وإن شئت أن تضع ذلك نفسه في عبارة أخرى، فقل إن طابع عصرنا الفكري هو العلم التجريبي وما يستتبعه من مناهج للبحث والنظر، والفلسفة التي نشأت من هذا الاتجاه العلمي، هي الفلسفة التي جرى الاصطلاح أن تسمى بالفلسفة الوضعية، وجوهرها أن تجعل صدق الحواس أصلا لا يناقش؛ لأنه من تلك الفروض المطلقة التي تنبني عليها معرفة العصر واتجاهاته الفكرية، والفروض المطلقة - كما حدثتك منذ حين - لا يسأل عنها، وإلا فإنها لا تعد مطلقة، بل نسبية تستند إلى غيرها من مبادئ وأصول، وليس هنالك بالطبع مانع مادي يحول بينك وبين أن تسأل عما يبرر افتراض ذلك الفرض المطلق، لكنك إن فعلت، خرجت على روح العصر السائد.
إن الفلسفة الوضعية التي تمثل عصرنا الحاضر، لا تكتفي بمخالفتها للفلسفات السابقة في طريقة الإجابة عن مشكلات بعينها، بل كثيرا ما ترفض تلك المشكلات ذاتها، فإذا كانت تلك الفلسفة السابقة تسأل: ماذا وراء ما يدركه الإنسان بحواسه؟ ثم تختلف في الإجابات، فإن الفلسفة الوضعية تنكر السؤال ذاته؛ لأنه يتناقض مع الفرض الأول المطلق، الذي جعلناه بداية وأساسا للبناء الفكري كله، وهو أن الحواس وما تأتينا به من خبرة ومعرفة، صادقة، وهي الأساس الذي ليس وراءه شيء.
عند الفلسفة الوضعية أن الرؤية بالعين أو السمع بالأذن هي الملاذ الأخير في إثبات الصدق لدعواك. إننا نعيش في عصر اتجاهه الفكري هو أن يقوم الرأي على التجربة بشهادة الحواس، وأن يكون صدق الرأي مرهونا بإمكان تطبيقه تطبيقا عمليا.
إننا لو سئلنا: بماذا يتميز الغرب وحضارته؟ لا نعدو الصواب إذا أجبنا بأنه يتميز بالعلم التجريبي، فإذا قمنا ننادي بوجوب الأخذ عن الحضارة الغربية الراهنة أخذا لا تحوط فيه ولا تحفظ، كدنا بذلك أن نقول بوجوب الاتجاه بحياتنا وجهة علمية؛ لكي نساير العصر الحاضر في نشاطه الفكري.
الشك الفلسفي
من لطف الله ببعض رجال الفلسفة أن قد جعل لكل منهم قلبين في جوف واحد، بحيث يقولون شيئا، ويفعلون شيئا آخر، ولو لم تكن هذه حالهم في كثير جدا من الأحيان لهلكوا بين عشية وضحاها!
فما يسمونه بالشك الفلسفي، هو من بين هذه الأشياء التي يقولونها ولا يتصرفون على أساسها أبدا، كأنما هم عالمون في قرارة نفوسهم أنهم إنما ينطقون هراء، بل إن هذا هو بعينه ما أردت أن أكتب لك فيه اليوم، فأنا زعيم لك بأن رجال الفلسفة لا يسمون «بالشك الفلسفي» إلا موقفا لا يكون فيه مجال قط للشك عندهم ولا عند غيرهم من عباد الله.
ولعل خير طريقة نتناول بها الموضوع، أن نضرب مثلا أو مثلين للشك كما يفهمه الناس في حياتهم، ثم نعقب على ذلك بالنظر في أمر الفلاسفة لنرى إن كانوا يعيشون مع الناس في دنياهم ويتكلمون بلغاتهم، أم إنهم اختصوا أنفسهم بصفة عجيبة، وهي أن يستعملوا ألفاظ اللغة في غير معانيها ليضلوا عن عمد، ولا أقول ليضللوا؛ لأن أحدا والحمد لله لا يضل بضلالهم.
إذا قلت لزميلي ونحن سائران في ظلمة الليل: هنالك إنسان واقف على حافة الطريق. ثم قال لي زميلي: لا، بل إنه جذع شجرة يشبه الإنسان على بعد في الظلام. فقد أسأله: وأنى لك ذلك؟ فيجيب: إني أمر بهذا المكان كل يوم وأعرف ما فيه. فإما صدقته، أو ذهبت معه إلى المرئي الذي أشير إليه، فأراه على مقربة أو ألمسه بيدي إن شئت.
ذلك موقف يصور «الشك» كما نفهمه في حياتنا العملية، فقد كنت «أشك» إذا كان ما أراه شجرة أو إنسانا، وكان هنالك أمامي طريق أو أكثر لإزالة شكي هذا؛ فحسبي - وحسب كل إنسان عاقل - أن أذهب إلى الشجرة لأراها عن قرب، أو لألمسها، لكي يتبين في يقين ألا سبيل إلى الشك بعد ذلك.
Shafi da ba'a sani ba