لم أكن قد التقيت بإبراهيم لعدة سنين، ولكنني سمعت عنه وقرأت له، مما جعلني أتابعه خطوة خطوة وكأني أسايره يوما بعد يوم؛ ومن هنا كان علمي بما طرأ على شخصيته من تحول، وهو تحول لم يكن مقصورا على إضافة بعد وجداني إلى اتجاهه العقلاني الخالص، مما دعاني إلى الظن بأن للأحدب أثرا لكثرة ما تصاحبا وتجاورا، فاختلفا مرة واتفقا مرة؛ ولذلك طاب لي أن أسميه لنفسي - كما أسلفت - إبراهيم الأحدب، على أني حين أقول عنه في تحوله الجديد إنه قد أضاف بعدا وجدانيا إلى نظرته العقلانية الأساسية، فلست أعني أنه كان فيما قبل ذلك كافرا بحياة الوجدان، كلا؛ فمنذ عرفته من عشرات السنين قد عرفت فيه وقفة راسخة ثابتة تقسم له حياة الإنسان بين مجالين: مجال الوجدان للعقائد والمشاعر والذوق والمزاج، ومجال العقل لكل ما هو قائم على منهج التفكير العلمي، وإذن فلم يكن الجديد فيه إضافة وجدان إلى حياته بعد أن لم يكن، بل الجديد هو - أولا - اختياره للموضوعات التي يخضعها للبحث العلمي؛ إذ أخذ اختياره يقع على موضوعات تتصل بطبيعة الذات المصرية والذات العربية مما يجعل النظر العقلي مبطنا بفرشة عاطفية، و- ثانيا - سرعة انفعاله حتى وهو في مواقف الفكر العقلي الخالص، وكأن ذلك يحدث له كلما لقي من الآخرين عنتا وإجحافا.
وقرأت عن إبراهيم في الصحف ذات يوم أنه قد تلقى دعوة من جريدة الأهرام بأن يكون أحد كتابها، تلقاها وهو لم يزل في جامعة بإحدى الأقطار العربية، لكنه إذ تلقى تلك الدعوة كان يوشك أن يعود إلى مصر بعد غيابه عنها خمس سنوات، ولقد قبل دعوة الأهرام فرحا بها لأنه مليء بأفكار يريد عرضها عرضا واسعا على جمهور المثقفين، فلما أن التقى برئيس التحرير لأول مرة دار بينهما حديث ذو دلالة تكشف عن هدفه من الكتابة؛ فلقد قال لرئيس التحرير صراحة أنه يؤمن بأن كتابة الكاتب لا تكون إلا نقدا لما هو قائم؛ إذ لو كان الكاتب راضيا بما هو قائم ففيم حمله للقلم؟! إن ما هو قائم قائم قبل أن يكتب، فلماذا يكتب؟ قد يكون من الأهداف المقبولة أن يكتب الكاتب ليلقي الأضواء الكاشفة عن حسنات الأمور القائمة ودفاعا عنها، خشية أن تكون حقائقها خافية عن جمهور الناس. لكن إبراهيم أراد أن يقول لرئيس التحرير إن أغلب هدفه من الكتابة التي يعتزمها نقد لا دفاع، فأجابه رئيس التحرير بأنه من أجل ذلك وجهت الأهرام إليه الدعوة ليكون أحد كتابها، والحق أن إبراهيم قد سعد بتلك الدعوة منذ تلقاها وهو بعيد؛ لأنه - فضلا عن رغبته في الكتابة - كان يعلم أن جريدة الأهرام قد استضافت قبله مجموعة من ألمع رجال الفكر والأدب والفن؛ مما يسعده أن يكون معهم في أسرة واحدة.
وبدأت مقالات تظهر تباعا، ومنها رأيت في أوضح صورة كيف امتزج إبراهيم والأحدب في هوية واحدة؛ فالفكر ذو أعماق وأبعاد والانفعال الوجداني ذو حرارة ونبض.
