الإهداء
مفتتح
الباب الأول: سفر التكوين السومري
المجتمع
الآلهة
التكوين الكوني
التكوين الكائني
الخطيئة والسقوط
العالم التحت أرضي
الباب الثاني: سفر التكوين البابلي
دور الملك في التكوين
الدم روح الإنسان
عالم آدم
الباب الثالث: سفر التكوين التوراتي
تاريخ اليهود في التوراة
الآلهة التوراتية
سفر التكوين التوراتي
المصادر العربية والمراجع (المترجمة)
الكتب الموسوعية
المصادر الأجنبية
الإهداء
مفتتح
الباب الأول: سفر التكوين السومري
المجتمع
الآلهة
التكوين الكوني
التكوين الكائني
الخطيئة والسقوط
العالم التحت أرضي
الباب الثاني: سفر التكوين البابلي
دور الملك في التكوين
الدم روح الإنسان
عالم آدم
الباب الثالث: سفر التكوين التوراتي
تاريخ اليهود في التوراة
الآلهة التوراتية
سفر التكوين التوراتي
المصادر العربية والمراجع (المترجمة)
الكتب الموسوعية
المصادر الأجنبية
قصة الخلق
قصة الخلق
منابع سفر التكوين
تأليف
سيد القمني
الإهداء
لذكرى أبي.
مفتتح
سفر التكوين هو قصة البداية،
أو هو سفر الحكاية الأولى ...
أو هو رواية المجتمع الإنساني مذ كان تجمعا، في البدء وكيف كان؟ إلى أن بلغت الرواية اكتمال نضجها مع قمة تطور السلطة في المجتمع الإنساني. وعندما يحدث التطور الجديد الآتي، فلن يكون ثمة حاجة للرواية، التي رفعت من زمن بعيد لعالم مفارق، كمرآة للواقع الأرضي.
فعندما كان المجتمع في الابتداء مشاعا، كانت أرباب السماء في متعة الشيوع تمرح، وعندما تحول المجتمع الأرضي إلى مشتركات ترأسها مجامع ديمقراطية بدائية، أصبح للآلهة ذات المجامع، لكن لتقرر للبشر على الأرض المصائر، وعندما تم تقسيم العمل على الأرض، تحول مجتمع السماء إلى آلهة شغيلة، وآلهة للتفكير والتدبير.
وعندما تمكن الإنسان من الابتكار وصنع جديد، لم يكن من قبل كائنا، تمكنت آلهة السماء من الخلق والتكوين، وعندما تمركزت السلطة على الأرض في يد ملك على رأس دولة مركزية، وأصبحت كلمة الملك نافذة لا تقبل الإرجاء، قيل إنه في البدء كانت الكلمة. رغم أنه في البدء كان المشاع، والفعل بلا كلام، فلم يكن ثمة لغة بعد.
وما كتابنا هذا إلا شرح لذاك.
وما كشوفنا فيه إلا ناتج قراءة غير مقلوبة لأوضاع مقلوبة، ورؤية غير معتادة لرؤى معتادة، وربط للأرض بالسماء، وتسجيل لأثر الإنسان القدسي ووحيه الصاعد على معراج حركة المجتمع البشري.
وإذا وجد قارئنا في تلك المقدمة العجلى لغزا، فما عليه إلا أن يشمر عن همته ليتابع معنا الحل في صفحات الكتاب.
سيد محمود القمني
الباب الأول
سفر التكوين السومري
تأسيس
يبدو أن بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، كانت بداية لأهم أحداث المجتمع الإنساني، وأبعدها أثرا، في منطقة الشرق الأدنى بوجه خاص؛ تلك الأحداث التي تركت لنا تراثا ضخما، سجلته المدونات، حين بدأ اكتشاف الكتابة، حوالي ذلك الزمان، أو بعده بقليل.
فحوالي سنة 2900ق.م. كانت مصر قد تحولت من مجموعة مشتركات إقليمية، إلى دولة مركزية موحدة، بينما كان الشعب السومري، قد قضى حوالي خمسة قرون قبل ذلك، يلملم ذاته في جنوبي وادي الرافدين الخصيب، حتى تمكن من تكوين مجموعة مشتركات مدينية، على هيئة مدن مستقلة، يشكل كل منها دولة قائمة بذاتها مع محاولات جادة للتوحيد، لم يكتب لها النجاح الأكيد، ومن ثم لم تقدر لها الاستمرارية. وإن استطاعت هذه المدن - إلى حد بعيد - أن تترك لنا تراثا حضاريا ثريا، يزخر بالقصص والملاحم والأدب الديني، يفسر نشأة الوجود كونيا وكائنيا.
وحوالي نفس الزمان، أو بعده بقليل، تدفقت على وادي الرافدين موجات بشرية مهاجرة، كانت ضمن بحر زاخر من دفقات شعوب مرتحلة، انتشرت بسرعة قياسية على صفحة بادية الشام، وكل بلدان الهلال الخصيب (الرافدين، سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن) إضافة إلى بادية الشام، واصطلح على تسمية هذه الهجرات «هجرات الشعوب السامية». وقد زعم كثير من الباحثين أن مصدرها جزيرة العرب، وبالتحديد جنوب الجزيرة، وإن كانت هناك اتجاهات بحثية أخرى لها وجاهتها، قدرت أماكن أخرى كمصدر لهذه الموجات البشرية المتدفقة على شرقي المتوسط، تقصد أماكن الخصب والنماء.
ويلخص «حسن إبراهيم حسن» مختلف اتجاهات الباحثين حول مصدر هذه الهجرات، التي بدأت في الألف الثالثة قبل الميلاد فيما يزعمون، أو هو بالتحديد يلخص أهم الآراء في أصل الشعوب السامية، فيقول: «وقد اختلف المؤرخون في موطن الساميين الأصلي، أهم من بلاد العرب؟ أم رحلوا إليها من أفريقيا (أصلا!) أم رحلوا إليها من بلاد الجزيرة؟ فيقول أصحاب التوراة: إن مهد الإنسان فيما بين النهرين (الرافدين)، ومنه تفرقوا في الأرض فاشتق من الساميين: الآشوريون والبابليون في العراق، والآراميون في الشام والفينيقيون على شواطئ سوريا، والعبرانيون في فلسطين، والعرب في جزيرة العرب، والأثيوبيون في الحبشة. ومرجعهم في إثبات ذلك إلى التوراة. ولا يقول هذا من علماء العصر إلا قليلون. ويرى بعض المستشرقين أن مهد الساميين في أفريقيا. ونظرا لقرب بلاد الحبشة من بلاد العرب إقليما ولغة، قالوا: إن مهد الساميين الحبشة. ويرى بعض آخرون أن مهد الساميين جزيرة العرب، ومنها تفرقوا في الأرض كما تفرقوا في صدر الإسلام. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الساميين من جنوبي الفرات، ولكل من هؤلاء أدلة جغرافية أو اقتصادية أو جنسية أو لغوية. ويرى بعض المستشرقين أيضا، أن مهد الساميين في بادية الشام إلى نجد. ولم يقطع العلماء في أصل مهد الساميين برأي حتى الآن.»
