ولقد كتب صديقي الأستاذ المحقق أحمد أمين في «الثقافة» مقالا ممتعا، يدعو فيه إلى استغلال فن السرور ومما جاء فيه:
مع الأسف ألاحظ أن كمية السرور في الشرق قليلة، كما لاحظت من قبل أن كمية الحب في مصر والشرق قليلة، وليست تنقصنا الوسائل فجونا جميل، وخيراتنا كثيرة، وتكاليف الحياة هينة، ووسائل العيش يسيرة، ومصايب الشرق من الحرب أقل منها في الغرب، ومع هذا كله لا تزال كمية السرور في الشرق أقل.
أكبر سبب لذلك في نظري أن الحياة فن، والسرور كسائر شئون الحياة فن، فمن عرف كيف ينتفع بالفن استغله واستفاد منه وحظي به، ومن لم يعرفه لم يعرف أن يستغله وشقي به.
وسرعان ما انبرى له صديقي العظيم الدكتور طه حسين «بك»، فأثنى على الفكرة بادي الرأي، ثم راح يشكك في إمكان تحقيقها، ثم ما لبث أن أطلق العنان لمداعباته العذبة الفخمة، التي تسح في الوقت نفسه فنا وأدبا، وجعل يتساءل عن الجماعة التي ينبغي أن تضطلع بتنظيم «فن السرور»، وهل تكون من بين علماء النفس أو من بين علماء الاجتماع؟ وبعد أن دوخ الفكرة بشدة الترجيح بين هاتين الفئتين، انطلق يحيرها بين «جهات الاختصاص»، إذا صدق هذا التعبير الديواني، فإذا هي قد ضلت المسالك جميعا، فلن تجد إلى مثابتها السبيل!
وأخيرا وأخيرا جدا رأى الدكتور طه حسين «بك» أن يعدل بالحديث إلى ما هو أرفق وأقوم، وأجدى وأنفع، وأيسر كلفة، وآكد تحقيقا قال - حفظه الله:
ومن المحقق أني لم أكد أفرغ من قراءة مقال الأستاذ أحمد أمين وأتخيل الآفاق البعيد التي تمتد أمام اقتراحه أو أمام فكرته، حتى أخذني الحسد ورغبت في ألا يستأثر من دوني بإنشاء فن السرور، وأبيت إلا أن أكون مثله صاحب فكرة خطيرة، وداعيا إلى إنشاء فن خطير فأمليت هذا المقال لأدعو به إلى إنشاء فن الحزن، وأنا أبرع من الأستاذ أحمد أمين وأمهر في التصور، والفن الذي أريد إنشاءه لا يكلف مشقة ولا جهدا، ولا يحتاج إلى تأليف لجان، ولا إلى تحديد اختصاص ولا إلى نشر مقالات، وإنما يحتاج إلى شيء واحد يسير جدا، وهو أن تنظر في الحياة المصرية، ثم تعود إلى نفسك لتفكر فيما رأيت، وأنا ضامن لك بأنك ستجد في هذا النظر وفي هذا التفكير مصادر حزن لا تنقضي وألم لا يزول.
وإذا كان السرور خيرا؛ لأنه يرفه على النفس، ويحبب إليها الناس فقد يكون الحزن خيرا أيضا؛ لأنه يدعو إلى العمل ويدفع إلى محاولة الإصلاح. ا.ه.
وبعد، فلست أعرض لما اقترح الأستاذ أحمد أمين من إنشاء فن السرور، ولا أمتدح الفكرة ولا أهجنها، وعلى ذلك فليس بيني وبينه أي نزاع وقد كفيت المئونة من هذه الناحية والحمد لله بقيت الناحية الأخرى، أعني فكرة الدكتور طه «بك» حسين، وهي التي تدعو أو يدعو هو بها إلى إنشاء فن الحزن فهي التي نكثر عليها الحديث، والله المستعان.
وفي رأيى أن صديقي الدكتور طه قد غلط مرتين لا مرة واحدة، غلط بدعوته أولا إلى إنشاء فن الحزن، وغلط بزعمه ثانيا أن إنشاء هذا الفن لا يكلف مشقة ولا جهدا، ولا يحتاج إلى تأليف لجان ... إلخ.
ولا أدري كيف غاب عن صديقي أن فن الحزن فن قديم ولعله من أقدم الفنون، وما لنا نسافر إلى التاريخ البعيد، فنتقرى الأخبار من نقوش الآثار، وحسبي أن يعلم الدكتور أكثر مما أعلم أن الحزن كان في صدر الإسلام فنا له خطر غير قليل، وأظن أن أحدا لا ينازعني في أن المراد بالحزن في هذا المقام إثارته وإذكاؤه؛ لأن أحدا لا يرتجل الحزن ارتجالا ولا يستحدث الشجن استحداثا.
Shafi da ba'a sani ba