وما إن علمت من الصحف بأنه قد ظفر بجائزة الدولة التقديرية في الأدب، حتى اندفعت إلى التليفون أطلبه لأول مرة في حياتي؛ فهنأته من عمق قلبي ، وشكرني بصوت مختنق، ودعاني في إلحاح بأن أزره في داره لنتبادل الحديث، وهناك أخذ يقص علي كيف فوجئ بصديق - وهو في حياتنا الأدبية إمامها - يتصل به خلال الهاتف في نحو الساعة الثانية بعد الظهر، ليقول له بصوت فرح: مبروك. فأجابه إبراهيم: شكرا، ولكن مبروك على ماذا؟ قال له: على جائزة الدولة التقديرية في الأدب؛ إذ كان الاقتراع عليها هذا الصباح (وكان إبراهيم قبل ذلك بخمسة عشر عاما قد ظفر بجائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة). وسكت إبراهيم قليلا، ثم قال: أتعرف يا فوزي كيف كان رد الفعل عندي حين وضعت سماعة الهاتف؟ بكيت، نعم بكيت بكاء لم أملك له دفعا، ولما أن هدأت إلا من دمع أحسسته يبلل أطراف عيني، سألت نفسي - ربما خجلا من نفسي - فيم هذا البكاء، إنه يقينا لم يكن بكاء الفرحة لما سمعته؛ إذ كانت جوانحي عندئذ ملتاعة بما تضطرب به، إذن فلماذا؟! ووجدت الجواب: إنه التنكر الطويل الذي انطبع به موقف الزملاء وما يزال ينطبع، الذي أبكاني هو أن التقدير قد جاءني في المرتين (في جائزة الدولة للفلسفة وفي جائزة الدولة للأدب)، ممن لم تكن بيني وبينهم صلة الزمالة ولا صلة الصداقة، جاءني التقدير في الحالتين ممن لم يعرفوا عني إلا ما يقرءونه عني كتبا ومقالات؛ وأما من ربطتني بهم أواصر الزمالة والصداقة ولقاءات المودة، فالله وحده عليم بما كانوا يضمرونه نحوي من رغبة في الإطفاء والإخفاء وطمس المعالم وضيق الصوت، وكانت وسيلتهم إلى ذلك هي الصمت الأليم عن كل ما يتصل بعمل أنجزته في علم أو أدب؛ ومرة أخرى اختنق صوت إبراهيم بالبكاء، وغالب نفسه بكلتا يديه يضغط بهما على وجهه حتى غلبها، وهنا نهض وغاب عني دقيقة ثم عاد يحمل بين يديه علبة مكسوة بالقطيفة الحمراء، وفتحها وأشار إلى الوسام الموضوع في داخلها، وقال: إنه وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، منحتني إياه الدولة عن غير طريق الزملاء والأصدقاء، فوزني عند هؤلاء أخف من الهباءة العالقة في هواء ساكن، أتعرف يا فوزي ماذا كتب لي أحدهم في خطاب؟ قال ما معناه: اعلم يا فلان بأنك رجل لا قيمة له، وإذا ظننت غير ذلك كنت غارقا في أوهامك التي سببتها لك عزلتك عن الناس! ثم أضاف صاحب الخطاب إلى تلك القذيفة أن عيرني ببصري المفقود، وجاء ذلك كله تتويجا منه «لصداقة» دامت بيننا أكثر من ثلاثين عاما؛ إلى هذا الحد يتميز من غيظ مكتوم بعضنا تجاه بعض إذا ما ربطتنا أواصر «الصداقة»! أرأيت ماذا أبكاني عندما جاءني تقدير الدولة عن غير طريق الزملاء و«الأصدقاء»!
هنا أسرعت إلى تغيير الموضوع لأخرج إبراهيم من لوعة الأسى التي أخذت تتزايد كلما مضى فيما كان يتحدث فيه، لم يكن عهدي بإبراهيم أن تصدر عنه تلك النبرة الحزينة ردا على إساءة من آخرين؛ إنه الأحدب هو الذي عهدته في أمثال تلك المواقف، وذلك هو ما يحملني على القول بأن إبراهيم الخولي المتزن الرصين، لا بد أن يكون قد أصابه تغير في صميم كيانه، متأثرا في ذلك بصحبته في أعوامه الأخيرة للأحدب، ولا عجب في أن يتقاربا؛ لأن كليهما كاتب، ولأن كليهما كذلك متمرد على الشائع المألوف. كان إبراهيم أول الأمر يتمرد بمنطق عقله، وكان الأحدب يتمرد بدفقة عواطفه، وها هما آخر الأمر قد تقاربا فتشابها.
كان واضحا لي عندما زرت إبراهيم في منزله أنه يقيم وحده؛ فلا زوجة ولا أطفال، وكنت لأعوام طويلة قبل ذلك لا أدري من أمر زواجه أو عدم زواجه شيئا؛ أما الأحدب فقد كنت أعلم عنه يقينا أن قلبه قد جمد عند حبيبة صباه، فلا هو قد ظفر بها ولا قلبه طاوعه بعد ذلك أن يظفر بسواها.
كنت أجلس مع إبراهيم في غرفة مكتبه، وقد استوقف نظري في بيته كله، وفي غرفة مكتبه بصفة خاصة، نظافة ونظام لم نألفهما عند غير المتزوجين، ولعل ذلك هو ما أوحى إلي بسؤال أوجهه إليه لأشق به طريقا لأحاديثنا غير ما كنا نتحدث فيه، عسى أن أخرج صاحبي من سحابة الحزن التي أخذت تغمره عندما دهمته الذكريات بغدر «الأصدقاء»، ففاجأته سائلا (وكأنني على يقين بأنه يعيش وحده): لماذا لم تتزوج يا دكتور إبراهيم؟ أكانت هي حياة العلم شغلتك عن نفسك؟ فارتسمت على فمه ابتسامة مصطنعة وقال: لا، لم تكن حياة العلم لتحول دون الزواج لو أردته؛ فلقد لبثت خلال الشطر الأكبر من حياتي الرشيدة لا أحتكم فيما أفعله وما لا أفعله إلى حكم عقلي وحده. كان ذلك قبل أن تدب الشيخوخة في عظامي، وكان «العقل» يتلفت حوله فيمن يعرفهم من الأزواج، فلا يلحظ بين الزوج والزوجة إلا تضادا، كأنما خلقت بيوت الزوجية لتجمع أضدادا بين جدرانها. كان أبو العلاء المعري يقصر هذا التضاد المضحك على رفات الموتى في قبورهم، إذ قال:
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
لكنني وسعت من الدائرة لأضيف البيوت إلى اللحود في تزاحم الأضداد بين جدرانها ...
Shafi da ba'a sani ba