1
المهم أن هؤلاء النازحين لم يضيعوا وقتا طويلا، حتى استطاعوا أن يقيموا لهم دولا في المنطقة، وتأتينا أهم هذه الشعوب التي أسست هذه الدول، ما بين الأكاديين
AKADI
الذين تمكنوا من التسلل البطيء إلى بلاد سومر الرافدية، ثم استولوا عليها ووحدوا مدنها في دولة مركزية، بقيادة زعيمهم «سرجون الأول
SHARRUKEN-I » حوالي عام 2450ق.م. وبين الكنعانيين
KANANI
الذين تفرقوا في الأرض الشامية حوالي 2500ق.م. حيث أسسوا مجموعة حضارات متناثرة، حملت أسماء بطون كنعانية، هي فيما تزعم التوراة: المؤابيون، والآدوميون، والعمونيون، والعموريون؛ وقد استطاع البطن العموري أو الأموري في وقت لاحق أن يخلف الدولة السومرية الحديثة التي خلفت الأكاديين في الرافدين، وأن يؤسس الدولة البابلية. بينما ظهرت على ساحل المتوسط جماعات أخرى، سلكت سبيل تفوقها بالسيطرة الملاحية على البحر، في وقت متأخر من الألف الثاني قبل الميلاد، ويرجح أنهم كانوا خليطا من أجناس مختلفة، وإن غلب عليهم العنصر السامي الكنعاني، وهم من عرفهم التاريخ باسم الفينيقيين.
ويزعم المؤرخون، أنه قد تلت هذه الموجة الأولى من الهجرات - في وقت متأخر نسبيا - موجة أخرى كبرى، حوالي منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، هي هجرة الآراميين، الذين استقروا أول أمرهم في بادية الشام، ثم أخذوا بمنافسة بني جلدتهم الساميين على أراضي الخصب، سواء في الرافدين أو الشام، ردحا طويلا من الزمان، فكانوا عامل اتصال وتواصل، بين ساميي الرافدين وساميي الشام. ويرجح أنهم تكونوا من عدة بطون من أصل واحد، باعدت بينهم الأزمان والكثرة العددية. ويزعم بعض المؤرخين أنه كان منهم الشعب العبري، الذي ظهر على صفحة التاريخ حوالي بداية القرن الثالث من الألف الثانية قبل الميلاد، بعد أن دخل مصر وخرج منها بقيادة النبي «موسى» حوالي عام 1234ق.م. بقصد الاستقرار في أراضي الكنعانيين (أرض فلسطين الحالية)، وتمكنوا حوالي 1000ق.م. أن يقيموا لهم دولة، كان أشهر ملوكها شاءول ثم داود فسليمان، بينما ظلت بقية البطون الآرامية غير ذات شأن، حتى استطاع بعضهم أن يثبتوا وجودهم مع اضمحلال الدول الكبرى في الرافدين فقاموا بغزو ناجح لجنوب الرافدين، أسسوا على إثره الدولة الكلدانية حوالي عام 625-538ق.م.
وهكذا كانت المنطقة مسرحا رحبا لهذه الدفقات البشرية، التي تكسرت موجاتها على بعضها في الهلال الخصيب، مما جعلها ميدانا لحروب مستمرة بين هؤلاء المهاجرين وبين من سبقهم وبين من لحقهم، مما أدى إلى تبادل الفكر والثقافة، لكنه أدى أيضا إلى عدم استقرار دول هذه المنطقة مددا طويلة، بعكس مصر، التي توحدت أراضيها مبكرا، وظلت دولة واحدة متماسكة طوال عصور تاريخها الطويل، عدا بعض الانتكاسات الطارئة، وهي انتكاسات لا تقاس بعمرها الحضاري، حتى إن الزمن الذي استغرقه مجموع هذه النكسات، يكاد يعادل الزمن الذي استغرقته أي من دول الهلال الخصيب متماسكة.
ورغم أن الباحثين يقطعون بأن الشعب السومري الذي ظهر جنوبي الرافدين، قبل الهجرات السامية بحوالي خمسة قرون، أي حوالي 3500ق.م. ليس من أصول سامية ورغم أن أصله لم يزل محاطا بالغموض، فإن هؤلاء الباحثين قد تعارفوا على ابتداء العصور التاريخية شرقي المتوسط بالشعب السومري، بعد أن احتسبوهم الأصل والدافع الأول للحضارة العريقة التي قامت في بلاد الرافدين، وكانت في رأيهم المنبع الذي استقى منه الساميون الغزاة حضارتهم وفكرهم ودينهم، حتى إن كثيرا من هؤلاء الباحثين قد اعتبروا الحضارة السومرية، ذات تأثير مباشر وغير مباشر في ديانات شعوب شرقي المتوسط حتى العصور الهلينية،
2
بل ويذهب هؤلاء إلى الزعم أن أهم المآثر الدينية السومرية، تعد حتى اليوم أهم الأعمدة، لأهم المآثر الدينية الحالية في منطقتنا، ناهيك عن لغتهم وطريقتهم التي ابتكروها والمعروفة بالكتابة المسمارية التي ظلت طوال العصور التالية لهم، حتى بعد زوالهم من تاريخ الدنيا، هي طريقة الكتابة المتبعة، والتي أخذها عنهم الغزاة من المهاجرين الساميين، ليسجلوا بها مآثرهم الحضارية، مما ساعد على انتشار أصرح للمآثر السومرية بين الشعوب السامية أما الساميون الذين تسيدوا المنطقة بعد غروب النجم السومري، فكانوا جميعا من أصل واحد، وجنس واحد، بجملة عادات وتقاليد واحدة، مما سهل حمل الأفكار والمعتقدات فكانت اللغة السامية وسيلة اتصال جيدة (رغم تشعبها إلى لغات متعددة عبر تباعد اللهجات بتباعد الأمكنة والأزمنة)، بينما ظلت طريقة الكتابة المسمارية وسيلة توصيل دائمة الجودة.
وسعيا وراء ذوي التخصص، ولو مؤقتا، ونظرا لما لدينا من تحفظات سنطرحها في حينها، فسنبدأ عملنا للكشف عن منابع سفر التكوين، بدراسة ما رآه الباحثون تراثا أعرق وأقدم في المنطقة، أقصد المنابع السومرية.
