ولأن اليهود يعدون أنفسهم في الأسطورة أبناء سام، فكان لا بد من التصفية، التي بدأت باستبعاد حام وبنيه من التاريخ المقدس، وهو في التوراة أبو كل من «كوش» أو الزنوج، و«مصرايم» أبو المصريين و«كنعان» أبو الكنعانيين، أصحاب الأرض المطلوب الاستيلاء عليها، لبني سام. ولا مجال للاستبعاد، إلا أن يأتي حام وبنوه منكرا، لخصته التوراة في القول: إن نوحا بعد هبوطه السفينة، قد شرب خمرا حتى ثمل، وتعرى من ثيابه ثم غاب عن وعيه «فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه ... فأخذ سام ويافث الرداء ... وسترا عورة أبيهما ... فلما استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام، ليفتح الله ليافث، فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم» (تكوين 9: 20-27).
وواضح من هذه التصفية الأخلاقية، والتي كان الملام فيها أصلا - حسب الرواية التوراتية - نوح ذاته، القصد باستبعاد الكوشيين الأحباش والمصريين من التركة المقدسة، مع التركيز على استبعاد كنعان بن حام بوجه خاص مع خصه باللعنة والعبودية لسام، رغم أنه لم يشاهد العورة النوحية ولم يرتكب ذنبا، إنما كان الذنب ذنب الجد الذي سكر، وذنب الأب حام الذي شاهد هذه العورة وعاينها.
ثم تمطر التوراة بركاتها على الابن سام بالتحديد والخصوص، بحسبانه الجد البعيد لليهود، ثم تركز جهودها بعد ذلك، وطوال أسفارها حول نسله المجيد، فتخبرنا أنه أنجب كل بني عابر، وتعدد بني عابر بأنهم: «عيلام» أبو الإيرانيين، و«آشور» أبو الرافديين، و«أرفخشد» أبو الأرمينيين، ثم تصطفي من بينهم «أرفخشد» الذي أنجب شالح، وأنجب شالح عابر، وأنجب عابر فالج، ويقطان أبو حضرموت (ولا ندري سرا لهذا الخلط بين أناس يعيشون في أقصى الشمال، في «أرمينيا»، وأناس يعيشون في أقصى الجنوب، في «حضرموت»). (عند مراجعتنا للبروفة الأولى لطباعة هذا الكتاب كنا قد انتهينا من كتاب: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول - دار سينا - ونظن أننا قد كشفنا فيه السر وراء هذا الخلط.)
أما فالج أخو يقطان، فقد كان هو الفرع المبارك في الشجرة المباركة فهو جد النبي «إبرام» أو «إبراهيم» الذي أنجب بدوره إسماعيل وتقرر التوراة استبعاد إسماعيل، فتقول: إن إبراهيم قد أنجبه من جاريته هاجر، وأن الأمر لم يرق لسارة زوجة إبراهيم، فأمرت بطرد الجارية وولدها فأخذهما إلى بادية من البوادي، وتركهما هناك، حيث ترعرع إسماعيل واستوطن في تلك البوادي نهائيا، تاركا الأرض للنسل الآتي، فقد أنجبت سارة حسب الرغبة التوراتية إسحق الذي تم استبقاؤه في المصفاة التوراتية ليكون جدا لليهود.
وأنجب إسحق ولدين هما: «عيسو» البكر، ثم «يعقوب». وحسب منطق القواعد السامية، كان المفترض أن يكون البكر «عيسو»، هو وريث النبوة والأرض والأملاك، لكن الذي حدث في التوراة هو العكس، بعد أن استخدمت مصفاتها مرة أخرى لاستبعاد البكر، واستبقاء آخر العنقود «يعقوب»، الذي سيكون هو «إسرائيل» أبو الأسباط أو بني إسرائيل، وقد أوردت التوراة ذلك في أسلوب طريف، في قصة أطرف لا يصح تجاوزها.
تقول القصة:
فكبر الغلامان، وكان عيسو إنسانا يعرف الصيد، إنسان برية، ويعقوب إنسانا كاملا يسكن الخيام، فأحب إسحق عيسو، لأن في فمه صيدا، وأما رفقة «الأم» فكانت تحب يعقوب ... وحدث لما شاخ إسحق كلت عيناه عن النظر، أنه دعا عيسو ابنه الأكبر فقال: ها أنا ذا، فقال: إنني قد شخت لست أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك، جعبتك وقوسك، واخرج إلى البرية، وتصيد لي صيدا، واصنع لي أطعمة كما أحب، وائتني بها لآكل، حتى تباركك نفسي قبل أن أموت، وكانت رفقة سامعة ... فكلمت يعقوب ابنها قائلة ... يا بني اسمع لقولي ... اذهب إلى الغنم، وخذ لي من هناك جديين جيدين من المعزى، فأصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب، فتحضرهما إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته، فقال يعقوب لرفقة أمه: هو ذا عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس، ربما يجسني أبى فأكون في عينيه كمتهاون، وأجلب على نفسي لعنة لا بركة ... فأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة ... وألبست يعقوب ابنها الصغير، وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعزى، وأعطت الأطعمة والخبز التي صنعت في يد يعقوب ابنها، فدخل إلى أبيه وقال يا أبي، فقال ها أنا ذا من أنت يا بني، فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك، فقد فعلت كما كلمتني، قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك فقال إسحق لابنه: ما هذا الذي أسرعت لتجد يا بني؟!
فقال: إن الرب إلهك قد يسر لي!
فقال إسحق ليعقوب: تقدم لأجسك يا بني، أأنت هو عيسو أم لا؟ فتقدم يعقوب إلى إسحق أبيه، فجسه ... ولم يعرفه لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه، فباركه ... فقال له إسحق أبوه: تقدم وقبلني يا بني، فتقدم وقبله فشم رائحة ثيابه وباركه، وقال: انظر رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب، فليعطك الرب من ندى السماء ومن دسم الأرض وكثرة حنطة وخمر، ليستعبد لك شعوب وتسجد لك قبائل، كن سيدا لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين. وحدث حين فرع إسحق من بركة يعقوب ... أن عيسو أخاه أتى من صيده ... فعندما سمع عيسو كلام أبيه صرخ صرخة عظيمة ومرة جدا، وقال لأبيه: باركني أنا أيضا يا أبى، فقال: قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك. (تك 27: 1-35)
حقيقة، إن هذا النص ذكرى وتسجيل واضح للتطور التاريخي والاجتماعي؛ فقد قرر انتهاء زمن الصيد والمجتمع غير المستقر، وظهور المجتمع المستقر (عيسو كان إنسانا يعرف الصيد، إنسان برية، ويعقوب إنسانا كاملا يسكن الخيام)، ورغم تمسك الأب بالصيد والنظام القديم، فقد كان لا بد من الانتقال ولو بالخديعة.
Shafi da ba'a sani ba