، حتى أصبحنا لا ندري أين ننفث بعض هذا الذي يغلي في صدورنا من شدة الاستحماس!
Shafi da ba'a sani ba