المجتمع
حاول الباحثون باستمرار - وهم في أغلبهم غربيون - أن يلقوا في روعنا أن أي محاولات لاستطلاع أمر الرافدين قبل السومريين، هي محاولات عقيمة لن تصل أبدا إلى يقين؛ لأنه رغم أن الإنسان استوطن جنوبي وادي الرافدين قبل ما يزيد على خمسة آلاف عام من الميلاد بزمان طويل،
1
فإننا لا نعرف إلا القليل النادر عن هؤلاء السكان، لعدم وجود مدونات خطية، فلم تكن الكتابة اختراعا معروفا بعد، وكل ما نعلمه أنه كان هناك مستوطنون في المنطقة قبل السومريين، كان أشهرهم ما أطلق عليه اصطلاحا «عصر العبيد»، نسبة إلى المكان الذي عثر فيه على آثارهم ويسمى الآن تل عبيد، وانتهى أمرهم بالانقراض مع الفيضان العاتي لدجلة والفرات المعروف في الملاحم الدينية بالطوفان .
ورغم أن هؤلاء الباحثين يندفعون في أغلبهم إلى اعتبار هذه الفترة السابقة على السومريين، فترة حضارة سومرية أيضا، فإن باحثا شهيرا في الأثريات السومرية هو «صموئيل نوح كريمر»، يذهب إلى أن حضارة السومريين إنما كانت ناتج تلاقح واضح بين شعب العبيد، المرجح عند «كريمر» أنه سامي الأصل، وبين الشعب السومري الذين هم في رأيه الوافدون الأغراب عن المنطقة، ثم يعقب بقوله: إنه «نتيجة للإخصاب المتبادل، ظهرت إلى الوجود أول مدنية راقية نسبيا في بلاد سومر.»
2
هذا مع أخذنا بالحسبان تأكيد «لويد
Loide » أن السومريين لم يصلوا إلى جنوب الرافدين، إلا حوالي منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد.
3
لكننا - رغم إشارات باحث مثل كريمر - سنظل الآن مع الرأي الغالب، فنبدأ دراستنا مع السومريين، بحسبانهم لدى الباحثين في مجملهم بداية وأصل الحضارة في شرق المتوسط.
ومع بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، يمكننا أن نرسم صورة غير دقيقة المعالم تماما للمجتمع السومري، الذي شكل حضارة زراعية في هذه المنطقة النهرية الخصبة، في شكل مشتركات قروية، في البداية. ولم تكن التجارة والنقود متطورتين بشكل واضح - فيما يخبرنا به شيسنو،
4
أما الملكية فقد أخذت شكل الحيازة الفردية ضمن المجموع، المالك الحقيقي، بحيث إن ما كان يخص الفرد، إنما كان ضمن المشترك بوصفه عضوا متحدا به،
5
بل ويعلمنا «فرانكفورت
Frankfort » أن كل شيء كان ملكية جماعية، حتى أدوات الفلاحة والبهائم.
6
ومع مرور الزمن، في بيئة طبيعية متقلبة لا تعرف الاستقرار، وإزاء العواصف غير المتوقعة، والفيضانات المفاجئة ارتبط هؤلاء بقوى غير منظورة، ربطوها بظواهر الطبيعة، وتمثلوها فيها، وعبدوها رغبة ورهبة، واستشعروا إزاءها التبعية التامة، لكن يبدو أن ذلك لم يكن بحد ذاته كافيا لجلب النفع من الطبيعة، أو على الأقل لدرء غضبها وكوارثها؛ ومن هنا احتاجت الأمور إلى تكاتف القوى البشرية مع القوى الإلهية، عن طريق وسيط بشري، يتسم بمواصفات رأوها آنذاك علامات لصلة جيدة بالآلهة، فكان هذا الوسيط هو الوساطة الناجعة مع الآلهة، فكان ذلك هو الشكل الرئاسي البدائي لإدارة شئون الجماعة، بقصد تقليل أخطار الطبيعة وجلب نفعها، عن طريق إدارة شئون العمل البشري الفعلي المتكاتف ، في تنظيم أمور الري والزراعة، والتخفيف من نتائج الكوارث وتنظيم القدرات في مواجهتها، وفي الوقت نفسه يتم ذلك بعلاقة الوسيط مع الآلهة، التي توحي له بأفضل السبل لتوقي أخطار كانت هي اليد الفاعلة فيها!
ومن ثم تقاربت الجماعات لتشكل مجتمعا متحدا إزاء الطبيعة، وتخضع لهيئة إدارية من المتصلين بالآلهة، لتمثيل المشترك أمامها. وقد كون هؤلاء فئة متميزة وجهازا متراتبا، يعلوه شخص كفء، كحاكم مفوض من قبل المشترك، ومسئول أول أمام أعضاء المشترك وأمام الآلهة في آن واحد.
ويبدو أن الأمر قد بدأ بنوع من التفويض المؤقت لفرد «أصبح يختار له معاونين فيما بعد» من قبل أفراد المشترك جميعا، والذين كانوا يشكلون مجتمعا ديمقراطيا بدائيا، يمكن تصوره على هيئة مجلس عام. ويؤكد لنا «هنري فرانكفورت
H. Frankfort » أنه عندما ظهرت الكتابة، وجدنا إشارات لمجلسين هما: المجلس العام ومجلس الكبار،
7
ومن ثم تفرغ هذا الفرد ومعاونوه من العمل البدائي، وركزوا جهودهم الذهنية في التعامل مع الآلهة وقدراتها الطبيعية، بمحاولة قراءة هذه القدرات الظاهرة والتنبؤ المستطاع بفعلها المستقبلي للمحافظة على نظم الري، وتلافي أو مواجهة مشاكل قد تنتج عن تقلب المزاج الإلهي في الطبيعة، أو لمواجهة حروب طارئة مع مشتركات مجاورة تحتاج إلى نشاط سريع وحاسم.
ومع استمرار الطوارئ، تحولت الحاجة لهذه الإدارة من حاجة مؤقتة طارئة إلى حاجة دائمة مستمرة، مما أدى إلى ديمومة سلطة الوسيط ومعاونيه فتحول بالتدريج إلى كاهن وحاكم كبير، كما تحول المشترك القروي بذلك إلى مشترك معبدي، يضم مجموعة مشتركات قروية، لتظهر إلى الوجود دولة المدينة، التي تخضع كليا لإله المدينة الأعظم، وبالتالي لنائبه ووسيطه الأرضي، حتى عد هذا الإله سيدا إقطاعيا متغيبا (لبعض شئونه)، لكنه كان يثبت حضوره باستمرار بما يطلبه من إنتاج أعضاء المشترك المعبدي، من قرابين ونذور وتضحيات وهبات، أدى تراكمها إلى زيادة قدرات الكاهن الحاكم الوسيط، وبدأ يتحول بما يملك من مواد متراكمة وأحيانا نادرة إلى ملك مطلق النفود.
وبمرور الزمن، أخذ الملك يتفرغ للعمل الإداري والسياسي، لمواجهة المشتركات الأخرى التي تحولت بدورها إلى ممالك، تاركا مهمة الاتصال بالآلهة لأتباع فوضهم عنه لهذا الغرض، ليصبحوا وسطاء يعقدون معها المحالفات، ويتلقون توجيهاتها ويسكنون ثائرتها، ويبلغونها برغبات عبادها. ومن هنا بدأت تظهر ثلاث طبقات متمايزة، هي الطبقة الإدارية أو البيروقراطية ممثلة في الجهاز الإداري الحكومي وعلى رأسه الملك وحاشيته ومعاونوه ورجال جيشه؛ وطبقة الكهنة، وباقي جماهير الشعب التي تشكل الطبقة الثالثة في الدولة.
