قالت: «أشكرك كثيرا، والآن أودعك، وقد نلتقي فيما بعد.» فمددت يدي فصافحتني بشدة الممتن وشيعتها إلى الباب فانطلقت مسرعة لا تلوي على شيء، أما أنا فعدت إلى داخل المنزل وقلت لربة البيت: إنه يمكنها أن تستولي على كل المقتنيات التي خلفها الراحل؛ لأنه ليس له وارث، ثم ألقيت نظرة أخيرة على الغرفة التي كان يشغلها صديقي، والبيانو الذي كان يضرب عليه أنغامه وانصرفت من ذلك المكان، ولم أعد إليه منذ ذلك اليوم.
رجعت بطريقة آلية توا إلى غرفتي، وانطرحت على سريري معيى، وأخذت أفكر في أيام صديقي الأخيرة والنهاية التي صار إليها، فذكرت حديثه لي عن الموسيقى وشأنها في حياة الأمم والبشرية جمعاء، وحكاية شوبرت، واستعدت في ذهني جميع تصرفاته السابقة واللاحقة، منذ أول يوم عرفته إلى آخر يوم، فشعرت أني خسرت صديقا يندر مثيله، وأن الأمة فقدت رجلا تمثلت روحها في روحه، وجمعت عواطفه أدق وأجمل عواطفها، وهو لو عاش لأتم فعل ما لم يفعله شخص آخر من أبناء هذه الأمة ألا وهو إحياء نفسها.
وانتقل بي الفكر إلى دعد، تلك الفتاة الجميلة النفس الكبيرتها، فقلت في نفسي: أترى يفقه السيد ج. وزوجه شيئا مما في نفسها العميقة؟! •••
لقد مرت على وفاة صديقي سليم عدة سنوات، وقد قضيت هذه المدة مغتربا في أوروبا وأميركا، وأول عمل قمت به بعيد عودتي أني نزلت مساء اليوم الأول لوصولي إلى العاصمة، إلى ساحة المدينة المركزية، وأخذت أتنقل بين كبريهاتها؛ لأرى هل طرأ تغير ما على حياة القوم؟ فوجدتهم كأني لم أفارقهم إلا ليلة أمس، ولكني رأيت هذه المرة وجوها جديدة لم أكن قد رأيتها من قبل.
دخلت أحد هذه الكبريهات عند الساعة الحادية عشرة واتخذت لنفسي مجلسا منفردا، أستطيع أن أرى منه كل مكان وأراقب جميع ما يجري، وبينما أنا مهتم بمراقبة حركات بعض الشبان في إحدى الزوايا، إذا برهط من الرجال تقدموا إلى المكان الذي كنت فيه واتخذوا مائدة محاذية لمائدتي، فتفرست في أوجههم من حيث لا يشعرون، وكدت لعجبي لا أصدق ما أرى حين تبينت بينهم وجه ميخائيل صديق عائلة السيد ج. فوجدته قد تغيرت سحنته قليلا وازداد سمنا، وكان من حسن حظي أن ميخائيل جلس منحرفا قليلا، وصار من الصعب أن يلتفت نحوي ويرى وجهي فأخذت أدرسه من حيث لا يدري، وكان يدفعني إلى العناية بدرسه رغبتي الشديدة في درس حالات الأشخاص النفسية وتطوراتهم العقلية، وفي معرفة ما طرأ على هذا الرجل من التغيرات الأخلاقية بعد غيابي عنه كل هذه المدة الطويلة.
دار حديث ميخائيل وزمرته حول الراقصات وجمال كل واحدة منهن وصفاتها، وتاريخ حياتها فعدوا لا أقل من عشرين راقصة في مدة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة!
فلما بلغوا الحادية والعشرين قال أحدهم لميخائيل: «إنك كنت سعيد الجد يا ميخائيل، فلم ينل تلك الفتاة أحد سواك، وهي - والحق يقال - كانت من أجمل الراقصات اللواتي أممن بلادنا، قل لي كم من الزمن صرفت معها؟»
فقال ميخائيل، وهو يتيه عجبا بنفسه ويلقي الكلام كمن يلقي على من حوله دررا ثمينة دون أن يكترث لها: «ثلاث سنوات بكاملها، ولو أني قدرت أن أحتفظ بها أكثر لفعلت، إن برتا الفتاة الوحيدة التي أحببتها حقيقة أو تدري يا حسني، إن برتا كلفتني خمسماية ليرة عثمانية ذهبا؟»
فقال ثالث: «ماذا أسمع؟ قل لي بأبيك يا ميخائيل من أين جاءك الوحي الآن لتتكلم عن الحب؟»
فأجاب: «الصحيح أني عشقت برتا حتى إني قاومت بنفوذي دائرة التحري بأمها وأبيها، من أجلها.» قال ذلك بلهجة ملؤها الخيلاء والإعجاب بالنفس وأردف: «أنتم لا تدرون، يا صحاب أن برتا لم تكن ككثيرات من هؤلاء الراقصات، إنها لم تكن قد أحبت أحدا قط، وأنا أول رجل أحبته.» ودق على صدره توكيدا لما يقول: «إنها أحبتني كثيرا ولا تزال تحبني؛ فقد كتبت إلي مؤخرا تقول: إنها لو تمكنت من جمع أجرة السفر لما تأخرت عن المجيء إلي، وقد شكت ما هي عليه بلادها من الفاقة وقلة العمل، ومما يدلني على حبها الشديد لي أنها أرسلت إلي في عيد ميلادي زرين من الذهب مرصعين بحجرين كريمين، فكم تكون اشتغلت وقترت على نفسها في مثل هذه الأحوال لتقدم لي هذا التذكار؟»
Shafi da ba'a sani ba