طاهر عبيد الأرملاوي من أحب الشخصيات إلى قلوبنا لخفة روحه وبساطته وميله إلى البدانة، وهو أسمر وملامحه شعبية ولكن جاذبيته لا تقاوم، يقول: أنا تعبان لأني وحيد والديه. - ولكن لك شقيقتين؟ - أنا الولد الوحيد، بابا مصمم على أن يجعل مني طبيب مصر الأول .. وماما تصر على تعليمي الفرنسية من الآن.
فيلا الدكتور عبيد الأرملاوي باشا غاية في الأناقة رغم أنها دون السرايات ضخامة، والدكتور الباشا مدير للمعامل بوزارة الصحة وحاصل على الدكتوراه من النمسا، تراه والحاجب يفتح له باب السيارة يتهادى في جلال الميري وأناقة الروح الأوروبية، يلوح دائما في القمة رغم أن ثراءه دون الحلواني أو الزين، وبيننا وبينه بعد يجعله بمعزل عنا، ولم يرحب أبدا باختلاط ابنه بأبناء العباسية الغربية، ولكن طاهر صارحه بأنه لا يمكن أن يقطع ما بينه وبين أصحابه. وإنصاف هانم القللي أم صديقنا ليست مجرد خريجة في الميردي دييه مثل والدة حمادة، إنها أيضا مثقفة وقارئة وذات عقل ممتاز، وبفضلها كملت مكتبة الباشا العلمية بثمار الفكر والأدب .. واتفق رأيا الباشا والهانم على أن يجعلا من طاهر شخصا رفيع المقام.
وتسأله الهانم مرة: ما أحب المواد الدراسية إليك؟
فيجيب بصراحة معهودة: المحفوظات .. مثل:
أيها الطائر أهلا
بمحياك وسهلا
حتى في تلك السن المبكرة بدأ يحب الشعر ويحفظه، وربما وجد شعرا في مجلة مما يوجد في الفيلا فيسأل مامته أن تشرحه له ثم سرعان ما يحفظه، ويسعد الباشا بذلك ويقول لحرمه: الولد زكي وسيكون طبيبا مدهشا.
وعرف طاهر دينه لأول مرة في مدرسة البراموني، لا ذكر للدين في فيلا الأرملاوي، لا بخير ولا بشر، ولا ممارسة لأي شعيرة، ورمضان والأعياد لا تكون شهورا دينية إلا بين الخدم. ورغم حصة الدين وتدين صادق صفوان فيمكن القول بأن طاهر نشأ نشأة وثنية أو لا دينية مجردة، وتحية وهيام شقيقتاه كانتا تماثلانه في ذلك، ولكنه يقول عنهما: لهما صديقات كالأقمار يزرنهما ويجلسن معهما في الحديقة .. كالأقمار!
ويتسلل إلى مجلسهن مسوقا برغبة مبهمة، ويتلقى المداعبات كالورود، وتنفجر في أعماقه مسرة بريئة وجامحة مفصحة عن انفعاله الأول بالجنس الآخر. وفي عام من الأعوام دعيت الأسرة لقضاء أسبوعين بالإسكندرية عند خالته، فسمعنا عن الإسكندرية كما سمعنا من قبل عن رأس البر. واستحم في الحمام الخاص بالنساء في سان ستيفانو مع مامته وشقيقتيه، ودهش لمنظر الهوانم في أردية البحر التي تشبه قمصان النوم، وقال لنا ضاحكا: مثل الأبقار أو أضخم!
مامته إنصاف هانم القللي متوسطة العود، خارجة عن تقاليد عصرها التي ترى في البدانة رمزا للجمال في عالمي النساء والرجال معا، ولكن بدا لنا أن شغفه الأول بالمحفوظات التي كان يرددها تحت النخلة في غيط عم إبراهيم، وفتن أيضا بالسينما ليلة ذهبنا إليها أول مرة في عيد من الأعياد بدار عرض «المنظر الجميل» بالظاهر. الحق أنها فتنتنا جميعا ولكنه جن بها جنونا، وضاعف من أشواقه أنه لم يكن يسمح لنا بمغادرة حدود العباسية إلا في الأعياد، غير أن السينما احتلت موضعا هاما من حوارنا، ولعبت بخيالنا أيما لعب، وأصبحت قرية رعاة البقر وطننا الثاني يخفق القلب لمرآها ويثور الحنين. •••
Shafi da ba'a sani ba