وقد وجد الكهنة بالذات سبيلا سريعا للإثراء، من خلال إمساكهم بعنان المزاج الإلهي إن رضا أو غضبا، مما أدى أحيانا إلى اصطدام الكهنة بالملك، مما كان يضطر الملك إلى خلع الإله المزعج، وإعلان نفسه إلها، بانقلاب سلمي يمسك بزمام الكهنة، وحينها كان نظام حكم المدينة يتحول إلى الشكل الاستبدادي المطلق.
لكن يبدو أن جدل التطور قد توقف بالسومريين عند حدود المدينة، فتحددت ملامح حضارتهم بحدود الدولة المدينية، ومن ثم اتسمت هذه الحضارة بخاصية المدن المستقلة، التي لم تعرف الوحدة الشاملة، إلا على يد الغزاة الساميين الذين أقاموا الدولة الأكادية، إلا أن نظام المدن المستقلة السومري، لم يوقف عملية التطور الداخلي لكل مدينة على حدة، فاستمرت عملية النمو الحضاري لكل مدينة تسير في طريقها قدما، مع تبادل الفكر والثقافة وأهم المآثر الدينية، وكافة الأساليب الحضارية المتيسرة لها، فيما بينها، وهو ما يعقب عليه «عبد العزيز صالح» بقوله:
وهكذا قطع السومريون أكثر من خمسة قرون من بداية عصر الأسرات العراقي، غابت فيها الوحدة السياسية الكاملة عن آفاقهم، وذلك على الرغم من أن أهلها في مجموعهم، كانوا يحسون تلقائيا بوحدة جنسهم، ويحسون بتقارب مذاهبهم الدينية التي شجعتهم على أن يتمثلوا أربابهم في بعض آخر، وتخيلوا صفات بعضها لبعض آخر.
8
ثم يحاول «نجيب ميخائيل» تعليل عدم قيام وحدة سياسية سومرية مركزية كبرى، وهو الأمر الذي أنجزته مصر مبكرا بقوله:
إن الحياة في وادي الرافدين، كانت تختلف اختلافا بينا عنها في وادي النيل؛ فوادي الرافدين أقل دفعا للوحدة السياسية، ومن ثم كانت هناك الدول المدن التي تأخر توحيدها، وإن لم يقم ذلك حائلا دون تطورها. والعراق القديم كان مفتوحا، بينما كانت مصر مغلقة؛ أسهم وجود الصحراء على جانبي واديها في صيانة كيانها ورد كثير من الهجمات حتى استطاعت أن تغلق في كثير من الأحيان أبوابها، دون الطامحين فيها. أما مجاورات العراق القديم، فأراض خصبة، استطاعت أن تأوي إليها شعوب تهددها، وتعرض أراضيها للعدوان، الذي كان يؤثر على ركب الحضارة، فيعطله أو ينال منه.
9
ومع ذلك فيبدو أن السومريين قد استشعروا نوعا من الوحدة القومية بينهم رغم الفرقة السياسية، وهو ما يمكن أخذه من تأكيد الآثاريين:
إنه ليس هناك شك بأن السومريين كانوا يعتبرون أنفسهم من صنف الشعب المختار. في أسطورة آنكي ونظام العالم، التي تعالج موضوع خلق آنكي للذاتيات الطبيعية والحضارية والعمليات الضرورية للمجتمع المتمدن وتنظيمها، نجده يبارك بلاد سومر بكلمات رفيعة، تكشف أن السومريين يعتقدون بأنفسهم كمجتمع، أو بالأحرى مجتمع مميز ومقدس، متصل بالآلهة اتصالا أقوى من اتصال بقية البشر بها، بشكل عام.
10
بل إنه رغم اعتراف المهتمين بالحضارة السومرية، أن السومريين مجموعة غريبة على المنطقة، فإنهم يزعمونهم أصحاب ثقافة قدر لها السيادة على جميع أجزاء الشرق الأدنى، فيقول «كريمر
Kramer »: «وتتجلى هذه السيادة الثقافية في عدة اتجاهات: (1)
أن السومريين هم الذين طوروا، ومن المحتمل أنهم قد ابتكروا، طريقة الكتابة المسمارية، التي اقتبستها جميع شعوب الشرق الأدنى على وجه التقريب. (2)
طور السومريون المفاهيم الدينية والروحية، كما أدمجوا مجموعة الآلهة المختلفة على نحو رائع، فكان لهذا الدمج أثره العميق على شعوب الشرق الأدنى، وبضمنهم العبرانيون والإغريق، إضافة إلى نفاذ الشيء الكثير من هذه المفاهيم الروحية والدينية إلى عالمنا المتمدن، عن طريق الأديان السماوية.»
11
ويكمن ذلك عند «كريمر
Kramer » في أنه قد «طور السومريون خلال الألف الثالث قبل الميلاد، أفكارا دينية ومفاهيم روحية، تركت في العالم الحديث أثرا لا يمكن محوه، خاصة ما وصل منها عن طريق الديانات: اليهودية والمسيحية والإسلام؛ فعلى المستوى العقلي، استنبط المفكرون والحكماء السومريون، كنتيجة لتأملاتهم في أصل الكون وطبيعته وطريقة عمله، نظرية كونية، وأخرى لاهوتية، كانتا تنطويان على إيمان راسخ وقوي بحيث إنهما أصبحتا العقيدة والمبدأ الأساسيين، في أغلب أقطار الشرق الأدنى القديم. وعلى المستوى العملي والوظيفي، طور الكهنة ورجال الدين السومريون مجموعة من الطقوس والشعائر والاحتفالات، الغنية بالألوان والتنوع، التي كانت تؤدى لغرض إرضاء الآلهة وتهدئتهم، بالإضافة إلى ما فيها من إشباع عاطفي، لحب الإنسان للمهرجانات والمشاهد الضخمة.»
