للصديقين نزعتان مختلفتان في كل شيء، وإلى هاتين النزعتين ينقسم الناس جميعا، فئة تحس نبض الحياة، وأخرى لا تبصر حولها غير الموت؛ فئة يلفت نظرها ما بين الكائنات من أوجه شبه فتوحد الوجود وتوحد خالق الوجود، وأخرى يلفت نظرها ما بين الكائنات من أوجه خلاف فتحلل الوجود في المعامل، فإذا به ذرات كثيرات تكاد تخلو من المعنى؛ النزعة الأولى هي نزعة الفن والأدب وما إليهما، والثانية نزعة العلوم؛ الأولى تتمثل في أفلاطون الذي تشابهت في عينه الموجودات فطواها تحت نماذج من المثل؛ والثانية يصورها أرسطو الذي حلل كل شيء ونظر إلى الأفراد على أنها حقائق في ذواتها تستحق البحث والنظر.
النزعة الأولى تسود الفكر الألماني؛ فالوجود على وجه العموم هو الحق والأجزاء لا شيء، ومن ذلك اشتقوا نظريتهم في الدولة، الدولة هي الحق والأفراد لا شيء، والنزعة الثانية تسود التفكير الإنجليزي؛ فلا بد في هذا التفكير من التحليل، بدأه بيكون وعقبه لوك، ويمثله الآن برتراند رسل، فالأجزاء كل شيء والكل ليس إلا مجموعة أجزائه، ومن هنا استمدوا رأيهم في الدولة، الأفراد كل شيء والدولة مجموعهم.
وعدت بعد هذا الحوار الجميل معتبرا متدبرا، فاختلاف الصديقين في الرأي هو في صميمه اختلاف بينهما في المزاج والتكوين، ومن العبث أن يطلب إلى أحدهما أن يفكر على غرار أخيه إلا إذا جاز أن يطلب إلى لابس المنظار الأزرق أن يرى الدنيا كما يراها لابس منظار أحمر، فأخذت على نفسي منذ ذلك الحين أن يكون التسامح عندي أول الأخلاق.
في عالم الفلسفة
ليس هنة هينة أن ينقد صديق كتابا لصديقه؛ ذلك لأن هذا الصديق الناقد إما أن يكون مع الكتاب أو عليه، فإن كانت الأولى، قال الناس: إنه صديق يمدح صديقه، وإن كانت الثانية، قال الصديق عن صديقه: إنه لم يرع للصداقة حقا ولا حرمة!
والدكتور الأهواني صديق وزميل، ينزل من نفسي منزلة حب وتقدير، وقد قرأت كتابه «في عالم الفلسفة»، وأردت نقده، فأحسست بالورطة التي حدثتك عنها منذ حين. لكن الذي يحد من شدة الموقف أن صاحب الكتاب وكاتب هذه السطور هما معا ممن يشتغلون بالفلسفة مهنة وصناعة، وأقل ما يقال فيمن يمت إلى الفلسفة من قريب أو بعيد، أنه يحاول أن ينظر إلى الأمور بعاطفة باردة، وأن يزن الأشياء التي تخصه بميزان موضوعي، كأنها ليست شأنا من شأنه. وعلى هذا الاعتبار سأتناول بالنقد هذا الكتاب، موقنا أن صديقي الدكتور الأهواني سيكون «فيلسوفا» في قراءة هذه الكلمة، كما كان فيلسوفا حين كتب كتابه هذا. •••
قلت لنفسي: حاول أن تجرد عن نفسك صفة الاشتغال بالفلسفة قراءة وكتابة وتدريسا، وألبس شخصية رجل غريب عن «عالم الفلسفة»، سمع بشيء اسمه الفلسفة، ولكنه لم يعرف ماذا عسى هذه الفلسفة أن تكون، كأن تتخيل نفسك - مثلا - مهندسا .
ها أنا ذا «مهندس» أمر على إحدى المكتبات، فأرى كتابا اسمه «في عالم الفلسفة»، كتبه كاتب يدرس الفلسفة في الجامعة، فيدور في نفسي هذا الخاطر : هل لك في كتاب يدخلك هذا «العالم» المجهول؟ إنك لا تدري إن كانت الفلسفة شيئا يؤكل أو يشرب، فلماذا لا تشتري هذا الكتاب الذي لا تتجاوز صفحاته مائة وسبعين، فتكب عليه ليلة أو ليلتين، فإذا بك قد أضفت إلى حياتك «عالما» جديدا؟ وقد كان! اشتريت الكتاب، وعدت إلى داري، وأخذت أقرأ.
قرأت في مقدمة الكتاب ما يبشر بالخير «فهذا الكتاب جولة في عالم الفلسفة، لا إحصاء لدقائق هذا العالم الفسيح، أو هو زهرة من بستان الفلسفة أقدمها للقراء باقة يشمون منها عبير الفكر.» فقلت لنفسي: ما شاء الله! تالله هذا هو كل ما أريد، فإنه لتكفيني جولة واحدة في هذا العالم الفسيح، والحمد لله الذي جعل كاتبنا الفاضل يختار لكتابه زهرة من البستان، لا حسكا ولا شوكا.
فتحت الفصل الأول، فوجدته عن «أورفيوس والنحلة الأورفية»، تري من يكون أورفيوس هذا؟ «الغالب أن أورفيوس عاش في تراقيا قبل العصر الهوميري، ويعتقد أرسطو أن أورفيوس لم يكن له وجود.» هكذا استهل الكاتب فصله الأول، وأخذ يعرض أدق الآراء عن وجود «أورفيوس» أو عدم وجوده، إلى أن قال: «ونسبه إلهي؛ فأمه آلهة الشعر كاليوب ... ويجعلون أباه تارة أبولون، وتارة أخرى وهو الأغلب أوجرس، وهو إله في تراقيا للخمر، خرج من صلب الإله أطلس، وهو الذي تروي الأساطير أنه حمل العالم على كتفيه ...»
Shafi da ba'a sani ba