56

غير أن الطبيعة البشرية تستعصي على التنبؤ فيما يبدو، فآخر ما كان يتوقعه الأحدب في أخيه أن يراه - وكان في نحو السابعة عشرة من عمره - قد تغير من النقيض إلى النقيض في كثير من جوانب حياته، فبين عشية وضحاها انقلب الشاب المرح شابا غارقا فيما يشبه الحزن العميق، الذي تسكن فيه الجوارح وتهدأ الحركة ويقل الاهتمام بأي شيء، بين عشية وضحاها تبدلت الضحكات البريئة المرحة عبوسا وزما للشفتين وهموما تطفئ بريق العينين. ما الذي أصاب فتانا ومصدر بشرنا وموضع رجائنا؟ الله وحده أعلم؛ فالأحدب إلى هذه الساعة لا يعلم، لكن ذلك التحول المفاجئ العجيب كان كذلك نقطة تحول في علاقة الأحدب بأخيه؛ فلم يعد يستطيع بعدها أن يجعل منه لعبته كما كان يفعل قبل ذلك، ولم يعد يجرؤ على التعامل معه على أساس أنه ما يزال طفلا يجوز التحدث إليه بما يتحدث الراشدون مع الصغار، وبقي من العلاقة بينهما ذلك الحب الأخوي الصادق العميق، وذهب منها جانب الوصاية والوقاية.

وكرت الأعوام، وأصبح الشقيق الأصغر طبيبا، تشيع عنه حيثما حل قصص تروى عن طيبة قلبه وشدة عطفه على مرضاه. والحق أن ذلك الشقيق الأصغر قد اجتمعت في طباعه تلك الخصائص الأساسية التي تميز أفراد أسرته جميعا، لكنها اجتمعت فيه مكثفة في حسناتها مبرأة من سيئاتها؛ فهو متدين، متسامح، عطوف، هادئ، على شيء من الانطواء، لا يعتدي ولا يخدع، تعامله فتعامل إنسانا من البلور، لا يخفي شائبة ولا يستر عتامة؛ فهو - كما يقول الناس - جنيه من الذهب، تعرفه فتعرف قيمته.

كان أصغر الأشقاء بهذه الحسنات وأكثر منها، وكان لأخيه الأحدب حبة قلب وقرة عين وموضع زهو ومنبع حب، لكن هل تغفو عنه عين القدر لينعم بحياته صحيحة سليمة؟ كلا، بل أصابه بالعلة التي أخذت تستفحل وتستعصي، حتى انتقلت به إلى رحاب الله.

وهكذا خاب ظن الأحدب في تصاريف القدر، عندما توقع - بعد موت الكبار - أنه هو وأقرانه في العمر حل دورهم؛ فقد كتب له - أو كتب عليه - أن يذهب من الأسرة شبابها قبل كهولها؛ هكذا بالحرف الواحد سمعت الأحدب يقول في جمع من الناس بصوت مسموع، يوم رأيته في مأتم ابن عم له سقط - رغم شبابه - في مكان وقوفه ميتا.

كنت أعلم أن الأحدب يواصل الكتابة في المجلات الأدبية، وتابعت قراءة ما يكتبه مرة كل أسبوع، وكنت أزداد حزنا كلما ازداد تعبيرا عن طوية نفسه وما يحز فيها من ألم. لقد كنت حسبتني وقعت على سره الذي يفسر لي شذوذه وانعزاله، لكني تبينت أنني لم أعرف عنه بعد إلا القليل الذي لا يفسر لي هذه السياط التي راح يلهب بها جلده لغير سبب ظاهر، نعم إن الموت قد دب في أسرته حتى أطاح برءوسها فذهبت عنه الدرع الواقية وتعرى صدره للفحات الهواء، ولكن هل هذا وحده يفسر أن يكتب فيقول:

لقد عصفت العواصف بنفسي، وتجهم الأفق أمام عيني، ورأيت خريف عمري يتساقط أمامي على الأرض أوراقا صفراء يابسة، كنت أسمع لها خشخشة كأنها حشرجة المحتضر ... ونظرت فإذا بقيتي - بعد جهاد طويل - حطبة جافة من ساق وفروع، تعرت عن الورق والزهر والثمر، تعوي في ثناياها الريح عواء الأمعاء الجائعة، وليس على مرمى البصر فيها إلا اليباب؛ فخلخلت التراب حول الفرع والساق، وحملتها تجاه الغرب إلى طرف ناء من الصحراء، حتى إذا ما أغمضت الشمس جفنيها من غروب، أشعلت النار في بقيتي - وبقيتي حطبة يابسة - فتراءت من بعد أمام عيني العشواءين كأنما هي الشمس قد عادت إلى الشروق، لترسل من حر أنفاسها شعاعا جديدا، قبل أن تعود إلى مهدها في ظلام الغيب ...