12
الآلهة
وأهم ما يمكن احتسابه للفكر الديني السومري في رأينا، أنه استطاع مبكرا أن يفصل بين الآلهة وبين أشكالها الطوطمية، فغلب على نقوش الآلهة الهيئة الإنسانية، بينما احتفظت الذاكرة بالأصل الطوطمي كرمز ينقش قابعا إلى جوار الإله، أو يحمله الإله بين يديه، أو يرسم على ثوبه، بعكس المصريين الذين لم يتحرروا تماما من الأصول الطوطمية للآلهة، فجسموا الإله في الشكل الآدمي مع الاحتفاظ بالرأس الحيواني الأصلي. ويبدو لنا ذلك ناتجا عن الفارق الطبوغرافي بين المنطقتين، حيث كانت مصر مغلقة الحدود، متجانسة التكوين جنسيا وفكريا إلى حد بعيد، بينما كانت الرافدين بلادا مفتوحة، تلاحقت فيها أجناس وثقافات متعددة، أدت في أحيان كثيرة إلى نوع من التجريد المطرد، أدى إلى سلخ الآلهة من جذورها البدائية، وهى ظاهرة نلحظها أيضا في تطويرهم الكتابة إلى نوع من الخط المجرد، ابتعد بسرعة عن أصله التصويري، بينما ظل الأصل التصويري في الكتابة غالبا فترة طويلة على الكتابات الهيروغليفية في مصر، ولم يتحرر المصريون منه بشكل واضح إلا بعد احتكاكهم بالشعوب الأخرى، وبعد غزوات متعددة لأراضيهم في نهاية الإمبراطورية المصرية، وسقوط الدولة الحديثة، مما أدى بالهيروغليفية إلى التحرر من التصوير والتحول إلى التخطيط لتتطور إلى «هيراطيقية، ديموطيقية، قبطية». ولا شك لدينا أن هذا الميل إلى التجريد، قد صار خاصية لشعوب شرقي المتوسط الأدنى عموما، لتشابه الظروف البيئية، وكان دافعا فيما بعد إلى ظهور الفلسفة اليونانية، التي هي امتداد طبيعي لفكر المنطقة وتعد في المقام الأول فكرا «أيونيا» مشرقيا، ومن خلال التفوق الفينيقي التجاري والبحري وما نتج عنه من احتكاك اجتماعي، في الألف الأولى قبل الميلاد.
ومع ذلك فقد استمرت التعددية المفرطة هي سمة الديانة السومرية، حتى أمسى للفأس إله ، ولقالب الآجر إله، وللمسمار إله، ولكل فرد إله خاص به يحميه وفق طموحاته الشخصية، يحابى فيه نزعاته وطموحاته وميوله، إضافة إلى افتراض رب أو ربة لكل ظاهرة طبيعية، كبر شأنها أو صغر، كما افترضوا لأربابهم صورا بشرية ضخمة، وحياة تماثل حياة البشر، تزاوجوا فيها وتناسلوا وتحابوا وتخاصموا وتقاتلوا، لكنها كانت حياة سرمدية، ذات قدرات مطلقة.
أما عندما يكون وجود هذه الآلهة ضروريا في ذاتيات الكون الموكلة بها، فإنها كانت تعيش في «جبل السماء والأرض»
1
وإني أتصور ذلك نوعا من الفصل بين آلهة عاملة (شغيلة) مرتبطة باستمرار بالظواهر الطبيعية مطردة الحدوث، ودائمة التأثير المباشر في حياة الإنسان السومري، وبين آلهة متفرغة للعمل الذهني النظري وللإدارة في جبل السماء والأرض، ويحتمل أنها كانت الآلهة الكبرى. والظن عندي أن ذلك راجع إلى ظهور الكهنة المفوضين للإدارة في المشتركات الأولى، التي تحولت إلى مشتركات قروية ثم معبدية، مما طبع شكل المجتمع الإلهي، بما وصلت إليه أحوال المجتمع السومري اقتصاديا وسياسيا؛ وكما تفرغ الكهان من العمل البدني للإدارة، فقد تفرغ مجموعة من الآلهة وتحرروا من العمل الملاصق لعمل الطبيعة الدائم، وهو ما تدل عليه أسماء هذه الآلهة، الذين شكلوا مجاميع إلهية أشهرها:
مجمع الآلهة مقررة المصائر، وعددهم سبعة.
مجمع الآلهة العظام، وعددهم خمسون إلها.
2
وفوق هذه الآلهة جميعا، كانت عناصر الكون الكبرى، ذات التواجد الدائم الثابت (السماء، الأرض، الهواء، الماء)، آلهة لها خصوصيتها المتميزة باستمرار التواجد المنظور، إزاء الآلهة الأخرى متغيرة الأحوال، التي لا تتسم بديمومة التواجد. ونذهب إلى أن ملاحظة السومري المستمرة لجدل التأثير المتبادل بين الظواهر الأربع الثابتة، في إنتاج الحياة، وضرورة استمرار هذا الجدل لضمان استمرار الحياة، كما لو كانت مهمتها الإشراف على هده الاستمرارية وتتابعها؛ أقول: إن هذه الملاحظات قد سوغت للسومري المتأمل، الاعتقاد أن هذه الظواهر الأربع إنما هي أربع من الآلهة، تكاتفت معا لتقوم بخلق بقية كائنات الوجود، ومن ثم أطلق عليها «الآلهة الخالقة»، وهي:
آن
AN
الإله السماء.
كي
KI
أو «جي»
GI
الإلهة الأرض زوجة إله السماء.
آنليل
AN-LIL
الإله الهواء ابن إلهي السماء والأرض.
أنكي
AN-KI
الإله الماء .
ويرجح «كريمر» أن تكون هذه الآلهة الأربع هي الأعضاء الكبرى في مجتمع السبع المقررة المصائر، ويكون بقية هذا المجمع إذن هم الآلهة:
نانا
NANA
الإله القمر.
أوتو
UTO
الإله الشمس وهو ابن الإله القمر.
إينانا
ENANA
إلهة كوكب الزهرة.
3
وإن كان موسكاتي يجعل من هذه الثلاث الأخيرة أسرة إلهية مثلثة تضم: الأب القمر والأم الزهرة والابن الشمس.
4
وهكذا تكون مجمع الآلهة السبع مقررة المصائر، من أسرتين ثالوثيتين كل منهما يشتمل على ثالوث (أب وأم وابن)، فشكلا معا ستة من الآلهة، بينما ظل سابعهم «آنكي - الماء» حالة شاذة وسط هذا المجمع، باعتباره ليس عضوا في أي من الأسرتين الثالوثيتين، وإن كان يكمل الأسرة الأولى لتصبح أربعا من الآلهة الخالقة، وهو أمر حيرنا من البداية، لكنها حيرة أثمرت عن كشف هام، يعد واحدا من أعمدة هذا القسم من بحثنا.
وحتى نتمكن من الوصول بقارئنا إلى الكشف المأمول، نقف أولا مع الآلهة الأربع وقفة تفصيلية بعض الشيء، نستقي أخبارها من المصادر، فتطالعنا بأن: (1) «آن
AN »: هو إله ذكر، وهو إله السماء، والكلمة «آن» تعني أيضا السماء المنظورة ذاتها، وكانت في رؤيتهم سقفا يعلوهم، ثم أصبحت «آن» بالتدريج علما ورمزا على الألوهية عموما، فعادلت - بمعنى من المعاني - اسما للجلالة، تدل على ألوهية أي مسمى إلهي، وبذلك حملت معنى السيادة والرفعة والسمو، لذلك كان «آن» سيد الآلهة جميعا، باعتباره في نظرهم كان الأب الأول لكل الآلهة وسيد الآلهة السبع المقررة المصائر.
