180

والعجب أن عثمانيا لم تطل خلافته كما طالت خلافة عبد الحميد، والأعجب أن استبدادا وعسفا وتخريبا لم يقس في تلك المملكة كما قسا الاستبداد والعسف والتخريب في عهد عبد الحميد، ولم يخرج عنها من ولاياتها ولم يقتطع من أملاكه كما خرج واقتطع في عهد عبد الحميد، وأعجب الأعجب بعد هذا كله أن جمهرة المصريين لم يحبوا أحدا كما أحبوا عبد الحميد، ولم يدينوا بالولاء الحاد للإنسان كما دانوا لعبد الحميد، ولولا بقية تمسكهم من دين لعبدوه مع الله أو لعبدوه من دون الله، والعياذ بالله، وأستغفر الله العظيم!

وذلك الحب المتمكن من النفوس، والمتغلغل في القلوب يرجع إلى أسباب لا محل لبسطها في هذا المقال، وكيفما كان الأمر فإن السلطان عبد الحميد لقد بلغ من نفوس المصريين على الخصوص موضع التقديس والتنزيه، حتى إذا لاح في خاطر المرء لائح من الأفكار لبعض حكمه وتصريفه، أسرع فرده واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم!

ولم يكن أعوان السلطان على إدارة الشئون وتصريف الأمور هم الوكلاء - الوزراء - ولا من دونهم ممن يشغلون عليا المناصب في الدولة، بل لقد كان الرأي قسمة بين السيد أبي الهدى الصيادي - من مشايخ الطرق الصوفية - والشيخ ظافر «شرحه» وعزت «باشا» العابد، ولا أدري ماذا كان منصبه، ولا تنس نفوذ الباش مصاحب - الباش أغا - أو كبير الخصيان في قصر السلطان، أما آخر من يتحدث عن أي أمر من الأمور، أو يرجع إلى رأيه في شأن من الشئون فهو صاحب الفخامة الصدر الأعظم، وكان يتقدم بحكم البروتوكول على خديوي مصر في تلك الأيام، ولهذا ظل المرحوم خليل رفعت «باشا» صدرا أعظم في أكثر عهد السلطان عبد الحميد؛ لأنه لم ينطق في الشئون العامة بكلمة واحدة!

وعلى الجملة، فلقد أثمر هذا النظام كل ثمراته من إشاعة الدس والكيد، والسعاية والوقيعة، والبطش والتنكيل، وإهلاك أصحاب الكفايات أو إبعادهم، وتقريب الجواسيس،

4

وإطلاق أيديهم في أرزاق الناس وأعمارهم، وأضحت الرشوة هي السبيل إلى نيل الحقوق وإلى غصب الحقوق على السواء، وتبع ذلك ما ينبغي أن يتبعه من جذب العقول، وفقر الجيوب، وتقلص الأفكار، وضمور الحريات، وأسرع الفساد إلى جميع المرافق ولحق الخراب عامة البلاد، ولم يبق عامرا في الدولة كلها إلا «الجيب الهمايوني» الذي تعصر له الرعية عصرا كل صباح ومساء، في ضرائب لا يتناولها الحصر ولا يدركها الإحصاء!

ولقد جرى الولاة في ولاياتهم على هذه الأساليب، وكذلك المتصرفون في متصرفياتهم، والسناجق في سناجقهم، وسائر العمال في أعمالهم، وكيف لهم بالعيش إذا كانت وظائفهم وأرزاق من قبلهم من الجند تحبس عنهم الأشهر بل السنين.

وولي هذا ما يجب أن يليه من ضعف الدولة ووهنها، وعجزها عن حماية أرضها، وتمكين سلطانها من ملكها، فجعلت ولايتها تنسلخ منها واحدة في إثر واحدة، حتى بلغت عدة الولايات التي خرجت عن حكمها في عهد السلطان عبد الحميد وحده قرابة الثلاثين!

ومع هذا وهذا وذلك يأبى الحكاءون إلا أن يشيدوا في المجالس بما أصابوا في دار السعادة من المتاع وما تقلبت فيه أعطافهم من النعيم، وما شهدوا من مجد الدولة وسلطانها، وما اطلعوا عليه من أسباب قوتها وبأسها، وما انتهى إلى علمهم من أسرار سياستها التي تعيي الأفكار وتعز على الأفهام، وإن كانت ثمراتها الضخام ستجنى بعد أعوام أو بعد أيام!

ولقد استهلكت هذه المقدمات التي لا بد منها القدر المقسوم لهذا المقال، فلنرجئ عرض نماذج الحكائين الاصطمبلليين إلى آخر إن شاء الله.

Shafi da ba'a sani ba