156

على أن مما يعزينا في هذا الباب أننا ما تناولنا - والحمد لله - عرضا، ولا اتهمنا أحدا في ذمة، ولا رميناه بكبيرة، إنما هي الشهوة إلى التندر على الناس والسلام!

ولقد كان حافظ يعرف مني شدة الخوف مثلا من سرعة السيارات، فيستدرجني إلى إحداهن لنزهة أو لعدة، ولا أركب حتى أستوثق من أن السائق لا يفعل، وإذا هو قد أوصاه، وربما رشاه، فما يكاد الخنزير يبعث عجل السيارة، حتى يجريها في سرعة الكوكب الهاوي، أو البرق الخاطف ما يبالي زحمة الطريق، ولا مواجهة الترام ولا يطامن منه أنه يرقى تلعة، أو يمشي على حافة ترعة أو نحو هذا مما يغلب توقع التلف فيه على توقع السلامة!

وبعد، فأرجو ألا تظن أنني كنت أتمثل مع حافظ على شيء من هذا بالحكمة الرفيقة القائلة: «المسامح كريم»، فإنني ما كنت أجزيه إلا شرا بشر وغيظا بغيظ، وكيدا بكيد! ولعلي كنت أخبر الناس بما يخبث نفسه ويكدر صفوه، ويذكي همه وغمه ويسود نهاره، ويقض الليل مضجعه، فما حرمت شيئا من هذا شهوة الحقد أبدا، والبادي أظلم!

هذا ولا نتفارق؛ لأننا كلينا لا نستطيع على الفراق صبرا.

وإذا أردت أن تعرف بالضبط والتدقيق لون الصلة التي كانت بيني وبين حافظ، فالتمسها فيما كان يصفني به ويردده على الأسماع عني: «فلان ضرر لا بد منه.» وكان ذلك رأيى فيه أيضا - رحمه الله، وألحقني به على الإيمان إن شاء الله.

وأرجو إذا كان في العمر فسحة أن آتي بشيء من التفصيل عن بعض ما كان بيني وبينه من هذا القبيل.

مهم الأديب في الشرق

أن يكون أديبا شرقيا

ولست أعني بالأديب كل من يجيد سبك الشعر أو يحسن تزويق الكلام، إنما أعني بالأديب الأديب حقا، وذلك الذي استنارت بصيرته، ورهفت حسه، ولطفت مشاعره، وأضحى له من حد النظر في بواطن الأشياء وما ينقطع دونه جهد الأنظار، إنما أعني بالأديب ذلك المفتن الذي يلمح بالنظرة المومضة ما لا أدركه أنا ولا أنت ولا يقع عليه حسي ولا حسك مهما أذكينا من الذهن وشحذنا من الإحساس.

لست أعني بالأديب هذا الذي يشمر في اختلاف الأخيلة لم تنتظر لنفسه، وفي تلفيق الصور ما تجلت على حسه، إنما أعني بالأديب ذلك الذي اتسع أفقه ونفذت إلى الأطواء بصيرته، فهو يرى بعينه الباطنة ما لا يرى غيره، فإذا تعاظمك ما جلا عليك من غريب الصور، وما سوى بين يديك من طريق الخيال، فلا تظن أنه ملفق أو مزور أو مختلق، بل إنه ليحدثك بما تتحدث به نفسه، ويجلو عليك ما يرى هو وما يسمع وما يشعر في غير زيادة ولا نقصان.

Shafi da ba'a sani ba