لقد كان الشرق مهبط الشعر كما كان مهبط الوحي وفيه رقي بيان الأرض كما تنزل بيان السماء.
ولقد كان لأجلاء أهل البيان عذرهم الذي أسلفت، فما عذرهم الآن وقد انبعثت اللغة، وحي الأدب، وذكا الشعور، ورهف الحس، وراح منا خلق يعالجون ما يعالج أدباء الغرب من تحليل الأشياء، والنفوذ إلى الأطواء، واستظهار الطريف البديع من مختلف الصور في شتى مظاهر الحياة.
ما لنا وقد بلغنا هذا القدر ولو بفضل تروينا من أدب الغرب لا نوجه إحساسنا وعواطفنا إلى هذه البيئة التي نعيش فيها، فنتصفحها ونمعن في تصفحها ونتوسمها ونطيل في توسمها، فإنها قمينة بأن توحي إلينا أبلغ مما نرجو من ابتهار ومن روعة وجمال!
اللهم إن أكثر أدبائنا العظام إنما يغذون أرواحهم بآداب الغرب في الكتب والرسائل، وفيها يقلبون الذهن ولها يفتحون الأعراق، وفيها يغرقون الحس وبها يذكون العاطفة، فأضحت هي متاعهم الروحي لا يزاحم نفوسهم عليها متاع، وهي في الغاية سبيل إنشائهم ومادة إنتاجهم، إليها يردون وعنها يصدرون! فيتهيأ لنا مع هذا أن نزعم أن هناك أدبا شرقيا وأن هناك أدباء شرقيين؟
1
إن مهم الأديب في الشرق - وما وقعت في كلمة الشرق في هذا المقال إلا تمثلت مصر أولا وجمهرة البلاد العربية ثانيا - أقول: إن مهم الأديب في الشرق أن يفطن نفسه إلى بيئته أولا ويشعرها أو في الشعور بأنه إنما يعيش في بلاده، فيها يدور الفكر ويجول التصور، ومنها يشتق التخييل ويستنزل الإلهام، وكذلك يكون لنا نحن المصريين أدب مصري وأدباء مصريون، وكذلك يكون لجارتنا سورية أدب سوري وأدباء سوريون، وكذلك يكون للعراق أدب عراقي وأدباء عراقيون، وهكذا، فإذا فرقت بين هذه الآداب بعض العوامل المحلية المختلفة من طبيعة البلاد ومناظرها وتاريخها وعرفها ونحو ذلك، فلا بأس بهذا فسيجمعها ذلك الطابع العربي العظيم، أما الآن فلا شك في أن هذا الأدب غريب فينا أو نحن في هذا الأدب غرباء!
أستغفر الله أن أدعو إلى هجر أدب الغرب ونحرم قراءته وترويه، أو عدم استعانته في التحليل والإنتاج والتصوير، أستغفر الله أن أدعو إلى هذا أو أشير به، فإنني إذن آثم في حق أدبنا أعظم الآثام، وأجرم عليه أبشع الإجرام!
بل كل ما أريد أن ما نصيب من أدب الغرب وما نتذوق ، لا ندعه يطغى هذا الطغيان على أدبنا الشرقي، فإن الخير كل الخير أن نسيغه ونهضمه ونغذي به أدبنا على أن لا يبدل خلقه ولا ينكر صورته، كدأب الأمم التي تعتد بآدابها وتريغ لها قوة الحياة من كل سبيل.
فقد عرفت أن المهم الأول للأديب في الشرق أن يكون أديبا شرقيا مصريا إذا كان في مصر، وسوريا إذا كان في سوريا، وعراقيا إذا كان في العراق، وهكذا يشعر بأنه يعيش في بلاده - كما أسلفت - أو في الشعور، ومما يحيط به يشتق التصور ويستنزل الإلهام، فإذا كان الأديب الشرقي كذلك بعث من عواطف قوية كل ممكن، واستخلص من بواطن النفوس كل دفين، واتخذ من أخلاقهم وعاداتهم مادته في الفحص والتحليل، ومن ميولهم ومنازع نفوسهم أداته في التصوير والتخييل وشاد بجليل مفاخرهم، وتغنى بسالف مآثرهم، وكذلك يبعث الأدب الحق ويبعث الشعور القومي جميعا.
اللهم إن الأمم العربية لتجد في السعي إلى تحرير الأوطان، فمتى تسعي إلى تحرير الآداب فلا يكون للغرب عليها هذا السلطان؟
Shafi da ba'a sani ba