ولعل هذا مما كان داخلا في تقديرك أيضا، فأبت همتك إلا أن تسدي إلي هذا الجميل أجزاك الله عني أعظم الجزاء!
هناك يا صديقي سؤال يضطرب في صدري ولا يجد له متنفسا من جواب: لقد كنت أعلم وأنا من أهل الدنيا وازددت يقينا حين صرت إلى الآخرة أن السيد المسيح - عليه السلام - كان أكبر مظاهر رسالته الرفق والرحمة، والمحبة والسلام، والعفو عمن جنى والصفح عمن أساء، ولقد كان عليه السلام، أول رسول لم يؤيد بمعجزة من عصف أو خسف، وإغراق أو دمدمة، أو ريح عاصفة، أو رجفة قاصفة، وإنما كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتي بإذن الله. وليس وراء هذه الرحمة رحمة، وليس أبلغ من هذا في باب العطف على الإنسان، فهل من الفضائل المسيحية التي تتشادق بها أنت ومعشرك، والتي تزعمون أنكم ما شهرتم هذه الحرب على خصومكم إلا لتسودوها في العالمين - هل من هذه الفضائل أن تمثلوا بشيخ مثلي هذا التمثيل، وتقتلوه بصورة لم تعهد في تاريخ التذبيح والتقتيل؟
لا والله! لقد برئ منكم المسيح الرحيم النبيل، وبرئت منكم التوراة والإنجيل!
وبعد، فاعلم يا هذا الرجل ولعلك الآن إن شئت تعلم، اعلم أن الله تعالى يمهل ولا يهمل، وهو للظالمين بالمرصاد وإنه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
ولقد أملى لك وأمهلك وما أمهلك ولا أملى لك، إلا ليزيد لك في العقاب، ويضاعف لك العذاب ففسح لك في الأمل، وأدنى منك كرائم المنى وقطع في نفسك جميع علائق الشك في أن ستكون الغازي الفاتح الذي يرد لقومه ملك الرومان القديم في غير مشقة ولا جليل عناء، حتى خلت نفسك كذلك، وتسلقت الزهو به، وتقبلت الهناء عليه.
نعم، لقد أذنت وأذن معشرك لا في بلادكم وحدها، بل في جميع رقاع العالم، بأن مصر والقناة التي تسلكها بين البحرين، وأن السودان من قسمكم، كما أضحت الحبشة والصومال والأريتريا من حر ملككم، لا ينازعكم على ذلك منازع، ولا يستطيع أن يدافعكم عن شيء منه مدافع، ولقد سكنتم إلى هذا واطمأننتم إليه، وخلتم أنكم قد فرغتم من الشغل به وما لكم تشغلون البال بما حصل في أيديكم، ومكنت لكم القوة الساطية منه تمكينا؟
أمهلك الله وقومك وأملى لكم، حتى بلغتم من حسن الظن بالأيام هذا المدى، أليس أعداؤكم الإنجليز قد خشوا بأسكم فسبقوا إخلاء وجه الصومال لكم، كما خلوا بينكم وبين السلوم وسيدي براني، فاحتللتموهما في غير جهد ولا قتال؟
إذن لقد تم الأمر لكم، فأنتم ولا محالة بالغو قصارى مناكم في يسير من الزمان، حتى لقد واعد كثير من جندكم خطيباتهم قضاء شهر العسل، بعد أسابيع أو بعد أيام على ضفة النيل، والنعيم في واديه الجميل.
ثم ما فعل الله يا ماريشال بإمبراطورية الرومان؟
هذا قرينك «ويفل» يضربك في كل نهار ضربة، فلا يقنع بأن يسترجع منك سيدي براني والسلوم، بل إنه ليغير على ملككم في لوبيا، فتفتح بلادها مدينة بعد مدينة، وليتولى على حصونها واحدا بعد آخر، ويأسر حامياتها التي حشدت فيلقا بعد فيلق، ويغنم من المدافع والدبابات والذخائر وسائر آلات الحرب وعتادها لو كنتم تعاقدتم من قبل مع إنجلترا على أن تورده مصانعكم إليها بالثمن العاجل، لعجزت في هذه الفترة عنه ولم تستطع على شدة حاجتها إلى المال الوصول إليه!
Shafi da ba'a sani ba