5
ويقول «كريمر»: إن الأسباب التي أدت إلى تسيد «آن» مجموعة الآلهة السومرية، أسباب غير معروفة.
6
لكننا نتصور وببساطة أن رؤية الرافدي القديم للسماء بفسحتها واتساعها، وتعدد الألوان والأحداث والظواهر فيها مع ضخامة هذه الظواهر، وجسامة هذه الأحداث، ومطرها الذي يشكل للأرض مني الحياة، ثم إحاطة السماء للأرض في الأفق، وتغطيتها من جميع جوانبها؛ كل ذلك كان كفيلا بتصورها بما يلائم عظمة اتساعها ورحابتها وتعدد الإمكانات فيها، مقابل ضيق المساحات المرئية أمامه بشكل مباشر على الأرض، التي مهما بلغت مظاهرها هولا وغرابة ، فإنها لم ترق أبدا في نظره إلى درجة ظواهر السماء، مع أخذنا بالحسبان عدم التماس المباشر بينه وبين السماء، مما جعلها مجهولا دائما يقع في نفسه موقع الجليل، بما له من هيبة ورغبة واحترام وتقديس، فكان أن تصور السماء أعظم الآلهة، وأبا أولا دائم الاقتدار، بتواصل وديمومة مستمرة، يخصب الأم الكبرى «كي
KI » الأرض، وهو يحتضنها ليلقي في أحشائها بدفقات ماء الحياة. ومن هنا ظلت السماء «آن»، وظل الإله «آن» يقع في الوهم الإنساني - حتى اليوم - موقعه القديم، فنتحدث عن الإله مجازا فنقول: السماء، أو نتصوره قابعا على عرش في بيت إلهي في السماء، أو ننفعل فنقسم أغلظ الأيمان بحق السماء! ولا يبقى عن «آن» الآن، سوى ترجيحنا أن يكون هو نموذج الأب الأول في مشترك العشيرة البدائي. (2) «كي
KI
أو جي
GI »: وهي إلهة أنثى هي الأرض تعددت أسماؤها وشخصها واحد، فهي كزوجة للسماء الذكر «آن
AN » تسمى «أنتوم
AN-TUM »
7
مؤنث الكلمة «آن
AN » وهي أيضا «نينماه أو نينا ماه
NIN-MAH »،
8
والاسم «نينماه» يشير إلى مدلول هذه المعبودة في الذهن السومري، فهو مركب من ملصقين: «نن
NIN » بمعنى السيدة أو العظمى، أو السيدة العظمى. ولا زلنا ننادي الأم، والأم الكبرى (الجدة) باللفظ «نينا»، والملصق الثاني «ماه
MAH » أي الأم، وتصبح الترجمة: السيدة الأم، أو الأم العظمى أو الأم الكبرى، كما عرفت «كي» أيضا باسم «نينتو
NINTO »
9
وهو اسم يحمل أيضا معنى الأمومة، لأن «نن = السيدة + تو = تلد» أي السيدة التي تلد، أو السيدة الوالدة، أو إيجازا: الوالدة. كما سميت أيضا «أرش
ARSH » بمعنى أرض، كما حازت على الألقاب «مامي
MAMY » و«ماما
MAMA » و«ما
MAH »،
10
وكلها تحوي «ميم» الأمومة.
وقد شكلت «كي» مع «آن» فكرة ابتدائية عن نشأة الحياة على الأرض أو ما يمكن اعتباره سفرا بدئيا للتكوين، صادقا صدق بدائيته، مطابقا لراسب خبرات الإنسان، وملاحظاته، عن دور مطر السماء أو مني «آن» وفعله في الأم الأرض لتنتج الحياة، لكن هذا السفر يقف عند هذا الحد عندما يبدأ الخيال الإنساني يتدخل في صناعة الفكرة، ليأخذ التكوين خطا آخر أكثر تعقيدا من بساطة الحقيقة. (3) «آنليل
ANLIL »: وهو إله ذكر، هو إله الهواء وهو الضلع الثالث، في ثالوث: الأب فيه آن والأم كي والابن آنليل. وعنه يقول «جان بوتيرو»: «آنليل يعني باللغة السومرية، سيد الريح والعاصفة ومجال عمل آنليل هو الأرض، فهو الذي يسير البشر ... وقد لقب السيد.»
11
ولنلحظ أن الاسم «آنليل» مركب من «آن» = سيد أو إله أو رب + «ليل» وهي مادة ما بين السماء والأرض من هواء ورياح وسحب، ويقول «نجيب ميخائيل»: إن كلمة آن ليل تعني أصلا سيد الريح والروح، وهو لم يأخذ لقب سيد الأرض إلا فيما بعد ... ومعبده هو «بيت الجبل
E-KUR »،
12
ويقول «عبد الحميد زايد»: «إن آنليل هو سيد ما بين السماء والأرض، فهو إله الهواء وما يتعلق به، كما لقب أيضا بأبي الآلهة ... كما يقود آنليل الآلهة إلى الحرب، فهو يمثل القوة والبطش، فكان آن يرأس الاجتماعات في مجمع الآلهة، وكانت وظيفة آنليل تنفيذ أحكام هذا المجمع، فآن وآنليل هما العنصران الرئيسيان، وكانت وظيفة آنليل تنفيذ أحكام هذا المجمع، فآن وآنليل هما العنصران الرئيسيان في الدولة، هما السلطة التشريعية والتنفيذية، وقد عهد إلى آنليل بالمحافظة على ألواح القدر.»
13
ومن ألقابه سيد جميع البلدان، أبو جميع الآلهة، مقرر المصائر، الذي لا رجعة لقراراته، الذي يمتلك ألواح القدر الذي فصل أباه السماء عن أمه الأرض، خالق الفأس أداة العمل، الجبل العظيم. هذا وكان مقر عبادته في مدينة نفر، وكان هنالك تقليد سنوي، تذهب فيه بقية آلهة المدن لطلب الرحمة والبركة من آنليل لحكام مدن هذه الآلهة، وهو الإله الوحيد الذي اغتصب أنثاه ننليل، فأنجبت منه القمر نانا.»
14
مع ملاحظة هامة هي أن رمزه التصويري كان ذات رمز إله السماء آن.
ويقول «كريمر» إنه «... يوجد في أقدم التصانيف السومرية المنشورة عدد كبير من القطع الأدبية التي نطلق عليها اسم المراثي، نرى فيها الإله «آنليل» يقوم بذلك العمل البغيض، وهو القيام بإحداث الدمار وتنفيذ الكوارث والبلايا، التي كانت تأمر بها الآلهة لسبب من الأسباب، وهذا هو السبب في وصم آنليل بأنه إله شرس مدمر في كتابات الباحثين القدماء في الشئون السومرية، ولكن الحقيقة هي أننا لو حللنا التراتيل والأساطير لا سيما ما نشر منها منذ عام 1930م، لألفينا الإله آنليل وقد مجدوه بصفته إلها رحيما، يتحلى بالحنو الأبوي، ويعنى بسلامة جميع البشر وخيرهم.»
