قال: وجدت من فتحت لي بابتسامتها المنادية مصاريع العالم المسحور.
قلت: ... وبعينها التي تدعو؟
كنت ما أزال أقف على السلم بقدم على درجة أعلى والأخرى على درجة أسفل، ويد ممسكة بالحاجز الخشبي، ولم أكد أنطق بهذه الجملة الأخيرة التي استعدتها من مذكراته التي كان أعطاني إياها لأقرأها عن حياته إبان المراهقة؛ أقول: إني لم أكد أنطق بهذه الجملة حتى سبح بنظرته قليلا، في مزيج من الدهشة ومحاولة التذكر، لكن سرعان ما عاد إلي بوعيه، قائلا إن القصة طويلة، والموعد قد دنا؛ فهيا معي، وسأحدثك عن الأمر في الطريق.
وأخذنا ننزل الدرج معا، وسألته ونحن نازلان: موعد مع من؟
قال: مع سميرة وزوجها؛ لكنك لا تعرف بعد من سميرة هذه.
وهنا كنا قد خرجنا من الباب إلى الطريق، ومال بنا نحو اليمين، وهو اتجاه يضاد الاتجاه المؤدي إلى مكان اعتزاله الذي يأوي إليه بعد الغروب من كل مساء، وأذن فقد حدث ما غيره من نقيض إلى نقيض، فما ذاك يا ترى؟ أتكون سميرة هذه هي الشيطانة التي ألهبت جوانحه ذات يوم من شهر الصيام، وهو لم يزل على عتبة الشباب؟
على أننا ما كدنا نستوي على الطريق - وكان مزدحما بالمارة ازدحاما شديدا، حتى لقد كنت أنا والأحدب كثيرا ما ينفصل أحدنا عن الآخر في الزحام ثم نعود فنلتقي - ما كدنا نستوي على الطريق حتى أخذ يقص علي في نشوة الطفل الفرح المغتبط بقصة يرويها لأبيه عن مردة الجن، كيف ذهب ذات مساء - أثناء غيبتي بالإسكندرية - إلى كازينو الشاطئ، ولم يكن يعلم أنه غاص بمرتاديه إلى ذلك الحد الذي رآه، وبحكم عادته في إيثار العزلة، اختار منضدة على الطرف الأقصى حيث يقل المرتادون، وبينما هو يتهيأ للجلوس، إذا بالرجل والمرأة الجالسين على المنضدة المجاورة يتلفتان إليه تلفت من يحاول التذكر، وأما هو فإزاء هذا التطلع منهما فقد جلس ونصف ظهره إليهما، حتى يحرمهما من رؤية وجهه رؤية واضحة، وفي الوقت نفسه لا يحرم هو إرسال بصره تجاه النيل، لكنه سرعان ما تذكر أنه بهذا الوضع إنما يعرض عليهما تشويه ظهره، فاستدار ليجلس مستقيما، وجهه إلى النيل، وصفحة وجهه اليمنى إلى الجالسين بجواره.
لم يكن التطلع مقصورا على ذينك الجارين، لكنه ما لبث أن امتد إليه، برغم ادعائه لنفسه أنه حبيس أنفاسه، مكتف بذاته، يحيط نفسه بأسوار من وهمه حتى لا ينفذ أحد إلى حصنه، يقول لي الأحدب وهو يروي قصته - ونحن ما نزال نشق طريقنا في الزحام، وكثيرا ما قطع الزحام حديثه عند كلمة في سياق الرواية، فيعود لاهثا ليكمل الحديث حيث انقطع، وكان الأحدب أقصر مني بمقدار ما احدودب ظهره؛ ولذا فقد كان يضطر أن يشرئب بعنقه نحو مسمعي؛ يقول لي الأحدب وهو يروي قصته، إنه - بدوره - قد أخذ يتطلع خلسة، فكان كلما وجه النظر إليهما، وجدهما ناظرين إليه بأعين غامضة، فيعود منسحبا بنظرته كأنما يريد أن يخفي عنهما أنه هو كذلك ينظر.
ثم ما هو إلا أن هتف في دخيلة نفسه هاتف ارتج له قلبه بنبضة قوية كأنها جاءت نبضة زائدة على مجرى النبض المعتاد؛ ذلك أنه تذكر مؤخرا - كالصدى يجيء بعد النطق - أنه بنظرته الأخيرة إليهما قد لمح في المرأة سنة أمامية لها بروز خفيف وتفصلها عن السنة المجاورة فجوة صغيرة، ولم يكن قد تنبه إلى شيء إذ هو ينظر إليها نظرته الخاطفة، فما إن اعتدل في جلسته حتى جاءه الهاتف يهتف بل يصيح: أتكون هي؟
واستطرد الأحدب يقول لي كيف أنه أعاد النظر بلفتة حادة سريعة جاءت رغم أنفه، فإذا هما يقطعان باليقين ما كان عندهما موضع شك، ونادت المرأة بصوت أبح: رياض!
Shafi da ba'a sani ba