وطاهر عبيد أثارنا بشعره قبل أن يثيرنا بحبه، فاجأنا بنشر أول قصيدة غزلية له في مجلة الفكر، ظهرت القصيدة تحت عنوان «الجميلات في الحديقة»، في مجلة عريقة منتشرة ومعروفة بالدعوة لروح العصر والتقدمية. إنه تقدير بكل معنى الكلمة، واهتز ركن قشتمر سرورا وطربا، وقال حمادة: نحن نشهد ميلاد شاعر.
وسأله صادق باهتمام: هل علم بالنشر والداك؟!
فضحك طاهر وقال: الإعجاب بموهبتي في نطاق الفيلا يسعدهما ويعتبرانه تمهيدا لموهبتي المدخرة للطب اللعين، ولكن بابا وجم حينما اطلع على القصيدة في باب الشعر بمجلة الفكر وقال بامتعاض شديد: هذا شغل أدباتية ولا يليق بمقامك، فقلت له: ولكن شوقي بك شاعر يا بابا، فقال: إن شوقي أمير من البيت المالك أولا وأخيرا، أما الشعر في ذاته فحرفة الشحاذين.
على أي حال لم يفسد عليه ذلك سعادته بنشر قصيدته، ونصحه إسماعيل قدري بزيارة المجلة للشكر والتعارف وتوثيق العلاقة ففعل، وهناك اكتسب علاقات زمالة جديدة، وعرف المبادئ التقدمية من خلال نخبة من المؤمنين بها، وتعاطف مع الإرادة الطامحة لهدم العالم القديم كله وإقامة بناء جديد موضعه على أسس علمية معاصرة، وكأنما ود أن تبيد مع العالم القديم أفكار أبيه الكئيبة، ولكن التعاطف لم يتجاوز به حدود الصداقة للمبدأ ومعتنقيه دون الالتزام بمبادئه أو الاندماج في سلوكياته. وفي ذلك الوقت خرج من شرنقة الهيام الغامض إلى حومة تجربة حقيقية. رآه صادق يوما ينتظر أمام صيدلية العباسية ليرى رئيفة حمزة وهي تغادرها. بنت سمراء رشيقة الملامح فائرة الجسم ثائرة النهدين خفيفة الحركة، وتماثل طاهر في سنه على الأقل، لا يجهلها أحد من أهل العباسية تقريبا، فهي تقيم مع أمها في شقة بعمارة متوسطة العمر تطل على العباسية من ناحية وعلى القرافة من ناحية أخرى، وهي ممرضة تمارس مهنة إعطاء الحقن للمرضى عن طريق الصيدلية، ويقال إنها تعمل أيضا في مستشفى، سيئة السمعة دون أي دليل، ولكن هكذا يجري الحال في العباسية، فما دامت تعمل وتنتقل من بيت إلى بيت بخفة ووجه مليح وفستان ناطق فهي سيئة السمعة دون شك. طاهر يعترضها بجسمه المائل للبدانة ونظراته الحالمة، ومن ذا الذي لا يعرف طاهر بن عبيد الأرملاوي باشا؟ إنه ينظر ويبتسم وهي تعرض عنه دون غضب، وتستمر المطاردة ويلوح الأمل، هكذا يصبح في مجلسنا عاشقان، وتتجلى في أحوالهما أعراض السحر والنشوة. وقال له حمادة الحلواني: رئيفة تحتاج إلى مكان آمن .. أعني شقة خاصة مثلا!
فقال إسماعيل قدري صاحب الخبرة: هي أدرى بما تحتاج إليه، ولكن يلزمك مصروف إضافي.
فقال طاهر باستياء: كأنكما تحدثان عن مومس!
فلاذا بالصمت في دهشة، وقال صادق صفوان معتذرا عنهما: لا تؤاخذهما فأنت تعرف ما يقال.
فقال طاهر بوضوح: كلام فارغ، أنا أحب رئيفة كما تحب أنت إحسان.
وألزم قوله كل أحد حده رغم وساوسه الباطنة، ورجع يقول: أقبلت عليها بادئ الأمر بنية سيئة، تبعتها من بيت إلى بيت دون جدوى، وتبين لي أنها فتاة عاملة؛ فهي إما تمارس عملا أو ترجع إلى بيتها، الناس ألسنتهم لا ترحم، وتقذف بالتهم بلا دليل، والحق أنها لما ابتسمت لي غزاني شعور جديد فأدركت أنني أحبها.
وتم التعارف وتواعدا للقاء في حديقة بيبرس، وقالت له: الحرص واجب، وأنا أخدم الأسر الكريمة، وألسنة الناس رديئة.
Shafi da ba'a sani ba