أما الحرب في هذا العصر، فقد صارت إلى ما ترى، وهي إن امتازت بشيء فأبرز ما في وجوه هذا الامتياز أن ضحاياها وصالي حرها من المستأمنين الوادعين، أصبحوا أكثر كثيرا ممن تجردوا للقتال، واستنفروا للكفاح والنزال، بل لقد تعدل الموبقات القواصف من الطائرات عمدا عن المسالح ومستودعات الذخائر وثكنات الجند، وغير ذلك من أسباب الحرب إلى دور المستأمنين، حيث المرأة ترضع ولدها وحيث الرجل الذي نام ليستجم للعمل من بكرة الصباح إلى غاية النهار الأطول، سعيا على الأم الشيخة والزوج والطفل الثلاث أو الأربع، وحيث المريض المدنف يتلوى على الجنبين من ألم وعذاب، لقد تعدل تلك المدمرات القواصف إلى هؤلاء عمدا، وتزلزل عليهم الأرض زلزلة وتدمر الدور تدميرا، فإذا هؤلاء أجزاء تتناثر، وأشلاء تتطاير فمن سلم منهم على الموت، فليستقبل حياة شرا من الموت.
فإذا جاءك أن الإسلام فتح كل هذا الفتح، وملك كل هذا الملك، وانبسط له على وجه الأرض كل هذا السلطان في أقل من قرن واحد، فإن السر لا يعدو ما قدمناه لك من قوة الإيمان، وإشاعة العدل بين الناس وإيثار الرقة والرحمة بالإنسان وبالحيوان!
وإذا طلعت عليك الأنباء في كل صباح وكل مساء بأن الجيش اليوناني الصغير الضئيل لا يفتر لحظة واحدة عن صفع الجيش الطلياني الضخم الكثيف باليد، وركله بالرجل إذ لا يكاد يرى فيالقه وكتائبه إلا من الأقفاء من انهزام بعد انهزام، إذا طالعتك الأنباء كل ساعة بهذا فصدق، وأحل الأمر كله على قوة الإيمان بحق الوطن المعتدى عليه بغير إثم ولا عدوان!
فإذا قال لك قائل: لقد ذهب عنك ما فعلت القوة القوية من اجتياح للممالك وقبض على نواحي الشعوب، واستصفاء لأموال الأمم، وامتصاص لدمائها واتخاذها عبيدا فقل له: لا تعجل بالحكم، فإن الله ليملي للظالم، ولتعلمن نبأه بعد حين.
كتاب مفتوح
من عمر المختار إلى الماريشال جرزياني
عزيزي الماريشال
أكتب إليك هذا وأنا حق واثق من أنك لم تنسني، بل حق واثق من أنني وخاصة في هذه الأيام، أتمثل لك سواد الليل وبياض النهار، ومهما يكن من أمر فإن آخر لقائنا لم يمض عليه من الزمان ما ينسي الصديق عهد الصديق !
أتذكر، يا عزيزي ذلك اليوم الذي جاءوك بي وأنا مقرن في الأصفاد، فتقدمت إلى أحراسك أن يلقوني في الطيارة التي أشرت بإعدادها لمهم لم تقم به طيارة من قبل، وسرعان ما حلقت بي تشق أجواز الجو طبقة بعد طبقة حتى كادت تصك وجه الشمس، ثم قذف بي من ذلك الحالق قذف النواة، لا رحمة ولا إشفاق!
وإن أعجب لشيء وإن أفرح بشيء فبطيارتكم التي بلغت هذه السرعة الهائلة، بحيث تحمل المرء من هذه الدنيا فتبلغه جنة عدن فيما دون عشر دقائق!
Shafi da ba'a sani ba