لم يقل الموظف فيما قال كلمة باطل؛ كل ما قاله حق، لكنه حق وقع على قلب إبراهيم وقع الحناجر، لماذا؟ ألم يكن إبراهيم هذا مفتونا بمنطق العقل، لا يبتغي لنفسه وللناس إلا كلمة حق يقرها عقل لم تضعفه عاطفة؟ فما الذي هزه وقلب كيانه من قولة حق؟! إنه إذن لم يعد هو إبراهيم الذي عهدته قبل ذلك وعهده الناس، وفلا بد أن يكون قد تقمص شخصية الأحدب، فامتزجت في إهابه عاطفة بعقل، وعقل بعاطفة. •••
كان ذلك هو غروب العمر قد حانت ساعته ولاحت بوادره، لكن صاحبنا إبراهيم قد أخطا الحساب؛ فلئن كان ذلك غروبا؛ فهو إذن غروب قد طالت ساعته وكأنه الغروب لمن يسكن منطقة القطب في فصل الصيف، وإلا فهل علم إبراهيم عندما حذف اسمه من قائمة الأساتذة العاملين، أن ما يقرب من عشرين عاما سيحياها بعد ذلك أنشط ذهنا وأخصب إنتاجا، وأكثر إبداعا للفكر الأصيل المبتكر مما كان في أي مرحلة من مراحل عمره؟ لكن ذلك هو الواقع الذي كان، فكأنما سنة التقاعد - كما يسمونه - هي بذاتها سنة مولد جديد، أو قل إن الشجرة التي دفنت بذرتها في الأرض ولبثت تنمو بجذعها وفروعها عقودا متوالية من السنين، قد حان لها أن تخرج ثمارها وأزهارها.
فمن لحظة الموت - أو ما ظنه إبراهيم يومئذ إيذانا بموت وشيك - جاء بعث جديد؛ وذلك أن عرضت عليه وزارة الثقافة بمصر أن ينشئ لها مجلة للفكر ، وأن يتولى رئاسة تحريرها، فاختار للمجلة أن تختص بأفكار عصرنا الذي يقلنا على أرضه بكل ما تنفجر به من قنابل، ويظلنا تحت سمائه بكل ما تنزله علينا تلك السماء من سهام الدمار؛ لكنه عصرنا، ويستحق منا أن نحيا به وفيه، ليحيا هو بدوره بنا وفينا. وعلى بركة الله وبمشيئته صدرت المجلة تحمل في كل عدد من أعدادها صوتا مسموعا لصاحبنا إبراهيم في إهابه الجديد، ينادي في الناس بألا يكون الفيصل في الفكر إلا النضج والعمق والصدق، ولنترك سوانا من عباد الساسة ليمرحوا في العراك بين يمين ويسار.
وأمسك إبراهيم بزمام سفينته الفكرية تلك يسير بها لترسو هنا أو هناك حيث الكنوز، وفجأة وقعت على سفينته صاعقة من الصواعق التي نألفها في حياتنا المصرية؛ وذلك أن جاء في وزارة الثقافة مسئول، أبى إلا أن يحول شئون الفكر إلى إدارات ومديرين، فقال: لنجعل لمجلات الوزارة «إدارة» ولنجعل لكل مجلة «لجنة» تشرف عليها. فها هنا هاج «الأحدب» الذي كمن في صدر إبراهيم، وسأل: إذا كان الأمر كذلك ففيم اختياري رئيسا للتحرير؟! ولماذا لا أترك مقعدي لأصغر طالب من طلابي؟! لقد كانت المسألة عنده قبل ذلك «رسالة» يريد أداءها، فهل يرضى أن تصبح على يديه أوامر تهبط عليه من مديرين، وتشرف لجنة على حسن التنفيذ؟! اللهم لا. وأرسل إبراهيم برقية في صباح اليوم التالي، وكأنما الأحدب هو الذي أملى عليه عبارتها، يتنحى بها عن المضي في الطريق التي رسمت له، لكن المسئول الكبير نفسه الذي خطط الطريق، هو الذي اتصل بإبراهيم ليؤكد له أنها «شكليات» لا تعنيه، فاستأنف إبراهيم سيره على دربه، ولكن في كثير من وساوس القلق.
