أما أنا فقد زدت عن سني الذي تعرفينه.
سالته كأنها تسامحه: أعرفه؟
فود لو يستطيع أن يهزها من كتفها ليذكرها، وهو يقول في ضحكة أزعجه رنينها الأجوف: هل نسيت أن عمري ثلاثمائة عام؟! والآن زدت عليها اثني عشر!
ضحكت ضحكة خيل إليه أنها صادرة من أعماق قلبها، وأسعده أنه استطاع أن ينتزع منها هذه الضحكة الصافية بعد هذه السنين الطويلة، وهو على حاله المتواضع الذي كاد في غمرة حماسه أن ينساه، وساعده على أن يعود إلى ذكرياته انهماكهما في قيادة العربة، كان ذلك حين تعرف عليها لأول مرة في المدرسة الثانوية في طنطا، كان يجلس في الفناء كعادته بعد الظهيرة يذاكر دوره في مسرحية «أهل الكهف»، ويجرب الإلقاء بصوته الجهوري حين سمع صوت الأستاذ حامد ينادي عليه في لهفة وفرح: ميشلينيا، يا ولد يا ميشلينيا!
وأسرع يجري نحو مصدر الصوت، وهو يكاد يكذب عينيه . كان الأستاذ حامد يقف هناك بقامته النحيلة، ونظارته السميكة تعكس أشعة الشمس الغاربة، وشعره المنفوش يكاد يغطي أذنيه، وذراعه الطويلة الضامرة العروق تشير إليه، وكانت هي تقف معه، صغيرة وعبيطة في سن التلاميذ، تلبس بلوزة حريرية بيضاء وجونلة رمادية مخططة، وإلى جانبها رجل ضخم في ملابس عسكرية أدرك لأول نظرة أنه أبوها، قدمه الأستاذ حامد مدرس التاريخ والمشرف على فريق التمثيل إليهما، وهو يربت على رأسه ويقول: حضرته الأستاذ ميشلينيا! ثم وهو يسلم عليهما في خجل وبغير أن يرفع عينيه إلى وجهها: خلاص العقدة انحلت يا سيدي، ووجدنا بريسكا، سعادة البيك الحكمدار من مشجعي فن التمثيل، كان يعارض في أول الأمر، ولكنني استطعت أن أقنعه، إن شاء الله تكون حفلة ناجحة ونكسب الكأس، لكن المهم كل واحد يحفظ دوره عن ظهر قلب، اللجلجة والتهتهة ممنوعة أمامي على المسرح! لم يستطع يومها أن يراها عن قرب، فقد تصبب عرقا وكاد يغرق في هدومه، واستأذن منصرفا وصوت الحكمدار يدوي في أذنيه: شدوا حيلكم، بس إياكم أن تأخذوا الحكاية جد!
وتتابعت المقابلات من ذلك اليوم، في كل يوم بعد الظهر يبدءون البروفة، ولا ينتهون منها قبل غروب الشمس.
هل يستطيع أن يذكر في حياته أسعد من تلك الأيام؟ ألم يكن يجري إلى المدرسة كالعصفور، بغير غذاء في معظم الأحيان، وبسندوتش تدسه أمه في جيبه على الرغم منه حتى لا يموت من الجوع؛ ليكون أول من يرى سامية وهي تنزل من العربة البوكس، التي كانت توصلها إلى باب المدرسة؟ ألم يكن ينتظرها على الباب ويذهب إلى لقائها وكأنه رآها صدفة، ويتحاشى عيني الشاويش مجاهد الغاضبتين وهو يصافحها، ويصحبها إلى الردهة الواسعة التي أقاما فيها المسرح؟ ألم يكثر من أكل سكر البنات لكي يجلو صوته فيرن على المسرح كأنه يوسف وهبي أو جورج أبيض، ليقول في صوت يتعمد أن يكون مؤثرا ليصل إلى قلبها برغم أنف الشاويش مجاهد، الذي يجلس في الصالة على كرسي يحضره له، ويكشر في وجهه كلما سمعه بمد رقبته، ويلوح بذراعيه ويجري نحو سامية في لهفة لا تخفى على الأصم: ها أنت أخيرا يا بريسكا! وتقف هي - كما يقتضي الدور وتعليمات الأستاذ حامد الصارمة - مذعورة في بهو الأعمدة، تتلفت وراءها خائفة صامتة كالتمثال وهو يسألها هي دون غيرها: عجبا! أهذا استقبالك لي؟! أما كنت ولا ريب تتوقعين رؤيتي الساعة؟ بل ربما كنت لا تحبينها.
ويزداد ذهولها وشحوب وجهها الحلو الصغير، كما تزداد تكشيرتها ودهشتها من جرأته، وهو ينطلق كالراديو: لا بأس، بالرغم من هذا لا أكتمك أن مرآك في هذه اللحظة قد صيرني سعيدا، سعيدا يا بريسكا إلى أقصى حد.
وهل ينسى أنها كانت تتلجلج وتنسى دورها الطويل خلال الفصلين الطويلين، وأنه كان يحفظه بدلا منها ويلقنه لها كلمة كلمة؛ لكي يحميها من تشنجات الأستاذ حامد العصبية، ومن شد شعره وصراخه الذي لا ينقطع: يا ناس! احفظوا دوركم! حرام عليكم! الفن تعب، تضحية، استشهاد، هل تريدون أن يأكل الناس وجهي في المديرية كلها؟ هل ينسى أن عبد العزيز سيد أحمد ومحمود الحلواني كانا ينافسانه على دوره ولا يكتمان غيظهما منه؟ ألم يقل له عبد العزيز يوما بعد انتهاء البروفة: ولد يا صابر! والنبي تأخذ أنت يمليخا، يا شيخ أنا زهقت منه ومن بؤسه، رجل غلبان لا له في الحب ولا في الستات، يعني مهما يكن، راع لا طلع ولا نزل، بس شاطر يصرخ ويقطع قلبي: إلى الكهف! إلى الكهف! إنا أشقياء، أشقياء، هذا العالم ليس عالمنا. خذه أنت يا صابر، ومعه قطمير فوق البيعة! ألم يحسده محمود الحلواني أيضا وإن لم يصارحه بكلمة واحدة؟!
لقد كان يتابعهما بعينيه الصامتتين في كآبة لا تخفى عليه، وإن حاول أن يداريها بصمته وعدم اكتراثه، كان يقول له وهو يركز عينيه على وجهه الصغير وقدميها النحيلتين: حلال عليك يا عم بريسكا المفعوصة، الحمد لله أنا «مرنوش»، فإذا نظر إليه نظرته التي تقول: اطلع منهم! قال له في استخفاف: ومتزوج وعندي عيال، الواحد منهم عمره ثلاثمائة سنة، المهم ربك يختمها على خير!
Shafi da ba'a sani ba