وقد قيض للملك سليمان أن يحوز في مقدسات المنطقة وتاريخها، شهرة لا تضارع، ربما لأنه أشهر ملوك اليهود، وربما لأنه ضرب بالأنبياء المتنبئين عرض الحائط - كما تقول التوراة - ولم يسر وراء الشعوذات وركز اهتمامه في الشئون الدنيوية وفق خطط عقلانية، فتغنوا بحكمته وربما أضاف إلى ذلك ميوله الفنية التي دفعته إلى بناء قصره، والهيكل وفق أحدث الطرز المعمارية، فجلب لهذا الغرض فنانين من مختلف الأقطار المحيطة بدولته، وأشرف بنفسه على عمليات البناء والنحت والتشكيل والتجميل والنقش.
أما الباحث أحمد سوسة فيقول: «أما الوصف الذي اعتاد الباحثون ترديده عن اتساع وامتداد حدود مملكة سليمان فيعده أكثر الباحثين من قبيل المبالغات، التي درجت عليها دويلات تلك العصور. والحقيقة أن مملكة سليمان التي تبجح بعظمتها، كانت أشبه بمحمية مصرية مرابطة على حدود مصر، قائمة على حراب أسيادها الفراعنة ... وكان سليمان يريد أن يجاري الفراعنة في البذخ، والظهور بما هو فوق طاقاته وإمكانياته الاقتصادية ... فأثقل كاهل الشعب بكثرة الضرائب ... ولما عسر على سليمان أن يحتل أرض الفلسطينيين الساحلية، طلب معونة فرعون مصر، فأرسل جيشا مصريا صغيرا احتلها له وسلمها إليه، مهرا لابنته.»
ثم يتساءل «سوسة»: «كيف صور كتبة التوراة مملكة سليمان، صورة تفوق الواقع بكثير ... فسليمان لم يكن وهو في أوج مجده إلا ملكا صغيرا يحكم مدينة صغيرة، وكانت دولته من الهزال وسرعة الزوال، بحيث لم تنقض بضعة أعوام على وفاته، حتى استولى شيشنق أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم.»
ويجيب «أحمد شلبي» على التساؤل، فيوضح الأسباب التي أدت إلى هذه الشهرة بقوله: «إن أمور مصر في عهده كانت مرتبكة فخفت هيمنتها على فلسطين وبلاد الشام، وكانت أمور الدولة الآشورية مرتبكة كذلك، وقد منح هذا لداود شيئا من حرية الحركة والنشاط، والتبسط في ممارسة السيادة.» أما ما جاء عن «قصة ملك سليمان وحكمته»، التي أوردها الكتاب المقدس، فقد تعرضت لحشو وإضافات على نطاق واسع، على يد كاتب متأخر شغوف بالمبالغة، في وصف رخاء عصر سليمان، موله بتمجيد حكمه ... وقد استطاعت هذه الرواية أن تحمل العالم المسيحي، بل والإسلامي، على الاعتقاد بأن الملك سليمان كان من أشد الملوك عظمة وأبهة ... لكن الحق أنه إذا قيست منشآت سليمان بمنشآت تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر، فإن منشآت سليمان تبدو من التوافه الهينات ... أما مملكته فهي رهينة تتجاذبها مصر وفينيقيا، وترجع أهميتها في معظم أمرها، إلى ضعف مصر المؤقت.
2 (ومن المناسب أن نوضح من جانبنا أنه لم يكتشف نص واحد حتى الآن، لا في مصر، ولا في نصوص الرافدين، يشير من بعيد أو قريب، إلى ملك باسم سليمان أو داود أو شاءول. وهو أمر غريب بالقياس إلى ما ادعته التوراة عن شهرة المملكة السليمانية!)
والمهم أن هذا النفوذ السليماني المزعوم، قد انتهى بانقسام المملكة من بعده إلى دويلتين: واحدة في الشمال سميت إسرائيل وعاصمتها السامرة، وأخرى في الجنوب سميت يهوذا وعاصمتها أورشليم. ولم تلبث المملكة الشمالية أن وقعت في قبضة الرافديين الآشوريين، بعد أن سحقها العاهل الآشوري سرجون الثاني، بينما انتهت المملكة الجنوبية يهوذا إلى المصير ذاته على يد العاهل البابلي الكلداني نبوخذ نصر الثاني، وذهب ألوف من كليهما أسرى إلى بابل وآشور، وهناك ظلوا في الأسر حوالي أربعة قرون.
وفي العقود الأخيرة من القرون الأربعة ظهرت في الأفق دولة كبرى جديدة في إيران هي دولة الفرس، بقيادة رجل حديدي غير عادى هو «كورش»، الذي اتجهت طموحاته إلى الاستيلاء على بلاد المشرق وتكوين إمبراطورية كبرى، وكان لحنكته السياسية دورها الحاسم في تحقيق أحلامه، فقد قبل عروضا بتعاون اليهود وعلى رأسهم «أشعيا» و«إرميا»، بموجب شروط ومطالب محددة لليهود، وعلى رأسها تحريرهم من الأسر وعودتهم إلى أرض كنعان لإقامة هيكلهم ودولتهم مجددا، مما انتهى بفتح أبواب بابل للفرس.
و«يخبرنا المؤرخ اليهودي يوسفيوس
3
أن كورش أرجع كل انتصاراته إلى الرب الذي يؤمن به اليهود، لذلك صمم على إعادة بناء بيت له في القدس ... وتشير المصادر اليهودية إلى أن كورش قام بإعادة اليهود المرتحلين من بابل إلى القدس مجددا خلال العام الأول من احتلاله لها، وقد فرح اليهود بذلك واعتبروه المسيح المنتظر ونقرأ في سفر إشعيا: هكذا يقول الرب لمسيحه كورش ... الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمما وملوكا ... لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك إليه، إسرائيل (إشعيا 45: 3) ويقول العهد القديم بأنه تزوج إستر اليهودية وجعلها ملكة على بابل».
Shafi da ba'a sani ba