وعاد الشاب إلى حديثه، فاستأنف يقول: هو ذاك، إننا كلما ازددنا علما بنوع ما من أنواع الأحياء، ازددنا قدرة على التمييز بين أقسامه الفرعية، تمييزا في كل قسم منها بين مفرداته. وعلى أية حال فالذي يهمني في هذا الحديث هو الإنسان؛ لأرتب على تمايز أفراده ما سوف أرتبه من نتائج، على أنني أحب أن استطرد هنا استطرادا مفيدا عن صفة «التفرد» وكيف نراها أخص خصائص الإبداع الفني، فحين أشار أرسطو في كتاب «الشعر» إلى المبدأ النقدي الذي بات بعد ذلك مشهورا ذائعا بين نقاد الفن والأدب، وهو مبدأ أن تجيء القطعة المبدعة من الفن بكل ضروبه، محاكية للطبيعة، لم يكن يقصد - فيما أعتقد - أن تؤخذ فكرة المحاكاة بالمعنى الذي تنعكس به صورة الشيء على سطح لامع كالمرآة، ربما كان هذا الفهم المرآوي للفن هو ما عناه أفلاطون وهو يتحدث عن موضع الفنان في الجمهورية كما «تصور صورتها المثلى»، بل الأصح هنا أن نقول: وهو يتحدث عن ضرورة ألا يكون للفنان موضع في جمهوريته تلك؛ إذ كان الفنان في رأي أفلاطون إنما يحاكي الطبيعة التي يصورها بالكلمات أو بالألوان أو بالحجر، فإذا كانت الأصول الطبيعية موجودة بين أيدينا، فما حاجتنا إلى ما يحاكيها؟ أما المحاكاة التي أرادها أرسطو وهو يتحدث عن الشعر وسائر ضروب الفن، فأحسب أن المقصود بها هو ضرورة أن يصنع الفنان في مجال فنه مثل ما تصنعه الطبيعة في كائناتها، وهو أن يجيء الكائن فريدا لا يشبهه من سائر الكائنات شيء، ومثل هذا التفرد شرط أساسي في نتاج الفن.
واستطرد الشاب في حديثه، ولم يخرج قط عن نبرته الهادئة الرزينة برغم شبابه، الذي لم يزد على عشرين عاما، فقال: وإذا كان هذا هكذا في عالم الفن وفي عالم المخلوقات بمختلف أجناسها وأنواعها، أيجوز بعد ذلك أن يشذ الإنسان مع أنه أولى من سائر الكائنات الحية بتمايز الأفراد؟ وإنه لتمايزه لا ينفي أن يكون الفرد عضوا في أسرة، وفي أمة، وفي الإنسانية جمعاء.
ضحك أبوه، وسأل ابنه مقاطعا لذلك السيل المنهمر من حديث ابنه، سأله: وما علاقة هذا كله بما كنا بصدد الحديث فيه، ولقد بدأناه بالشعب المصري في صبره على السلطان المنحرف عن الحق، حتى يختفي من وجه الأرض - وسرعان ما يختفي - كالموجة العاتية على سطح المحيط، لا تلبث أن تعلو حتى تزول؟
فأجابه ابنه - في شيء يسير من الانفعال هذه المرة - قائلا: بل العلاقة وثيقة بين تفرد الفرد، وما كنا نتحدث عنه، فتفرده هو شخصيته، والتفريط في شخصيته إهدار لآدميتها. وإذا كانت الخصائص البدنية وحدها هي أساس التمايز في أفراد النبات والحيوان، فإن الإنسان يضيف إليها ما هو أهم منها، وأعني خصائص فكره، فإذا رأى رأيا في أمر، فلن تكتمل له آدميته إلا إذا أفصح عنه، وأعلنه بكل الوسائل التي يملكها ويستطيع استخدامها. إن الإنسان مسئول عن إعلان رأيه أمام ضميره؛ لأنه مسئول عن تلك أمام الله، فليس «الرأي» من الإنسان كالقطعة من ملابسه، يلبسها أمام الناس أو يخفيها في خزائنه، تبعا لمزاجه المتقلب يوما بعد يوم، بل الرأي هو صميمه، هو لباب كيانه، هو «فؤاده» فيما قصد إليه الشاعر حين قال:
لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ونحن وإن كنا اليوم لا نكتفي من الإنسان بفؤاد يرى الرأي، ثم بلسان يعبر عن ذلك الرأي، بل نطلب جزءا ثالثا هو «العمل» بناء على ذلك الرأي، إلا أننا نذكر قول الشاعر هنا لنبين كم يكون الرأي والتعبير عنه من حقيقة الإنسان، فإذا رأيت إنسانا تخلى عن رأيه وإعلان رأيه، فاعلم أنه اختار لنفسه أن يكون كيسا من لحم ودم يتحرك على الأرض. إن كتمان الرأي فيما يهم الناس، وفيما يؤثر في الوطن ومصيره هو سكوت عن الحق، والساكت عن الحق شيطان أخرس. بماذا يجيب الإنسان الذي أغمض عينيه عما حوله، أو فتح عينيه ورأى ثم لم يحرك ساكنا بماذا يجيب حين يسأل:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين
إنه مسئول يوم الحساب عما اعتقد هو، وعما فعل هو
يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه .
Shafi da ba'a sani ba