173

وأنت بعد، خبير بأن البلاغة قوامها الذوق ورعاية المقام، وهنا قد يقول قائل: إذا جاز لك أن تنكر من الملحنين تلك الأناشيد الحماسية التي يشيع فيها اللين والاسترخاء، فكيف لك بأفكار هذه الأناشيد التي وصفتها بالقوة فيما تقدم من الكلام؟

والواقع أن الأناشيد الحماسية كما تحتاج في لفظها إلى الجزالة، تحتاج في نظمها إلى المتانة، وتحتاج أخيرا في تلحينها إلى القوة نعم، تحتاج إلى القوة القوية فذلك هو الأشبه بأيام البأس والدعوة إلى ملاقاة الأهوال، ولكن لعله ذهب عن ذلك القائل: إن العنف لم يكن على الدوام دليلا على الشدة، ولا كان الصراخ عنوانا لقوة الأقوياء! بل لقد يدل هذا وهذا على الضعف والخور في كثير من الأحيان، وإن من يظن أن المعنى الشديد لا يؤدى إلا باللفظ الصاخب العنيف، وإن من يحسب أن الموسيقى الحماسية لا تصور إلا في التلحين الصاخب العنيف، لهو واقع في خطأ عظيم، ولأضرب لناشئة المتأدبين في هذا الباب مثلا من أبلغ الأمثال: كلمة هادئة رقيقة وادعة، قالها رجل هادئ رقيق وادع، ولعله لم يبرعه في هذه الخلال أحد بعد رسول الله

صلى الله عليه وسلم ، وإذا صح أن هذا الرجل كان ممن شك السل صدورهم، فقدر مبلغ حظ هذه الكلمة من الظرف والرقة واللين، فليس أرق ولا ألين ولا أخف على الأذن من حديث مسلول ومع هذا لو تفطنت فإنك واجد هذه الكلمة من الترجمة عن القوة والسطوة والسلطان ما لا يكاد يدانيها في ذلك الكلام.

وجه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يزيد بن أبي سفيان على جيش إلى الشام، وخرج يشيعه راحلا، فتعاظم الأمر يزيد فقال: يا أمير المؤمنين إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال له الصديق: ما أنا براكب وما أنت بنازل! ثم أنشأ يقول: إن هي إلا خطى أحتسبها لله وفي الله ... إلخ.

لعلك استشعرت ما وراء هذه الكلمة الرقيقة الوادعة من سطوة وسلطان، فإذا تعاظمك - مع هذا - أنها خلت حتى من صيغة الأمر والنهي، فاعلم أن من أسباب قوتها وبأسها إذا لم يكن السبب الوحيد في قوتها وبأسها هو خلوها من ذاك، وكذلك يخبر قائده إخبارا بأن إرادته قد مضت بما سيكون، فليس له بتغيير الأمر يدان!

ونعود إلى القول بأن التدليل على القوة لا يحتاج البتة إلى عنف، ولا إلى صراخ واصطخاب، فمن لنا بذلك الملحن البليغ الذي يصوغ هذه الأناشيد في قوة تنزه عن مثل هذا الصراخ الحقيق بتخويف الصبيان؟

من لنا بذلك الملحن البليغ الذي يصوغ لنا هذه الأناشيد في لحن قوي يشيع فيه الطرب وأقول: الطرب؛ لأنه شرط أساسي في مثل هذه الأناشيد، فالطرب مما يثير الأريحية ويدعو إلى الإقدام.

ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن القوة والطرب كانا إلى وقت قريب، هما الطابع المصري لما يصاغ من التلاحين في هذه البلاد، كشأن التلاحين الشامية والتركية جميعا!

وأخيرا فلست أشك في وجود الملحنين القادرين على هذا، ولكن يظهر أنه قد جرفهم هم الآخرين هذا التيار مع الأسف العظيم.

في السياحة

Shafi da ba'a sani ba