ففي ذلك الوقت نفسه الذي وجد شخصيته فيه مشدودة بين قطبين متناقضين، قطب فيهما هو شعور إبراهيم باحترامه لنفسه ووثوقه بأنه إنما يضطلع نحو أمته برسالة ثقافية، مؤداها أن يترك للعقل - وللعلم بالتالي - أن يحتل مكانه ومكانته في حياتنا العامية، وأن ينحصر الوجدان في دائرته الخاصة به، والتي يسترشد فيها الإنسان بقلبه المؤمن العاطف الشاعر؛ أقول : إن صاحبنا إبراهيم، الذي امتص في كيانه عندئذ بعدا انفعاليا من رفيقه الأحدب حتى كاد الرجلان أن يندمجا في هوية واحدة؛ إن إبراهيم هذا قد ارتج بنيانه ارتجاجا عنيفا، عندما ظن واهما أنه صاحب رسالة ثقافية، فإذا الكلمات تأتيه من أولي الأمر في وزارة الثقافة لتشعره بأنه بمثابة «موظف» كلفته الوزارة بمهمة يؤديها؛ ولذلك فقد عينت «مديرا» «لإدارة» المجلات (!) ليكون له التوجيه، كما عينت «لجنة» ليكون لها الإشراف، ويشاء الله في اللحظة نفسها أن يحدث حادث آخر من شأنه أيضا أن يرد صاحبنا إبراهيم الأحدب (وهو الاسم الذي أطلقته على شخصية إبراهيم الجديدة) إلى صوابه إن كانت أوهامه قد طارت بصوابه في عالم الضباب والسحاب، وهو أن صاحبنا كان عضوا في لجان المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (كما كان يسمى في ذلك الحين)، لكنه كان دون سائر الأعضاء كثيرا جدا ما يطلب منه في شيء من الرجاء، أن يكتب - نيابة عن المجلس - موضوعات تقدم في مناسبات مختلفة كالمؤتمرات الثقافية وما إليها؛ مما أوحى إلى صاحبنا أنه موضع تقدير خاص، وإذا به يباغت بموقف أو موقفين عرف منهما كم هو قليل الشأن عندهم في اللحظات الحاسمة، فانفعل انفعالة أحدبية وأرسل إلى الأمين العام للمجلس استقالته من اللجان التي كان عضوا فيها؛ فما أسرع - وا دهشتاه - أن أجابه الأمين العام بقبول استقالته، فلو كان إبراهيم الخولي هو نفسه إبراهيم الخولي الذي عهدته طوال السنين ملتزما أحكام العقل وحده، لما حزن واضطرب؛ لأنه قدم استقالته فقبلت الاستقالة، فأي غرابة في ذلك؟! لكنه كان قد أصبح شخصا جديدا باندماجه في الأحدب أو اندماج الأحدب فيه، وبات العقل عنده مبطنا بعاطفة، نعم؛ فلقد حزن إبراهيم واضطرب، قائلا لنفسه: إنه لو كان في منزل الأمين العام طاه طها له الطعام لعشر سنوات كالسنوات العشر التي كنت قضيتها عضوا في لجان المجلس، ثم قدم له الطاهي استقالة مفاجئة، لسأله: ما الذي أغضبك يا عم إبراهيم؟ محاولا بذلك أن يرأب الصدع إذا كان ثمة من صدع في العلاقة بينهما؛ أما إبراهيم الأستاذ الجامعي والكاتب وعضو اللجان الثقافية، فلا بأس في أن يستقيل في أي لحظة شاء.
فلا غرابة - إذن - أن تمتلئ نفس إبراهيم الأحدب بوساوس القلق، وكان مما ذكره لي إبراهيم بعد ذلك بنحو شهر، أن وزير الثقافة يومئذ دعاه لمقابلته، فلما تم اللقاء، بدأ الوزير بعتابه لأن إبراهيم لم يزره بمناسبة توليه منصب الوزارة، فأجابه إبراهيم معتذرا بأنه يعتقد أن الصواب هو أن ينصرف كل إلى عمله، فقال الوزير ما معناه: دعنا من ذلك، لقد بلغني أنك استقلت من لجان المجلس الأعلى، فلماذا؟ قال إبراهيم: اسمح لي يا سيادة الوزير بعشر دقائق أنفض فيها شيئا مما بنفسي من عوامل القلق، ولن أزيد عليها دقيقة واحدة؛ إنني أستاذ جامعي بلغ سن التقاعد، وأصبحت العلاقة بينه وبين الجامعة هي علاقة الأستاذ غير المتفرغ، وأريد بذلك أن أقول إنه لم يعد لي مستقبل أرجوه؛ لأن مستقبلي هو هذا الذي أعيشه الآن؛ ومعنى هذا هو أنني بما سوف أقوله من ملاحظات لا أبتغي لنفسي نفعا ولا أدفع عن نفسي ضرا، إنني أنظر في كل عام إلى الفئة القليلة من طلابي الذين ألمح فيهم الرغبة والقدرة على خوض الحياة الفكرية والثقافية العامة، لكنني أتساءل: ماذا يا ترى هم فاعلون برغباتهم تلك وقدراتهم؟ إنه من الطبيعي لهم أن يديروا أبصارهم ليروا من الذين يحبسون في مقاعد الإمارة والإدارة والصدارة في تلك الحياة العامة؟ لعلهم يترسمون خطوهم فيصعدون كما صعد أولئك الأفذاذ؛ وإذا هم يرون عددا ليس بالقليل من أمراء الحياة الفكرية والثقافية قد بلغوا عروش الإمارة بغير كتاب - ولا حتى ورقة واحدة - بيمينهم أو بيسارهم، فكيف - إذن - أجيز لهم الصعود بغير جواز للمرور؟ يسأل شبابنا الواعد سؤالا كهذا، وسرعان ما ينكشف لهم الغطاء عن حقيقة رهيبة، وهي أن بلوغ القمم في دنيا الفكر والثقافة عندنا، ليس شرطه الصعود على سلم الفكر والثقافة درجة درجة، بل وسيلته الأولى هي الطيران على رءوس تلك الدرجات بمعونة من صاحب السلطان، وما دام الأمر كذلك - هكذا أتصور شبابنا الواعد يهمس لنفسه كل عام - فهيا إلى البحث عن أصحاب السلطان، وإلى الجحيم بالدفاتر والمحابر ...
