لكنني كذلك لا أنسى قسوة مدرسينا في المدرسة الابتدائية - من مصريين وسودانيين - قسوة جاوزت كل حد معقول، وكانت لهم فيها فنون. كان مدرس الجغرافيا شيخا سودانيا، وكان يطلب منا أن نحفظ خمسين صفحة من صفحات الكتاب بين ليلة ويوم، بحيث نتلوها كما تتلى الفاتحة - على حد عبارته - وإلا فسوطه القصير المخبأ في كم ردائه على استعداد أن يهوي فوق الظهور، ولم يكن مدرس اللغة الإنجليزية يكفيه أن تمد له الأكف ليضربها بالمسطرة - والمسطرة عنده هي أداة العقاب - بل كان يضفر قلما في أصابع اليد، ثم يضرب على ظهر الكف لا على بطنها، وبسن المسطرة لا بعرضها، وكانت العقوبة عند مدرس اللغة العربية جلوسا على الركبتين فوق البلاط، وقد لا يكتفي بذلك فيجعل حصاة تحت كل ركبة، ثم قد يضيف إلى هذا وذاك رفع الذراعين إلى أعلى؛ وأما ناظر المدرسة فكانت طريقته أن يستعين بمدرس الألعاب الرياضية و«جلدته»، فيجيء فراشان ويشدان المذنب المعاقب على ظهر كرسي من الخيزران، فينثني المعاقب فوق ظهر الكرسي، وكل فراش ممسك بذراع، ومدرس الألعاب يضرب بالجلدة على مؤخرة الجسم عدد الجلدات الذي يقرره حضرة الناظر، وكان في المدرسة مدرسان للألعاب الرياضية، كانا «صولين» في الجيش أكملا فترة التجنيد، أحدهما يدعى إبراهيم والآخر يدعى فرنسيس، وكلاهما مصري؛ أما إبراهيم فشديد السمرة غليظ الكبد لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا؛ وأما فرنسيس فأشقر اللون أصفر الشعر طيب القلب رحيم، إذا أمر بجلد تلميذ فتراه ينزل الجلدة خفيفة؛ ولذلك كان الناظر حريصا دائما على أن يكون إبراهيم هو أداته في تنفيذ العقاب.
وننتقل إلى المدرسة الثانوية فيتغير المنظر تغيرا جوهريا؛ فالتدريس هنا كله بالإنجليزية، والمدرسون أكثرهم إنجليز، ومن أول المدرسة الثانوية يبدأ التخصص المهني، لينتهي بنهايتها، لكن هذا التخصص كان يتركز في السنتين الأخيرتين، ففيهما يكون قسم للمهندسين، وقسم للمدرسين، وقسم للقضاة الشرعيين وهكذا.
على أن أهم ما يميز الدراسة هو الحياة الاجتماعية والرياضية؛ فالتلاميذ مقسمون إلى «بيوت» أربعة، وهو ما نسميه في مدارسنا المصرية بنظام الأسر، يختص كل بيت من البيوت الثلاثة الأولى بالتلاميذ الوافدين من جهة معينة من جهات السودان، فهؤلاء من الجنوب، وأولئك من الشرق أو من الغرب؛ وأما البيت الرابع فلتلاميذ «الخارجية» ومن هؤلاء كان المصريون جميعا.
وكانت كرة القدم إجبارية على التلاميذ كافة، فيقسمون أحد عشر درجة بحسب قدراتهم، وكلما أظهر اللاعب قدرة ارتفع إلى فريق المستوى الأعلى، حتى يصل إلى الفريق الذي يلاعب الفرق الخارجية باسم المدرسة، وكانت كلية غوردون محاطة بملاعب لكرة القدم كثيرة العدد، حتى لتمتد رقعتها إلى مسافة بعيدة.