فها هنا أيضا - كما كانت حاله عندما عرض جانب اللص من نفسه - أردف بنهاية فيها بصيص من أمل، هناك رأى صورة الثعبان المتسلل فوق الدرج، فتعزى بأن هناك صورا أبشع مما عهده في نفسه من تسلل إلى بطون الناس في الخفاء، وهنا يحرق حطام نفسه اليابسة، فيتوهم - في آخر لحظة - أن ضوء الحريق هو ضوء شمس آذنت له بشروق جديد ... وظللت أسأل نفسي: ماذا دهاه عندئذ حتى عادت إليه علته بعد اقترابه من العافية، ثم ماذا يصادفه في غضون بلواه فيراه بصيصا خافتا من أمل؟

قرأت له ذات يوم مقالا كتبه بمناسبة يوم ميلاده يقول فيه:

لقد سألت نفسي: لو أرخت لحياتك ودونت ما مر بها من حوادث، فماذا أنت ذاكر؟ إن من الرجال من يكتبون قصص حياتهم فإذا هي حافلة بأحداثها، تقرؤها فكأنما تقرأ قصة من خلق الخيال البارع، فأين من ذلك ما عشت من حياة فارغة جوفاء؟ وهنا رأيت الشبه ماثلا بيني وبين ساعي البريد؛ أرأيت كيف ينفق هذا الرجل حياته ساعيا بين الناس ببريده؟ إنه لا يمس «الظروف» إلا من ظاهرها دون أن ينفذ إلى قلوبها ولبابها، إنه لا يعلم من الرسالة إلا عنوانها أو بعض عنوانها، فأين ذلك من صاحب الخطاب؟ إنه يفض غلافه ويمس شغافه، ويقرأ السطور وما بين السطور، إنه يستروح من كلماته أنفاس الحبيب، أو هو ينظر إلى الألفاظ فإذا هي ألحاظ الصديق ناظرة إليه تباسمه وتناجيه ... لكأنني من هذه الحياة إزاء مدينة حصينة سورت بمنيع الجدر، ولكأنني منها طواف يطوف حولها ويطوف، ثم لا يجد إلى جوفها من سبيل ... صه! أذلك همس؟ إنهما حبيبان يتغازلان، أتلك ضحكات طروب؟ إنها جماعة مرحة نشوانه، أذلك أنين؟ إنه بكاء حزينة ثكلى، يا ويح نفسي! أريد أن أهمس كما يهمس الهامسون، أريد أن أضحك كما يضحك الضاحكون، بل أريد أن يكون لي في حياتي ما أبكيه وأرثيه! أين - يا صديقي - الجواز الذي يبيح لي الدخول في هذه المدينة الصخابة فأشتريه؟ ... رأيت الناس ذات صيف حرور يصطافون، فأقسمت لأكونن كسائر عباد الله مصطافا، ذهبت إلى الشاطئ مع الذاهبين، فسرعان ما برزت من إهابي شخصية ساعي البريد، أقف على الشاطئ ولا أغوص، الناس يمرحون في الماء ويلعبون، والأطفال يتقلبون مع الموج ويضحكون، والنساء كعرائس الماء غائصات طائفات صائحات ضاحكات، وليس لي من كل ذلك شيء. ونظرت حولي، فإذا أنا واقف بين أكوام الملابس نضاها أصحابها، ويشاء القدر الساخر أن يكون أقربها إلي حذاء مخلوع، فأدركت عندئذ في يقين أني بين هذه الأحياء كالقوقعة الفارغة، يرتسم على سطحها الحيوان ولا تحتويه، ولم أستطع أن أواجه هذا الحق المخيف، فقفلت إلى الدار راجعا ...

قرأت هذا فقلت: إن في الأمر شيئا.

Shafi da ba'a sani ba