15
وبالاجتهاد يمكننا فهم هذا التضارب في شخصية آنليل ويمكننا تفسير استطاعته إزاحة أبيه «آن» ليتحول إلى رمز مسلوب السلطان، وهو أمر شائع في الميثولوجيا الشرقية عموما، في قصة الابن الذي يتفوق على أبيه ويسلبه سلطاته، وهو ما يبدو لنا صدى طبيعيا لواقع أحوال الإنسان البدائي قبل استقراره وتحضره، حيث كان الأب القوي يظل سيدا أو حاميا للقطيع حائزا لكل الإناث، حتى يظهر من بنيه ذكر قوي ينافسه السيادة وحيازة الإناث، فينازعه سلطانه ويدعوه للنزال، في وقت يكون فيه لعامل السن دوره، في إزاحة الأب الكهل، ليحل الابن الشاب القوي محله في سيادة القطيع والذود عنه، ويتحول هو إلى أب جديد للقطيع، لكن هذه السيادة الأبوية البدائية، بدأت تفقد سلطانها مبكرا مع التطور الاجتماعي، عندما أصبحت السيادة تحتاج إلى مقومات أكثر من مجرد الأبوة، أو القوة الجسدية واستدعت وجود كفايات متعددة في سيد العشيرة، المفوض من مجموعة عشائر مؤلفة من مشترك بدائي، مما أدى إلى ضرورة التحول نحو قانون جديد، فرضته ظروف التجمع الأكبر؛ حيث ساد مجموعة من رؤساء العشائر الآباء، تحول أحدهم إلى أب مفوض للمجموعة العشائرية المتحدة في مشترك قروي ثم معبدي ليكون همزة الوصل بين الأب القديم الذي تحول إلى إله غائب، وبين أفراد المشترك، أو بين الآلهة عموما وبين الناس، في شكل كاهن رئيس، متحرر النفوذ من أسر مجلس القبيلة العام.
أقول: عندما فقد الأب البدائي سلطانه في المجتمع الأكبر، انعكس ذلك على عالم الآلهة، ففقد إله السماء سلطانه الأبوي، المتصف في الأساطير بالحنو البالغ والشفقة، وظهر ولده آنليل، وقد حدث ذلك على ما يبدو بالتدريج البطيء الذي حدث به في عالم البشر، حتى صار «آن» مجرد شخصية هلامية مبهمة غامضة في مجمع الآلهة، وإن ظل محتفظا باحترامه كأب أول خالق، لكن مسلوب السلطات.
وكما تحول الأب المفوض في المجلس العام بالمشترك البدائي إلى حاكم متحرر النفوذ، تحول آنليل بمفهوم الألوهية من الرحمة إلى الشراسة، يمتلك أقدار الناس وأقواتهم (الذي يمتلك ألواح القدر)، ويتفرغ للعمل الذهني لتطوير أدوات الإنتاج (خلق الفأس أداة العمل)، وينظم أعمال الناس (يسير البشر)، ويقود الجيوش (يقود آنليل الآلهة إلى الحرب)، لذلك أصبح «سيد جميع البلدان»، وتوجب «أن تذهب إليه بقية الآلهة لطلب الرحمة.» باعتبار الحاكم الذي يمثل آنليل مفوضا من جميع العشائر المتحدة وسيدا متحرر النفوذ محل الأب البدائي، وهو ما ترك أثره في تصويره الرمزي، بنفس رمز الأب آن. (4) «أنكي
ANKI
أو آنجي
ANGI »: وهو إله ذكر، يتركب اسمه من ملصقين «آن = السماء + كي = الأرض»، أي «السماء والأرض» وبترجمة بعض الباحثين «السيد الأرض» باعتبار «آن» تعني السيادة والجلالة أيضا، فهو بذلك إله الأرض، لكن هذا يتضارب مع حقيقة ميثولوجية متواترة في ميثولوجيا البلدان الزراعية، حيث الأرض دوما إلهة أنثى كمصدر للحياة، كما يتضارب مع أخرى هي أن آنكي كان يعد لدى السومريين إلها للماء وكان بهذه الصفة إلها ذكرا، حيث كان سكان المناطق الخصبة ينظرون إلى الماء كمني للأرض، وسائل يخصب الأنثى الأرض لتحمل بالزرع.
وسمي آنكي باسم آخر هو «آبسو
ABZU » وهو بدوره ملصق من كلمتين «آ
A = الماء» + «بسو
BZU »، ويترجم الباحثون «
BUZ » بمعنى البعيد أو العميق،
16
ويقول «نجيب ميخائيل»، إنهم قصدوا بذلك المياه الجوفية،
17
لكن الغريب في بابه أن هذا الإله، وهو رابع الآلهة الخالقة الأربعة، المكونة من أسرة ثالوثية «آن، كي، آنليل»، مضافا إليها «أنكي» رغم كونه ليس عضوا في الأسرة! ثم لماذا يكون «أنكي» ماء العمق أو المياه الجوفية بالذات، كعنصر إحياء فاعل في عملية الخلق؟ لماذا لا تكون مياه الأمطار أو الأنهار هي صاحبة هذا الدور الخالق، في بلد يغمره النهران العظيمان: دجلة والفرات؟
الحقيقة أني وقفت مع «أنكي» أو «آبسو» وقفة طويلة، انتهيت منها إلى اعتباره فعلا ذكرا هو الماء، لكنه ماء إلهي أو هو مني الإله «آن» السماء، الذي زرعه في رحم الأم الأرض «كي». وهو ما يفسر لنا تركيب اسمه من السماء والأرض معا (آن + كي)، فهو الفعل المشترك لأبوي الحياة؛ هو ماء الحياة الذي استقر في رحم الأرض لتظل دائما مصدرا مستمرا للحياة مما يفسر غياب «آن» وتواريه، بعد أن قام بالمطلوب منه دفعة ومرة واحدة، ثم ترك لمائه أن يفعل فعله المستمر في إنتاج حياة مستمرة، وهو أيضا ما يفسر لنا تأليه «أنكي» كإله خالق، رغم كونه ليس عضوا في الأسرة الخالقة الثالوثية، فهو خالق باعتباره مني «آن»، أو هو روح قدسية منه حلت في حشا الأم الأرض «كي». ويلتقي ذلك مع اعتقاد السومريين أن مياه الأنهار تنبع من مياه العمق تحت الأرض، وهو ما يشككنا في ترجمة «آبسو» بماء العمق فكلمة «آبسو»، نعم، تحمل معنى الغور والبعد، لكنها مع فهمنا للأمر تتضح، فتصبح «المياه الكامنة في الرحم». وأقترح الترجمة الأدق وهى «السائل المخصب»، ويدعمني في ذلك أن الإله «دومو زي آبسو
DUMU-ZI-ABZU » يترجم اسمه إلى «الابن الحقيقي لمياه العمق»،
18
علما أنه كان إلها للخصب وموكلا بإخصاب الأرض، إضافة إلى أن «آنكي» باسم «آبسو» كان يعد خالق الزرع والحياة والبشر، أو نصيا «الذي خلقت يداه البشر»
19
هو «خالق العالم»،
20
وإن تحليلنا هذا، وترجمتنا تلك، توضح لنا: لماذا أدخله السومريون ضمن الآلهة الخالقة، رغم كونه ليس فردا في الأسرة الثالوثية الخالقة، وهو ما ينقلنا إلى بحث الدور الذي قام به كل من الآلهة الأربعة، في عملية الخلق.