كان إبراهيم الأحدب في مثل هذه الحالة القلقة المتوترة، فسافر إلى الإسكندرية لعل هموم نفسه أن تنزاح بسحر البحر وهدير موجه، وكان الوقت هو الأيام الأخيرة من العام، وكانت المصادفة اللافتة للأنظار هي أن رأس السنة الهجرية الجديدة ورأس السنة الميلادية سيلتقيان معا في يوم واحد، ثم كانت إرادة الله سبحانه وتعالى هي أن ترد إلي رسالة من إحدى الجامعات العربية تدعوني إلى التعاقد معها على العمل أستاذا للفلسفة، فلم أتردد لحظة واحدة، وأسرعت على جناح البرق لأجيب بالقبول؛ وبهذا أجد الفرصة التي أنجو بنفسي فيها من الأزمة النفسية التي أوقعني فيها الأمين العام للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ومن التوتر العصبي الذي أصابني عندما أراد المسئولون في وزارة الثقافة بأن يوحوا إلي بأنني لا صاحب رسالة ثقافية ولا يحزنون، وإنما أنا عامل بالأجر القليل، يدار له أمره ويشرف الرؤساء على شئونه.
وما إن أرسلت برقيتي تلك وعدت إلى الفندق الذي أقيم فيه - هكذا روى لي إبراهيم عن تلك الفترة من حياته - حتى خطرت في رأسي خاطرة كانت كأنها لمعة من لمعات الإلهام، وهي أن التقاء السنة الهجرية الجديدة والسنة الميلادية الجديدة في رأس واحد إنما هو رمز أقرأ فيه توجيها لما ينبغي أن أنصرف إلى عمله عندما يستقر لي المقام في ذلك البلد العربي الذي دعاني، وما ذلك العمل إلا أن أبدأ لنفسي في موقف ثقافي جديد، أحاول فيه أن أجمع عنصرين معا في نسيج واحد، موروث الثقافة العربية وحصيلتي من ثقافة الغرب، فأكون بهذا الجمع عربيا ومعاصرا في آن معا. •••
كان إبراهيم الخولي أول ما عرفته - وقد كان ذلك وهو في أخريات شبابه؛ أعني حين كان في نحو الأربعين من عمره - أميل إلى التجريد في فكره؛ بمعنى ألا يصب فكره المنطقي الصارم على مشكلات حقيقية مما يعترض الناس في حياتهم؛ ولذلك فكثيرا ما وصفه الواصفون بالصورية التي لا تنفع الناس ولا تشفع له. ولعل تلك الصورية البادية في نهجه الفكري عندئذ قد جاءت من حرصه على منطقية الفكر حتى يصبح وكأنه معادلات رياضية؛ ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى فلعل تلك الصورية قد أحدثتها عنده بعده عن الناس وهم في معمعان العيش ومشكلاته، وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة إلى إبراهيم وهو في الأربعين أو نحوها؛ فليس هو كذلك حين رأيته وصاحبته على مقربة بعد أن اقترب من الستين أو جاوزها؛ فها هنا لا بد أن تكون وجدانية الأحدب قد نضجت على النزعة العقلية عند إبراهيم، حتى لقد كاد يصبح رجلا آخر، لا من حيث منطقية الفكر كلما اقتضى الأمر المطروح منطقا، بل من حيث اختيار الموضوعات التي يجعلها محور تفكيره؛ فموضوعاته عندئذ تدور في معظمها حول إنسانية الإنسان، والإنسان العربي بصفة خاصة، والمصري منه بصفة أخص. وإذا كان موضوع النظر هو قيم الحياة كما يعيشها الناس فعلا - فيما مضى والآن - فصعب جدا أن يجيء التفكير صوريا خاويا - أو كالخاوي - من المضمون الحيوي بخصائصه المتينة المتجسدة في مواقف الواقع.
نعم، لا بد أن يكون للأحدب على إبراهيم فضل غير قليل، في أن جعل عصارة الحياة تسري في أعواد الحطب فتينع وتحضر وتورق وتثمر.
Shafi da ba'a sani ba