فظن المسافر أنها بشائر الفرح بلقاء عشير الصبا، فخفق فؤاده طربا، وعلل النفس بأن فارسا يسرع إليه ويناديه باسمه.
أما الحفار فوجه إليه نظرة الحقد والسخرية، ومد يده إلى ما وراء ظهره تحت عباءته التي شد ذيلها إلى وسطه، وأخرج حبلا أعقد من ذنب الضب فزاد فيه عقدة، وقد بدت عليه ملامح الفوز، حتى إن الغريب نهض ودنا منه وسأله منذهلا: ماذا تفعل؟
قال الحفار: هذا يعنيني، قد طال انتظاري حتى نفد صبري وهذه العقدة لحسابك.
فصاح الغريب بفرح: إذن تعرفني؟ - ومن أعرف بك مني أو أنسى خصما رماني يوما في الساقية، ولولا القليل لغرقني عن حسد؛ لأن أنيسة ابنة الصباغ كانت تفضلني عليه ...؟ - أنت؟ تفضلك علي أنيسة؟ لا صحة لما تدعي. - لا شك في قولي، وهل نسيت يا حسود أنها حفظت كل السنة تذكارا مني جلبته لها من مار إلياس فأتيت ونزعته من صدرها؟
فقال الغريب بلهجة من الحزن: فارس دعنا من أحاديث الصبا ولا تذكرن ما مضى، ولكن صدقني إن قلب أنيسة لم يمل قط إليك وإن قبلت هديتك، فلأنها من مزار مار إلياس ولئلا يسوءك إباؤها، وأنا كنت وقتئذ في عنفوان الشباب تلعب الخيلاء برأسي فلم أحسن ملاطفتك لها، ولكن هل يليق بنا أن نثير مكامن الأحقاد بعد خمس وعشرين سنة مضت فأفنت خلائق برمتها؟ أنت وحدك عرفتني أفتكون لي عدوا لدودا؟ ألا بحياتك هات يدك فأصافحها وننسى ما مضى، ونقضي ما تبقى من العمر في وفاق وإخلاص؟ واعلم أن لدي وسائل أستطيع بها أن أخفف عنك مشاق الحياة.
فنكص الحفار بفظاظة وقال بصوت أجش: أنا أنسى ما مضى؟ لا أنساه أبد الآبدين ولات حين وفاق، فإنك نغصت عيشي ... ما كان يمضي يوم إلا ذكرتك فيه وهيهات أن أذكرك بخير وأنت سبب شقائي.
فلطم المسافر خديه وصاح: إلهي إلهي الحقد وحده يعرفني، والبغض وحده لا ينسى ولا يموت.
فقال الحفار ساخرا: حملتك الأقدار إلى هنا لكي تجتمع بأهلك الذين ماتوا، ليطمئن بالك دبرت لحنا الطويل قبرا نعما القبر، فسأدفنه - إن شاء الله - عند حائط الكنيسة بقرب الميزاب؛ حتى يصب عليه ماء السطح ويطهر نفسه الأثيمة.
فوثب الغريب عند هذا الكلام الذي خرق فؤاده كالسهم، وامتقع لونه، وتطاير من عينيه الشرر، بيد أنه لم يكن إلا أسرع من ارتداد الطرف حتى ثاب إليه وقاره وسكن جأشه، وباخت نار غضبه فقال متنهدا: إنك تأبى مصافاة أخ رده الله بعد نيف وعشرين عاما، وما كان سلامك عليه إلا السخرية والإهانة، أفارس إن ذا لفعل ذميم، لكنني أغضي على القذى وأصفح عن السيئة، فقل لي أين قبرا والدي فقد طال بي البحث ولم أهتد إليهما.
فقال الحفار بصوت حاكى همهمة النمر: لا أعرف، فإني منذ ربع قرن قد حفرت أكثر من مرة في المكان الواحد وبعثرت ما في القبور من العظام.
Shafi da ba'a sani ba