وانفجر «الشيخ سيد» باكيا، كان في بكائه شيء أعمق من الحسرة ومن اليأس، مثل طفل ضاع منه أبوه في الزحام، فوقف على الطريق يسأل كل عابر سبيل: هل رأيت أبي؟ فلما لم يجد أحدا يعرفه بكى وصرخ؛ لا لأن أباه ضاع منه، بل لأنه وجد بين الناس من يجهله، لم يبق في القرية من لم يسمع بحكاية «الشيخ سيد»، وعرف الناس أن الإنسان يمكن أن يصبح مشهورا إذا ما سمعت به السلطات الرسمية، وهكذا بدءوا يهتمون بشأنه، وتوالت العطايا عليه، وعطف بعضهم عليه فأعطاه حذاء، وتصدق تاجر أقمشة فوهبه ثوبا من الدمور المعتبر قائلا له: خذ يا عم، ينفع جلبابا وكفنا! والحقيقة أنه لم يعرف كيف يفصله، فإن الترزي الوحيد في بلدنا كان رجلا عجوزا بخيلا، ولم يكن أحد يتصور أن يتصدق عليه بخيط؛ لذلك بقي الثوب قماشا يحمله على كتفه، إلى أن جاء يوم لم يره أحد معه، ولم نعرف إن كان قد سرق منه وهو نائم أو خطفه اللصوص، وبمرور الأيام نفض الناس أيديهم منه، ولم يعد أحد يهتم بأمره أو يتصدق عليه بشيء، بل إن أبي الذي كان يدعوه إلى الطعام كلما رآه، قد خفف من عنايته به، إلى أن جاء يوم افتقدته فيه فلم أجده.
وسمعت أنه يتجول بين العزب المجاورة، وأن حظه هناك لم يكن أفضل من حظه عندنا.
وذات يوم كنت أجلس وحدي في الدكان، فقد لزم أبي الفراش، واضطررت أن أتغيب عن المدرسة، وأن أباشر حركة الدكان بنفسي، الحق أنني كنت أخشى أن يأتي علي يوم السوق وأنا وحدي، إذ كيف أدير حركة المحل؟ وكيف أتصرف مع كل هذا العدد من الزبائن؟ ولست أدري ما الذي ذكرني بالشيخ سيد، فقد شعرت في نفسي بحنين غامض إليه، وتمنيت أن أراه إلى جانبي؛ لذلك لم أفرح كفرحتي حين رأيته ينحدر على السكة من بعيد، كأنه عمود من الدخان يطول ويقصر، كانت له مشية تميزه عمن سواه، ولكنني دهشت قليلا حين وجدته يربط إحدى ذراعيه برباط كبير، ويتوكأ على عصا، وهو الذي كان مثل الجن الأحمر.
أقبلت عليه مرحبا، ولو أطعت نفسي لعانقته: ما هذا؟ كفى الله الشر.
فأجاب وهو يجلس إلى إحدى الموائد: الحمد لله، جاءت سليمة، قلت محاولا أن أكتم فرحتي به: سمعت أن قطاع الطريق هجموا عليك، فضحك من قلبه، وتلفت ينظر في الدكان. - أبوك ليس هنا. ثم غمغم قائلا: هل تعرف مولد سيدك إبراهيم الدسوقي؟ - سمعت أنه في هذين اليومين. - حاولت أن أحضر الزفة، وأن أركب الفرس، ولكنهم لم يصدقوا أنني ابن السلطان، ألم أقل لك: إنهم كفرة!
جذبوني من على الفرس، ومن حسن حظي أن ذراعي هي التي كسرت، لا رقبتي! وأردت أن أغتنم هذه المصادفة التي جمعتني به وحدنا، فاستدرجته قائلا: ألم تعرف ما حدث لي؟!
فأقبل علي في اهتمام، وفرحت بالقلق البادي في عينيه، ثم قلت أخيرا: رأيت أباك في المنام، فسألني غير مصدق: حقا؟
قلت وأنا أصطنع لهجة الكبار حين يتحدثون في أمر خطير: وهل عرفتني كذابا؟ لا، لا، زعلتني منك.
فعاد يسأل في شوق: وماذا كان يركب؟
فقلت بعد أن تركته معلقا في لحظة انتظار: كان يركب يا سيدي فرسا أبيض، ويلبس أبيض في أبيض.
Shafi da ba'a sani ba