أما أبرز الشواهد على مزج روايتين مختلفتين في التكوين التوراتي فهو الكيفية التي تم بها خلق الإنسان الأول، ففي مواضع القصة نجد الخالق يخلق الإنسان دفعة واحدة، ككائن واحد، يجمع في ذاته الواحدة الذكورة مع الأنوثة «ذكرا وأنثي خلقه وباركه، ودعا اسمه آدم.» ثم يفصل عنه العنصر الأنثوي من خلال المرأة الضلع أو الضلع المرأة، بينما نجد في موضع آخر إشارة مختلفة تماما، تقول «على صورة الله خلقه ذكرا وأنثي خلقهم.» فهنا شخصان منفصلان متمايزان عن بعضهما تماما من الأصل.
ولا مجال هنا لتفسير ذلك، سوي ما أسلفناه حول طبيعة التأليه اليهودي، الذي اتخذ طورين أساسيين، أو ما أسميناهما: طور التأليه الإلوهيمي في العصر الإبراهيمي وربما قبل إبراهيم بزمان طويل، واعتمد ثالوثا يرأسه الرب الإله؛ وطور التأليه اليهودي في العصر الموسوي وما تلاه، واعتمد مجموعة بعول أو ثيران تتسم بالصفات البركانية، مع التأثيرات التي لا شك دخلت هذا السفر إبان وجود اليهود أسرى في بلاد الرافدين، حيث كان الجو الديني يعبق بسفري التكوين السومري والبابلي، وهو ما نجده واضحا في المقارنة التالية: (1)
يقول التكوين السومري: في البدء لم يكن في الوجود سوي محيط بدئي مظلم، وهذا الغمر كان هو «نمو»، وقام الإله الهواء الريح «آنليل» بالفصل في هذه المياه بين سماء وأرض.
ويقول التكوين البابلي: في البدء كان غمر مظلم أنثي هي «تيامت»، شقها «مردوخ» كما تشق الصدفة إلى قسمين: سماء وأرض.
ويقول التكوين التوراتي: في البدء خلق الله السماوات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك، ودعا الله الجلد سماء. (2)
يقول التكوين البابلي: إن «مردوخ» أظهر اليابسة على الماء بأنه على سطح الماء ضفر حصيرا، وصنع شيئا من التراب، وخلطه مع الحصير وهذا كون لوحا صلبا فوق المياه، وهو الأرض.
ويقول التكوين التوراتي: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة، وكان كذلك، ودعا الله اليابسة أرضا. (3)
ويقول التكوين السومري: إن آنليل شاء إزالة الظلمة من على الغمر، (فأظهر للعيان) بالنورين العظيمين، الشمس والقمر.
ويقول التكوين البابلي: إن «مردوخ» سلط القمر على الليل، جعله زينة في الليل، به يعرف الناس مواعيد الأيام، كذلك جعل الشمس للنهار.
ويقول التكوين التوراتي: وقال الله ليكن نور، فكان نور، ورأى الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا. وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء، لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين. لتنير على الأرض ... فعمل الله النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل. (4)
Shafi da ba'a sani ba