ماذا أفهمه من كلمة «فن»؟
أنا الآن جالس إلى منضدة صغيرة أكتب هذا المقال، فخانت مني التفاتة من نافذة صغيرة إلى يساري، ورأيت غرابا يرف بجناحيه، نعق نعقتين كان في صوتهما تهدج، ثم هبط على غصن من شجرة لا أعرف نوعها، ولعله هبط على مكان من الغصن أوراقه متهافتة، فسقطت ورقة تأرجحت في الهواء، وهوت إلى الأرض هويا بطيئا.
هذه صورة مركبة من جملة عناصر، نكتفي الآن منها بثلاثة؛ أنا، والغراب، والشجرة (لأنك تستطيع أن تضيف عشرات العناصر الأخرى مما أراه وأسمعه وأحسه بجلدي وأفكر فيه في هذه اللحظة عينها).
أما أنا، فبديهي أنني كنت في هذه اللحظة من لحظات حياتي في حالة معينة فذة فريدة، لم يسبقها قط منذ ولادتي، ولن يلحقها قط إلى مماتي لحظة أخرى تطابقها كل التطابق من جميع الوجوه، فلا يعقل أن يتكرر موقفي إذ ذاك بما فيه مما يحيط بي من أشياء وملابس، وما أرى، وما أسمع، وما يدور في نفسي من خواطر، وأقل ما يقال في هذا الموقف الفريد الفذ، هو أنني كنت قبل الآن أصغر مني الآن، وسأكون بعد الآن أكبر مني الآن.
وأما ما رأيته من الغراب فبقعة سوداء، تحركت حركة معينة ثم سكنت في مكان معين، على هيئة معينة، بقعة سوداء! لكن السواد يا صاحبي له ظلال تعد بالألوف، فأي ظل من هذه الظلال رأيت؟ والبقعة السوداء تحركت! الحركة كذلك يا صاحبي لها ألوف الألوف من الصور، فبأي منها تحركت تلك البقعة السوداء؟! ثم سكنت البقعة السوداء في مكان معين! حتى السكون يا صاحبي صنوف وأشكال، فليس سكون النائم مثل سكون الميت، وليس سكون الصخرة ملقاة على سفح الجبل كسكون غرابك هذا على الفنن، وقل مثل هذا فيما سمعت من الغراب، سمعته ينعق نعقتين في صوتهما تهدج، كم درجة من الصوت سمعت أذناك؟ وفي أية درجة من الدرجات أردت أن أضع نعيق الغراب؟ الحق أن ما رأيت من الغراب وما سمعت مركب فريد من عناصر اجتمعت على نحو يستحيل أن يكون له ما يماثله مماثلة تامة في كل ما رأيت وما سأرى من الغربان.
وما قلته في نفسي وفي الغراب، أستطيع أن أقوله في الشجرة والورقة التي سقطت منها وهوت إلى الأرض، ثم يزيد الأمر كله في درجة التركيب والتعقيد حين نضيف هذه الأشياء الثلاثة بعضها إلى بعض في صورة واحدة، هي صورة فذة فريدة - كما أسلفت - لم تعرف، ولن تعرف الحياة لها مثيلا آخر، بكل ما في التماثل من دقة وتطابق.
وكأني ألمح في قارئي علائم الدهشة من هذه المبالغة في قولي، ولكن ليس في الأمر يا صاحبي غرابة ولا عجب! هكذا الحياة في شتى صورها، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد. كل كائن حي - والكائنات الحية ملايين الملايين - فيه ما يجعله فردا بذاته يختلف ولو قليلا عما عداه، خذ ورقة من شجرة، ودر بها الأرض من قطبها إلى قطبها، فلن تجد لها مثيلا بمعنى التماثل الذي تنتفي فيه كل الفروق المميزة انتفاء تاما. وانظر إلى ألوف الناس من حولك، هل رأيت قط فردين يتشابهان إلى الحد الذي تنمحي فيه المميزات جميعا؟ لا، بل الاختلاف بين الأفراد أدق من هذا وألطف، فبصمات الأصابع لا تتشابه في الأفراد، ودع عنك دقائق الجسم الباطنية من حيث الشكل والحجم والتركيب.
هكذا الحياة يا صاحبي في شتى صورها، فلا موضع لغرابة منك أو عجب، الحياة لا تعرف تكرار الأفراد، بل لا تعرف تكرار اللحظات في الفرد الواحد، فيستحيل أن يكون الكائن الحي في هذه اللحظة هو بعينه ما كان في لحظة مضت، وهو بعينه ما سيكون في لحظة تالية.
والفن كما يقولون تصوير للحياة! مقياس الفن، بل معنى «الفن» هو التقاط موقف فرد مما يعج به العالم من حولنا. لو قلت كلاما يصور حقيقة عامة تنطبق على هذا وذلك فقولك بعيد عن الفن الرفيع، ومن هنا كانت ثورتي النفسية، وكان غيظي الشديد، كلما قرأت لكاتب من كتابنا يقول عن هذا الشاعر أو ذاك من أسلافنا إنه شاعر لحكمته، أو لصدق حكمه أو ما إلى ذلك. الحكمة يا سيدي القارئ والحكم الصادق أدخل في باب العلم لأنها تعمم القول ولا تخصصه في تصوير موقف فريد، وإلا فخبرني - أثابك الله - ما الفرق بين شاعرهم حين يقول: «والظلم من شيم النفوس»، وبين عالم الطبيعة حين يقول: «التمدد بالحرارة من شيم الحديد»، و«الغليان من صفات الماء»، كلاهما يعمم الحكم، وإذن فكلاهما عالم وليس بأديب، ولا يكون ذلك الشاعر شاعرا إلا إذا صور حالة جزئية فريدة من حالات الظلم، أو صور ظالما معينا يتجسد الظلم في أعماله.
إننا نقول إن شيكسبير كان شاعرا فنانا حين كتب مسرحيته عن كليوباتره، وشوقي لم يكن شيئا حين كتب؛ لأن الأول قد استطاع بقوة فنه أن يجمع عناصر جزئية بعضها إلى بعض بحيث تتكون صورة فذة فريدة لشخصية تجعلها كهؤلاء الأشخاص الذي تراهم حولك أحياء، وأما الثاني فربما حاول ذلك ولم يوفق، ونجعل كتاب «الأيام»، للدكتور طه حسين خير كتبه جميعا لما فيه من تصوير لطفولة واحدة فريدة لا تجتمع عناصرها إلا مرة واحدة، ونجعل «سارة» خير ما أنتجه الأستاذ العقاد لإبرازه فيه شخصية واحدة كذلك، ونرجح للدكتور أحمد أمين أن يخلد في دولة الأدب بكتاب «حياتي» أو كتاب «زعماء الإصلاح» أكثر من أي كتاب آخر؛ لأنه وفق فيهما إلى هذه الفردية التي ينشدها الفن، حين رسم صورة نفسه أو صورة هؤلاء الزعماء.
Shafi da ba'a sani ba