ينصرف الناس في كل ما يتناولونه بالكلام والبحث، وهم على شعور تام بأن كل واحد منهم إنما يملك شيئا يقال له القوة المدركة، وأن لهم شيئا يقال له حس الجمال والموسيقى وما إليهما من الخصائص، كما أنهم يملكون ذلك الشيء المبهم الذي يسمونه الإرادة.
فإذا سقت أبحاثك مقتنعا بأن الإرادة ليس لها من وجود حقيقي، وأنها ليست سوى عرض من أعراض اهتزازات دقائق المخ، لم يبق أمامك من شيء آخر إلا أن تنكر مع إنكارك الإرادة كل وجود حقيقي لكل الخصائص العقلية التي للإنسان، وعلى نفس الحجج التي يستند إليها الماديون في إنكار الإرادة، نستطيع أن نستند في إنكار كل القوى المدركة والملكات الأخرى.
نستطيع أن نقول مثلا بأن القوى المدركة برمتها إنما هي عرض لاهتزازات دقائق ما في مادة المخ، وبذلك لا يكون لها وجود حقيقي البتة. وكذلك الحال إذا نظرت في الجمال؛ يمكنك أن تعتبره كمجرد وهم أو خيال، وليس بحقيقة ثابتة خالدة، تستطيع أن تقول إن الجمال عبارة عن مجرد تنسيق للمادة في صور معينة، لا يلبث أن يزول أثره إذا نظرت فيه من عدسة المجهر. وهكذا الموسيقى؛ في قدرتك أن تدعي أنها عبارة عن مجرد اهتزازات مادية، وليس لها وجود حقيقي. وكذلك إذا نظرت من تلك الناحية في حب العظمة والشجاعة والفضيلة والشرف ومضاداتها من حب الذات والملاذ والسقوط الأدبي، فإنه في مستطاعك أن تعتبرها حركات خلايا خاصة توجه توجيها معينا، لا أقل من هذا ولا أكثر.
فإذا عمدت إلى النظر في العالم كما ينظر فيه الماديون، موليا بوجهك عن خصائص الإنسان العقلية، وأكببت على تقديس ما ترتكز عليه هذه الخصائص من القوى والمواد الطبيعية وحدها، فإنك لا تقتل بذلك الإرادة وحدها كوجود حقيقي، بل إنك تقضي على الشعر والموسيقى والحقيقة وعلى كل المراتب والفروق الكائنة في العقل بين منازل الفكر والعواطف.
وعلى الجملة تقضي على كل قضايا العقل الإنساني. ولا تترك في الكون من شيء إلا كتلة مواتا وصحراء مجدبة من المادة والحركة. ولما كانت المادة والحركة لا يمكن إدراكهما إلا من طريق الحواس، ففي مستطاعك أيضا أن تنكرهما؛ إذ لا يكون لديك من سبب يحملك على أن تعتقد أن العالم مكون على النموذج الذي توحي إليك به الحواس.
إلى هذا الحد من التهوش والفوضى يكون النظام العالمي في نظرك، إذا تطلعت فيه من هذه الوجهة المادية الصرفة. ومن الظاهر الجلي أننا إذا أردنا أن نرد على العالم نظامه وألفته على مقتضى ما في العقل الإنساني من نظام وألفة، فإن من الواجب أن لا ننظر فيما يمكن أن يثبت أو ينفي نظريا، بل ننظر فيما يمكن الاعتقاد به عمليا. هذا مع علمنا بأن هذه الألفة سواء أكانت مبنية على وجهة النظر المادية أم وجهة النظر الروحية، فإنها أقصى ما يمكن أن نبلغ من صلة بالحق في هذه الحياة.
والمثال: إني مضطر لأن أعتقد بوجود عالم خارج عن حيزي؛ لأتخذ اعتقادي هذا دعامة حقة وأساسا ركيزا في سبيل بحثي عن الحقيقة. ذلك على الرغم من أن الفلاسفة قد ينكرون أن للعالم الخارجي وجودا حقيقيا في ذاته. كذلك أعتقد أن هنالك فرقا قائما بين الفضيلة والرذيلة، وبين سمو المدارك الروحية والشهوات، وبين الأنانية والتضحية، وبين الذاتية والغيرية. ولو أن الماديين إذ يرجعون بهذه المعاني بلا تفريق بينها إلى اهتزازات دقائق غير مختلفة أي اختلاف إنما يلزمون أنفسهم الحجة بحكم العقل، بأن هذه المعاني لا يختلف بعضها عن بعض اختلافا حقيقيا.
أراني أعتقد بوجود حقيقي للذكاء والإدراك والجمال والموسيقى والشعر والحقيقة. ولو أن هذه أيضا يمكن ردها إلى مجرد حركة بعض خلايا لا إدراك ولا ذكاء فيها، وإلى قوات لا تعدو تلك الخلايا إدراكا ولا تبزها معرفة وذكاء.
وعلى هذا النحو أراني مضطرا إلى الاعتقاد بوجود حقيقي لما نسميه «الإرادة». ولو أن الماديين قانعون بأنها ليست سوى عرض يصاحب حركة الدقائق في المراكز العصبية.
فإذا كانت ألفة العقل البشري تتطلب سببا للعالم المرئي، وإذا كل ما في مستطاع اختباري أن يصل من علم بالسبب الأول ينحصر في الفعل العقلي للإرادة التي أشعر وأحس بها، فمن الواضح الجلي أني مقسور بضرورة ألفة عقلي ومقتضياته على الاعتقاد بأن هذا الكون العظيم معلول لإرادة عاقلة؛ أي إلى خالق. وليس من معنى ذلك أنني أعرف أو أعلم أن للخالق وجودا حقيقيا، أكثر مما أعلم أو أعرف أن للعالم الخارجي المحيط به وجودا حقيقيا. إنما كل ما أعلم أو أعرف أني جبلت على أنني لا أستطيع أن أرد على عقلي ألفته وأحتفظ بنظامه، إلا إذا اعتقدت بوجود خالق ذي إرادة حرة عاقلة. وإلا فإن كل معتقداتي الثابتة تنهار وتتحطم ويطمو على سبيل الحيرة والفوضى.
Shafi da ba'a sani ba