وذهبن جميعا إلى هيكل مينرفا، وصلين وبكين، وغسلن بدموعهن قدمي التمثال المعبود، ونذرن لإلهة الحكمة ما أمر به هكتور أن ينذر.
ولكن!
لقد أصمت مينرفا أذنيها! ولم تصخ لهذه التوسلات المكلومة، ولم ترق لتلك العبارات المسفوحة، ولم تطمع أبدا في ضحايا وقرابين تكفر عن خطيئات باريس؛ ذلك الراعي المفتون الذي آثر الجمال الفاني على الحكمة الخالدة فقضى في التفاحة لفينوس، ربة الحسن والحب، تلك الحية الرقطاء التي لدغت طروادة بأسرها، فهي إلى اليوم تصرخ من سمها الزعاف يسري في أرواح أبنائها، فينكل بهم ويكاد يقضى عليهم ... ولا ذنب لهم ولا جريرة إلا لبانات الهوى الآثم، والغرام الشائن، والحب المجرم المهين! •••
وأحس هكتور وهو منطلق إلى الميدان كأن منيته تنوشه من مكان بعيد، وأحس في صميمه بشوق حار إلى لقاء أندروماك زوجه العزيزة عليه، الأثيرة إلى قلبه، شوقا يشبه وداع الحياة في حرارته وأسره، وشوقا يشبه الاستمتاعة الأخيرة من مباهج هذه الدنيا، في حزنه الصامت، ومعناه العميق!
وأحس كذلك بلوعة إلى التزود بنظرات من سكمندريوس طفله الحبيب؛ هذه الهبة السماوية التي توشك أن تصبح نقمة من نقمات اليتم، إذا كان صحيحا هذا الهاجس الذي وقر في قلب هكتور والذي صور له أنه مقتول اليوم لا محالة.
وألح الشوق على قلب البطل، فثنى عنان الخيل إلى الطريق المؤدية إلى قصره الممرد ليشفي حاجات الفؤاد المعذب.
وذهب من توه إلى مخدع أندروماك! ولكنه لم يجدها هناك، فبحث عنها في الغرف والردهات والأبهاء، ولكنه عبثا حاول الوقوف لها على أثر!
وسأل عنها حشم القصر، وكأن صدره يعلو ويهبط حين كن يتحدثن إليه عن أندروماك العزيزة وما تلقاه دائما من القلق، وما تتفزع به روحها من الهواجس ما دام زوجها يخوض خبار هذه الحرب!
فهل هي من الأرض الثقيلة المخضبة بالدماء هذه العواطف المشتركة، أم هي من السماء الصافية التي لا يرتفع إليها نغل، ولا يورى فيها زند عداء ولا تشب فيها سخيمة؟!
وأخبرنه أنها يممت شطر برج طروادة الرفيع، تشهد منه ما يحدث في المعركة من أهوال، وذلك عندما ترامت الأخبار أن الإغريق قد ضيقوا الحصار على جنود طروادة، وأنهم خضدوا شوكتهم، وفلجوا عليهم ونخبوا قلوبهم، وضعضعوا أركانهم، فريعت أندروماك، وذهبت من فورها إلى البرج لتطمئن على رجلها وذخر حياتها وسندها في هذه الحياة السوداء.
Shafi da ba'a sani ba