وناقد الأدب - أو قل ناقد الفنون بصفة عامة - ينبغي أن يجمع في نفسه نفس مفستوفوليس ونفوس الملائكة جنبا إلى جنب، وإنما أردت بذلك شيئا يمكن التعبير عنه بلغة أبسط؛ إذ أردت أن أقول إن ناقد الأدب لا بد له من قراءة القطعة الأدبية التي هو بصددها مرتين؛ فيقرؤها مرة أولى قراءة الملائكة التي تنصرف بجمال الحياة عن حقيقة عناصرها، ثم يقرؤها مرة ثانية قراءة مفستوفوليس الذي يغوص إلى أذنيه في تحليل الحياة إلى عناصرها فلا يلتفت إلى سحرها وجمالها؛ لا بد للناقد من قراءتين؛ يستمتع بأولاهما ويتذوق، ويحلل بأخراهما وينقد؛ هو في القراءة الأولى يستسلم للمؤلف استسلام الطفل الغرير، وفي القراءة الثانية يتصدى له تصدي الخصم العنيد - وهي خصومة قد تنتهي بالود والإخاء.
هذا مبدئي في نقد الأدب، وهذا ما صنعته في هذه المسرحية الجديدة التي أخرجها لنا أديبنا المبدع النابه الأستاذ توفيق الحكيم. قرأت «الملك أوديب» مرتين على النحو الذي أسلفت لك. وجلست إلى مكتبي ونشرت أوراقي ورفعت قلمي، أريد أن «أنقد» الكتاب. لكني لم ألبث أن وضعت القلم وفركت جبيني بأصابعي، وهمست لنفسي قائلا: ماذا أنت صانع؟ أتريد أن تقول للناس ما هي قصة «أوديب» وليس في قرائك فرد واحد يجهل أنها قصة الرجل الذي تزوج من أمه وهو لا يدري أنها أمه، فأحبها حب الزوج لزوجته وأحبته حب الزوجة لزوجها، وأنجبا الأطفال، ثم كشفت لهما الحوادث أنهما أم وابنها فكانت الفاجعة؟! أم تريد أن تقول للناس إن الأستاذ توفيق الحكيم كاتب مسرحي قدير، وليس في قرائك فرد واحد لا يعرف هذه الحقيقة أكثر مما تعرف؟
لا، بل إني لم ألبث أن همست لنفسي همسة أدق وأعمق: ترى هل يتوجه الناقد بنقده إلى قراء الكتاب، أم إلى كاتب الكتاب؟ الظاهر أن الثانية هي أدنى إلى الصواب، بدليل أنه يزعم لنفسه القيادة والهداية، كأنما يقول للكاتب: افعل هذا ولا تفعل ذاك، إذا ما حاولت مرة أخرى أن تكتب!
ها هنا تبينت في موقفي شذوذا عجيبا يستوقف النظر: أتريد أنت إذن أن تهدي الأستاذ توفيق الحكيم سواء السبيل في الأدب المسرحي؟! بل ماذا يستطيع أي ناقد في الدنيا أن يصنع لأي كاتب؟ إنه ليخيل إلي الآن أن من أشد الأوهام ضلالا وتضليلا أن يظن ناقد - كائنا من كان - أنه مستطيع أن يصلح كاتبا كائنا من كان. لقد فهمت الآن معنى قول «لوكاس»: إن النقد طفيلي يعيش على غيره. نعم إنه طفيلي يتغذى بفتات الأديب المنتج، بل فهمت الآن فقط معنى قول «تشيكوف»: إن النقد ذبابة لاذعة تلسع ثيرة المحراث فتعوقها عن المضي في حرث الحقول؛ إنه قد يضر، ولكنه لا ينفع.
