ولقد يقع أن يعتريك أحد هؤلاء الشحاذين «المودرن» في دارك، أو في مثوى عملك أو في المقهى، إذا كنت ممن يثوون إلى المقاهي، وقد بسط يده وفيها حفنة من الدراهم، ويباديك بأن ما في يده هو أقصى ما في جهده من قسط المدرسة، وأنت أبر وأكرم من أن تدع الولد يطرد من المدرسة ويحرم من نعمة العلم في شيء يسير لا يضرك ولا يتحيف مما أفاء الله عليك من النعم!
ومن أظرف ما سمعت، والعهدة على الراوي، أن هذا الشحاذ الغيران على تعليم ولده وتثقيفه قد لا تكون في يده هذه المصيدة، وأعني بها المائة والخمسين قرشا، والمائة والسبعين التي تنقص باقي القسط فيستعيرها من بعض رصفائه، كما كان فساد أولاد البلد يستعرن من الجارة الغربال والمعجن - ماجور العجين - على أن يرد إلى أصحابه بعد قضاء الحاجة منه!
وقد حدثني من لا أشك في خبره أنه كان ذات يوم ساعيا مجدا في الطريق، فلمحه رجل من هؤلاء يعرفه فركض خلفه حتى أدركه، وحلف له بكل محرجة من الإيمان أنه قد مضى عليه وزوجه وأولاده الخمسة ستة أيام ما ذاق أحد منهم لقمة واحدة، فقطب صاحبي وجهه واصطنع الجد، وقال في حدة وعنف: اسمع يا هذا! إنني إذا أطعمتك وأهلك وولدك أكون أكبر مجرم في العالم.
فقال له الرجل: وكيف ذلك؟ قال: أنت تعلم أنني لن أعولكم أبد الدهر، وكل ما يسعني هو أن أمدكم بثمن وجبة أو وجبتين، قال الرجل: ولسنا نطمع في أكثر من هذا، فقال صاحبي: أبعد أن عانيتم في طريق الموت جوعا ما عانيتم، حتى لم يبق بينكم وبينه إلا ساعات معدودة تبلغكم نهايتها الراحة الكبرى من هذه الحياة الأليمة، أردكم إلى الحياة ثانيا لتعانوا في طريق الموت ما عانيتم، وتعاودوا هذه الآلام التي جازت بكم؟ أفصدقت أنني إن فعلت أكون أكبر مجرم في العالم!
ومن أعجب ما يذكر في هذا الباب أنه في أحد العشايا من الأسبوع الماضي، قد اعترضني في بعض الطريق رجل لا يخلو سمته من تجمل، وثيابه من تأنق وحلف لي بكل مؤثمة من الإيمان، أنه قد احتسب ولده في الصباح الباكر ولا يزال مسجى في البيت؛ لأنه لم يجد نفقة تجهيزه ودفنه، وأسرع تأكيدا لقوله، فدس في يدي ورقة فإذا هي ترخيص بدفن «فلان» ولم يرعني إلا أن تاريخ هذا الترخيص يرجع إلى أكثر من ستة أشهر.
حقا لقد راعني وهالني، وكاد يذيب كبدي، أن تظل جثة هذا الغلام المسكين رهن البيت، هذه المدة الطويلة، ومن يدري فلعلها تظل كذلك مدة أطول؟ وانطلقت لوجهي وأنا ألعن بلساني وقلبي قسوة هذا الإنسان، حتى على الأموات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وبعد، فإنني الآن أستطيع بدوري أن أحلف في غير إثم ولا حرج على أنه ما قدم قادم من الإسكندرية فاستل الطرارون كيس نقوده، ولا كان ولد في المدرسة حل القسط من نفقات تعليمه، ولا قامت مدرسة تعلم اليتامى وأبناء الفقراء بالمجان أو بغير المجان، ولا كان هناك زوجة ولا خمسة أولاد جياع أو غير جياع، ولا ولد في الدار ميت ولا من الأحياء ... إلخ. إن هي إلا شهوة التبطل، والعيش، وإصابة اللذائذ، وإدخال المسرح على النفس بفنون المكيفات وكل أولئك على حساب العاملين، وقد يكون فيهم العليل المكدود، وقد يكون فيهم من يعييه ويرهقه السعي على الأهل والولد، وقد يكون فيهم من يجهده المعروف بصلة المحتاج من ذوي القربى أو المسكين حقا أو اليتيم المحروم!
فعليكم أيها العاملون أن تضاعفوا السعي مهما يجهدكم السعي، وأن تقبضوا أيديكم عن الإنفاق على الأهل والولد، وألا تبسطوها للمحتاجين من ذوي القربى أو تمدوها بالمعروف لليتيم المحروم، وإن كل ما تجمعونه بالسعي والكد ينبغي أن تحفظوه في أيديكم عامة نهاركم وصدرا من ليلكم، حتى إذا أوقعت المصادفة على أحدكم عين شرخ من هؤلاء المتبطلين أسرع فادفعه إليه غير مأجور ولا مشكور!
الكذب الفني
لا شك في أن الكذب يعد من الرزائل في كل زمان وفي كل مكان، بل لا شك في أنه من أخبث الرذائل جميعا، بل لا غرو على من يذهب إلى أنه أخبث الرذائل جميعا.
Shafi da ba'a sani ba