ولا أذكر هذه الملاعب إلا وأذكر عقوبة أمر علي بها الرئيس الإنجليزي الذي يشرف على «البيت» ألذي كنت أنتمي إليه؛ وذلك لأنني أخرجت ساعتي خلال الدرس، وكانت العقوبة أن تؤخذ مني الساعة أولا، وأن أظل ثلاثة أسابيع مدة ساعتين كل يوم أجمع الأحجار الصغيرة التي قد تكون مخبوءة في العشب النامي على الملاعب، على أن يكون ذلك بالطبع بعد نهاية اليوم الدراسي نحو الساعة الرابعة عصرا، وأشهد أن تمتعت خلال هذه العقوبة أكثر مما تألمت؛ لأنني كثيرا ما كنت أنعم بالجلوس مع الزملاء «الداخلية» على العشب - وكانوا يجلسون حلقات حلقات - وأشرب معهم الشاي الجيد بلونه الذهبي في أكوابه الخاصة، والذي كنت أعجب له أنهم يجلسون بجلابيبهم البيضاء على العشب فلا تتسخ، وأجلس ببذلتي البيضاء فأقوم وعليها رقعة خضراء، (كانت الثياب البيضاء شرطا واجبا؛ فالسودانيون يلبسون الجلابيب البيضاء والعمائم السودانية البيضاء، والمصريون يلبسون بدلات بيضاء، وأربطة عنق سوداء، على ألا يكون الحذاء إلا بني اللون)، وقد تفتقت حيلتي ذات عصر عن طريقة ظننتها تنجيني من تلك الرقعة الخضراء إثر الجلوس مع الزملاء على العشب ساعة الشاي، وهي أني خلعت حذائي وجلست عليه، فإذا الرقعة هذه المرة مزيج من البني والأخضر، وأسأل نفسي الآن: ولماذا لم أستخدم ورقة أو منديلا فرشا أجلس عليه، ولا أستطيع الآن أن أقع على التعليل لأني نسيت.
على أن أهم ما أقلقني من تلك العقوبة - فضلا عن الرقع الخضراء التي كنت أعود بها كل يوم فتستشيط أمي غضبا - هو ساعتي وضياعها؛ لأني أخفيت أمرها عن والدي، وكنت في خشية دائمة أن يجيء الوقت الذي أسأل فيه أين الساعة؟ فلا أجد الجواب، لكن الله سلم في آخر لحظة من العام الدراسي؛ فبينما أنا هابط السلم مع طابور التلاميذ إذ ناداني العريف (رئيس البيت من الطلاب) وأخذني إلى غرفته حيث أعطاني ساعتي بعد نصح وتقريع، فأخذتها وهرولت أنزل السلالم درجتين درجتين، وأنا أصيح بأعلى صوت لأسمع أخي الذي سبقني مع الطابور:
فلعلها ولعلها ولعلها
ولعل من عقد الأمور يحلها.
لكني لا أكتب هذه المذكرات لأقص تاريخا، بقدر ما أكتبها لأتعقب علتي إلى جذورها؛ فمهما يكن لزملاء كلية غوردون علي من فضل؛ فقد أساءوا إلي - من حيث لا يشعرون - إساءة لا أخطئ كثيرا إذا قلت إنها كانت هي الحد الفاصل بين أن أكتم علتي في جوفي وبين أن يفلت مني زمامها فتخرج - خرجت - قتبا على ظهري؛ وذلك أنهم غرزوا في أعماق نفسي عقدة نقص ما زالت تسيطر علي إلى يومي هذا، ثم ما زالت تتفرع في شعاب النفس أشكالا وألوانا، كأنها الأخطبوط، إذا بترت منه خيطا نبتت خيوط.
والبداية بسيطة ككل البدايات! ذلك أن صغار الزملاء قد أدركوا - ونحن بعد في أول المرحلة الابتدائية - ما في بصري من قصر ملحوظ في زري لعيني اليمنى كلما أردت النظر إلى شيء، وأعجب العجب أني لم أكن أعلم قبلئذ أن بصري يقصر دون أبصار الناس، كلا ولم يكن يعلم ذلك أحد من أهلي، حتى وجدته موضع السخرية من هؤلاء الزملاء الصغار.
Shafi da ba'a sani ba