كيف تبلغ بلاهة الناقد الأدبي هذا الحد البعيد بحيث يتوهم أنه سيصلح الكاتب؟ إن ذلك ليذكرني بما رواه قصصي إنجليزي معاصر هو «فورستر» عن نفسه إزاء النقد الذي وجه إلى إحدى قصصه، إذ لاحظ عليه الناقد أنه قد أسرف جدا في القضاء على شخصيات قصته بالموت المفاجئ، وذكر له أن أربعة وأربعين في المائة من أشخاص قصته أصابهم الموت فجأة، وليس في هذا شيء من صدق تصوير الطبيعة، فقال الكاتب الأديب لنفسه: إي والله لقد صدق، ولا بد لي في قصتي التالية من مراعاة ذلك، فسأحاول أن أمهد لموت أشخاصي بالأمراض وغيرها من الأسباب الطبيعية للموت. وآن أوان قصته التالية، فإذا به كلما عن له أن يميت شخصا، لم يجد لنفسه مندوحة في أكثر الأحيان عن أن يقضي عليه قضاء مفاجئا؛ لأن خياله لم يسعفه أبدا في تهيئة حياة أشخاصه تهيئة تنتهي بهم إلى موت يسبقه مرض. ها هنا كاتب يسلم بصحة الرأي الذي يوجهه إليه الناقد، ومع ذلك يعجز عن إصلاح نفسه؛ لأن الأمر كله مرهون بالموهبة الفطرية، فهو أديب بمقدار ما هو موهوب، وهو عاجز حيث هو عاجز، ولا أمل في إصلاح الموهبة إلا في التوافه التي لا تقدم ولا تؤخر. •••
وإن صح ذلك في كل ناقد وكل كاتب بصفة عامة، فهو أصح بصفة خاصة في ناقدا بالنسبة إلى توفيق الحكيم كاتبا مسرحيا.
فيم إذن كتابة النقد؟ أعتقد أنه في كثير جدا من الأحيان يكون النقد لمصلحة الناقد نفسه، فإذا أنت قرأت كتابا قراءة تريد بها نقدا، دعاك ذلك إلى كثير من الدقة والحرص وأنت تقرأ، كانا قمينين أن يفلتا منك إذا قرأت للتسلية قراءة عابرة، كما أن مناقشتك للكاتب بعض رأيه فيها رياضة عقلية لك أنت؛ وقد يمتع القراء أن يقرءوا لفتاتك ولمحاتك، لكن الكاتب لن ينتفع بذلك كثيرا ولا قليلا.
وعلى هذا الأساس وحده أتوجه إلى القراء ببعض خواطري عن مسرحية «الملك أوديب»، التي أخرجها الأستاذ توفيق الحكيم. •••
يقدم الأستاذ توفيق الحكيم مسرحيته لقارئه بمقدمة طويلة تقع في أربع وخمسين صفحة، يعلل فيها نفور الأدب العربي قديما من هذا اللون الأدبي، فلماذا لم ينقل العرب عن اليونان أدبهم المسرحي؟
ومضى أديبنا يذكر التعليلات المختلفة لهذه الظاهرة العجيبة، ويرد عليها، أيكون هذا النفور مرجعه إلى ما في المسرحية اليونانية من «روح الصراع بين الإنسان والقوى الإلهية؟ أترى هذه الصبغة الدينية هي التي صدت العرب عن اعتناق هذا الفن؟» (ص18) «هذا رأي جماعة من الباحثين ... فهم يزعمون أن الإسلام هو الذي حال دون اقتباس هذا الفن الوثني ... إني لست من هذا الرأي ... فالإسلام لم يكن قط عسيرا على فن من الفنون ... فقد سمح للناقلين أن يترجموا كثيرا من الآثار التي أنتجها الوثنيون ...» (ص19). إذن فما علة هذا النفور؟ «أتراها صعوبة فهم ذلك القصص الشعري، وكله يدور حول أساطير، لا سبيل إلى فهمها إلا بشرح طويل، يذهب بلذة المتتبع لها، ويقضي على متعة الراغب في تذوقها؟ ... ربما كان في هذا التعليل شيء من الصواب ...» (ص19)، «لكن ... على الرغم من وجاهة هذا التعليل فإني لا أعتقد أن هذا أيضا يحول دون نقل بعض آثار هذا الفن» (ص20).
Shafi da ba'a sani ba