فوجدت فيه خريدة قد زُيِّنت ... بالحليِ تحسب أنه جمر الغضا
واللحن لابن محرز من الثقيل الأول فطرب عليه الرشيد وقال: أحسنتما والله فقالت له ظلة، والله لو سمعت أخاك إبراهيم يغنيه ما استحسنت غناء واحدةٍ منا، قال إبراهيم، ولي يومئذٍ اثنتا عشرة سنة، فقال: ابعثوا إليه فليحضر الساعة، فقالت له حسنة، لا تبعث إليه، فوالله لو أعطيته ملكك أو عرضت عليه السيف ما غنى بحضرتك، قال ولِم، قالت: لجلالتك في صدره وهيبته لك، قال لها فإني أسقيه النبيذ حتى يسكر ويزول عنه الحياء وأطلب منه الغناء، فقالت: لو كان يشرب لتم ذلك، فاكفف عنه حتى نحتال عليه، فلما كان بعد ايام، اصطحبت العباسة، وعندها حسنة وظلة، وبعثت إلي تدعوني، فجئتها وقُدم الطعام فأكلنا، ووضع الشراب فشربت، ثم عمدت إلى طاس ذهب فملأته بياقوت ولؤلؤ وزبرجد لا تُعرف قيمته كثرةً، ثم صبت عليه نبيذًا وقالت لي: فدتك أُختُك، إشرب هذا الكأس، وكل ما فيه من الجوهر فهو لك، فغضبت وتداخلني أمرٌ عظيم، وقلت لها، قد والله كنت عزمت على أن أشرب النبيذ في هذه الأيام، ولو سألتني أن أشربه بغير عوض لفعلتُ، فأما إذ جعلتني فيمن يشربه برشوة، فأُم محمد بنت صالح طالق إن شربت النبيذ إلى سنةٍ، وقمت مغضبًا من عندها، وبلغ الرشيد ذلك وكان متعلق القلب بقصتي، فغمَّةُ ذلك وغلظ عليه وفسد قلبه عليَّ، وأظهر إعراضًا عني، وتغير عليَّ، فساءني ذلك وقلت لأُختي عُلية، أما النبيذ فلا حيلة فيه سنتي هذه، ولكن ادعيني واشربي، فإذا سألتك أن تغني، فقولي على شريطة أن تغني لي فإني أُجيب، وابعثي إلى أمير المؤمنين فعرفيه حتى يجيء إليك فيكون بلوغُهُ ما أراد عندك، لا عند العباسة، ففعلت واصطحبت ودعتني وغنّى جواريها فقلتُ لها: يا أُختي غمي لي صوتًا فقالت: على أن تغني أنت، قلت نعم، قالت وحياة أمير المؤمنين، وتربة المهدي أنك لا تغدر بي، فحلفت لها، فغنت، ثم أخذتُ العود فغنيتُ، وبعثتُ إلى الرشيد فجاء مستخفيًا حتى وقف، وغمزتني فغنيت الصوت الذي بلغه، فلما سمعه لم يتمالك أن هجم عليَّ وقال: أحسنت بأبي أنت، أحسنت فديتك، هذا عندك وأنت تستره عنيّ، وضمني إليه وأجلسني في حجره، وأمر لي بعشرة آلاف دينار وكسوة وطيب بمثلها، فحُمل ذلك من ساعته إلى منزلي وجلس يشرب والجواري يغنين وقمت قائمًا، فأخذت العود فغنيت فأمرني بالجلوس، وقال لا تُغنِّ، فديتك، إلا إذا شئت ونشطت، ولم يزل يبسُطني حتى أنستُ، ولم يكن بعد ذلك يسمعني إلا منفردًا بسماعي، ثم أقسم عليَّ أن يشركه في ذلك جعفر بن يحيى ولا يسألني بعده أن يسمعني أحدٌ، فأجبته على كرهٍ مني، ولم أجبه إلا لما بيني وبينه وبين جعفر: فهذا كان سبب سماعه إياي.
وكانت لأُم جعفر زبيدة، جارية من مولدات القصر اسمها، نهار، أحسن الناس وجهًا وغناءً وكان مخارق يتعشقها، فبلغ ذلك زبيدة، فرفضته ومنعته أن يمر ببابها وكان كَلِفًا بها مغرمًا، فينا هو ذات ليلة قد انصرف من دار المأمون، إذ مر بباب أُم جعفر وهي تشرف على دجلة، فلما حاذى دارها ورأى الشمع يزهو، وقف وسط دجلة بحيث يعلم أنها تسمع صوته وغنَّى:
إن تمنعوني مَمَرِّي عند داركمُ ... فسوف أنظر من بعدِ إلى الدار
سيما الهوى عرفت حتى شُهرتُ بها ... إني مُحبٌ وما بالحب عارِ
ما ضرَّ جيرتكم، والله يُصلحُهم ... لولا شقائي، بإقبالي وإدباري
لايقدرون على منعي وإن جهدوا ... إذا مررتُ، وتسليمي بإضماري
فقالت أُم جعفر، مخارق والله، ردوه فصاحوا بملاحِهِ؛ قدم، فقدَّم، وأمر الخدم بالصعود فصعد، وأمرت له أم جعفر بِتُكأَة وصينية فيها نبيذ، وخلعت عليه خلعة حسنة وأمرت الجواري فغنين له، ثم أمرته أن يغني، فأول صوت غناه:
أغيب عنك بودٍ لا يغيرهُ ... نأَىُ المحلِّ ولا صرف من الزمنِ
فإن أَعِش فلعل الدهر يجمعنا ... وإن أمت فبطول البث والحزنِ
فاندفعت نهار في تمام الشعر مجيبة له فغنت:
تعتل بالشغل عنَّا لا تكلمنا ... والشغل للقلب ليس الشغل للبدنِ
قد حسَّن الله في عيني ما صنعت ... حتى أرى حسنًا ما ليس بالحسن
1 / 24