Some rise by sin, and some by virtue fall.
Shakespeare
فاجعة حب
شهدت فيما مضى حوادث كثيرة لست أذكر الآن منها إلا حادثة واحدة ليس إلى نسيانها من سبيل، فلا مرور الزمان وتقادم العهد، ولا شواغل الفكر واضطرابات الحياة تمكنت أو تتمكن من محوها من نفسي، مع ذلك فالواقعة بسيطة خالية من الشئون الغريبة الباهرة التي تبدو في هذه الحياة شئونا غير عادية، ولكن من يدري؟ فلعلها ليست بسيطة بهذا المقدار، أو لعل في بساطتها شيئا غير عادي جعلها ترسخ في نفسي، ويدفعني الآن إلى روايتها وفي نفسي ألم وأسى ؛ لأنها انتهت بفقد صديق حميم لي على كيفية تجعل قلب كل إنسان رقيق الإحساس يتفطر حزنا.
كان صديقي سليم مولعا بدراسة الموسيقى، وكنت أنتظر أن يخرج ناظما موسيقيا مجيدا لما كنت أعهده فيه من شدة العواطف، وسلامة الذوق، وقوة الشعور، وما كان هو عليه من سمو الإدراك وتعمق في الفهم، كانت نفسه كبيرة حتى كأنها تسع الكون، وكان يحب أن يرى شعبه آخذا قسطه من الموسيقى العالية؛ أي: إنه كان يريد أن يرى في شعبه موسيقى سامية تستطيع أن تعبر حقا عما في القلب من شعور، وما في العقل من تأملات أدبية وفلسفية، ولا أزال أذكر حديثا له حين كان قلبه طافحا بالعواطف القوية، ونفسه مترعة بالآمال الكبيرة، وهو حديث لا يكاد يمثل ما كان عليه سليم، ولكنه يجعل الذين يسمعونه أو يقرءونه يشعرون أن ما كان يجول في فكر المحدث شيء سام، لو أنه تحقق لانتشل حياة شعبه انتشالا تاما من الجمود والخمول اللذين لا يزالان يرافقانها، من أجل ذلك رأيت أن أثبته فيما يلي كما يحضرني، وأظن أنه لا يكاد يفوتني شيء منه:
كنا مرة مجتمعين في حلقة من الأصحاب فأخذنا نتحدث في كل علم وفن حتى تطرقنا أخيرا إلى الموسيقى، وكان بيننا من شب ولم يسمع سوى الألحان الشرقية الشائعة عندنا التي يسمونها خطأ «الألحان العربية»، وإذا كان قد سمع بعض الأنغام الغربية، فهو لم يعبأ بها ولم يحاول فهمها، وكان آخرون ممن سمعوا الألحان الشرقية والأنغام الغربية ووقفوا على ما في هذين النوعين من الموسيقى من فن وافتنان، فقدم هؤلاء الأنغام الغربية على الألحان الشرقية لرقي تلك وغناها في التعبير عن الحياة العاطفية، ولفقر هذه من هذه الوجهة ووقوفها عند حد التعبير عن الحالات الأولية، وتعصب أولئك - ولعل تعصبهم من باب الشعور القومي غير الناضج وغير الواضح، والتمسك بمبدأ المحافظة - للألحان الشرقية، وهذا شيء طبيعي، فالذين يفهمون لحنا موسيقيا واحدا فقط يفضلونه على كل لحن ونغم غيره.
وكان من وراء ذلك أن الجدل في هذا الموضوع احتدم بين الفريقين وطال أمره، حتى خشيت أن يئول إلى تباغض وشحناء، كما جرت العادة عندنا - نحن السوريين - إلى هذا اليوم، فإننا قليلا ما نتناقش في أمر بقصد التوسع في المعرفة والفهم، وتبين وجه الصواب ووجه الخطأ، إلا أننا لم نبلغ هذا الحد في هذه المرة؛ لأن الفريقين المتجادلين قررا أن يستفتيا سليما في الأمر بصفة كونه خبيرا في نوعي الموسيقى؛ الشرقي والغربي، ومحبا للإنصاف والحقيقة، فسأل سليم أحد المتشبثين بأفضلية الموسيقى الشرقية المحافظة، واسمه بهيج، قائلا: «أتدري - يا صاحبي - لماذا وجدت الموسيقى؟»
فأجاب بهيج بلهجة الموقن: «أجل، وجدت الموسيقى لتكون لغة العواطف.»
قال سليم: «لو كنت خبيرا بالموسيقى لما جزمت بهذا التحديد الذي يجرد الموسيقى من ثلثي مزاياها على الأقل.»
فهتف أربعة دفعة واحدة: «ثلثي مزاياها؟!»
Shafi da ba'a sani ba