التكوين الكوني
عندما لم يكن العلم بجغرافية الأرض قد اتسع بعد، تصور السومريون الأرض قرصا منبسطا هو الدنيا، محدد بحدود لا تتجاوز الهند شرقا والبحر الأبيض المتوسط غربا، وبلاد الأناضول والقوقاس شمالا، والخليج العربي وبعضا من المحيط الهندي، وجزيرة العرب، جنوبا.
ويقع تحت هذا القرص، عالم تحت أرضي سفلي، هو مقر الأموات، ويلي مقر الأموات مياه العمق، التي اتفقنا على ترجمتها ب «السائل المخصب آبسو
ABZU
أو أنكي
ANKI »، ولو صعدنا على وجه القرص الأرضي، نجد هناك قرصا آخر يعلوه هو السماء، مقر «آن» وكثير من الآلهة، وهو قرص محدب في شكل قبة صلبة تحيط بالقرص الأرضي من جميع جهاته، ثم ما بين القبة السماوية والقرص الأرضي، يمرح الريح أو الهواء أو الروح أو الجو أو الأثير، تلك المادة التي أسموها «ليل
LIL » وكل هذا في مجموعه يقف راكدا في بحر لا متناه يحيط بالكل من جميع الجهات، وهذا البحر اللامتناهي كان في اعتقادهم منبع كل الوجود ومادته الأولى،
1
وهذا هو كل شيء، كل الكون: منظورا وغير منظور.
ورغم أنه لم تصلنا عن السومريين نظرية متكاملة، توضح آراءهم في كيفية وجود العالم ونشأته، في الآثاريات المكتشفة حتى الآن على الأقل، فإنه يمكن استخلاص سفر تكوين سومري، من خلال دراسة متأنية للنصوص المتفرقة في أساطيرهم وآدابهم المتعلقة بالخلق، مع أخذنا بالحسبان أن هذه الأساطير ليست بالسذاجة التي تبدو ظاهرة فيها، إنما هي لغة لها خصوصيتها ومفرداتها المتميزة، واصطلاحاتها الخاصة، لتبليغ ما تريد من حقائق مقررة في نظر أصحابها مع اعتبارنا لمراحل التطور التدريجي التي سار فيها الفكر الإنساني بادئا من مثل هذه البدايات الأولى.
وكغيرهم من الشعوب، تأمل السومريون في طبيعة الكون وأصله، ونشأته، فظهر لديهم في غضون الألف الثالث قبل الميلاد، طائفة من المفكرين والحكماء حاولوا إشباع هذا الفضول المعرفي، بوضع إجابات مرضية، للتساؤلات التي أثارها تأملهم في الكون وطبيعة الأشياء، دفعت الآثاريين إلى حد الزعم أن السومريين وصلوا إلى آراء ومعتقدات ومبادئ، أصبحت أساسا لعقائد شعوب الشرق الأدنى،
2
ودفعت بنا نحن إلى جمع شتاتها من الأساطير والملاحم، لتعطينا سفرا سومريا للتكوين، يمكن أن تتضح سماته تدريجيا مع بحثنا هذا.
وسعيا وراء هدفنا هذا، نجد في اللوح الذي يعدد أسماء الآلهة السومرية تقريرا لمبدأ يقول: إنه في البدء كانت «نمو
NAMU »، وقد عبر الخط المسماري عن «نمو» بالمقطع الصوري الذي يعبر عن البحر، ووصفت «نمو» بأنها الأم التي ولدت السماء والأرض، وهو ما يصور لنا الوجود قبل التكوين كمحيط أو غمر من الماء الأولي الأزلي، وهو تصور غالب على ثقافات الشعوب القديمة التي اعتقدت بخروج الآلهة من محيط عظيم، كان هو الوجود الأول قبل أن توجد كائنات الطبيعة.
وقد فسرت مدرسة التحليل النفسي انتشار نظرية الميلاد المائي لدى الشعوب القديمة، باعتبارها انعكاسا لذكرى كامنة في لا شعور الإنسان، حول حالة الجنين في الماء الرحمي للأم، سابحا في بحره الأول. ويذهب بعض الباحثين مثل «فراس السواح» إلى تفسير ميلاد الأرض والسماء من البحر الأول، بأنه وسط الماء ظهرت جزيرة يابسة على هيئة جبل، قبته السماء وقاعدته الأرض
3
والسماء هي ما عرفناه باسم «آن
AN
إله ذكر»، والأرض هي ما عرفناها باسم «كي
KI
أو جي
GI
إلهة أنثى»، وأنه نتيجة التزاوج بين القبة «آن» والقاعدة «كي» جاء الابن الإلهي في أول أسرة ثالوثية «آن ليل»، والاسم الإلهي «آنليل» ملصق كما أسلفنا من كلمتين «آن = لفظ جلالة + ليل = مادة ما بين السماء والأرض» ذلك الإله الذي شب مبكرا عن طوقه، ففصل أباه عن أمه الأرض، ورفع الأب إلى الأعالي (سماء)، وحط بالأم إلى الأسفل (الأرض). وقد جاء ذلك متفرقا مشتتا في عدة أساطير، نقتطع بعضا مما جاء فيها، مثل أسطورة خلق الفأس (ترجمة كريمر)، التي تستهل بمقطع يقول:
الرب الذي يملك حقا
هو الذي أظهر للعيان
الرب الذي لا يتبدل في أحكامه آنليل
الذي يجلب البذور إلى الأرض ليزرعها
تولى برعايته فصل السماء عن الأرض
تولى برعايته فصل الأرض عن السماء.
4
إلا أن «فوزي رشيد» الباحث العراقي في السومريات، يعطينا ترجمة أخرى لذات المقاطع، فيقول:
السيد الإله آنليل
قد جعل كل ما هو نافع، يبدو ناصعا
السيد الذي تقريره للمصير لا يمكن أن يتغير
قد أسرع لفصل السماء عن الأرض
قد أسرع لفصل الأرض عن السماء.
5
وفي ملحمة أخرى، لم يتم التعرف على عنوانها بسبب ما أصابها من تلف، اصطلح على تسميتها «
KAR.4-Mathos »، جاءت أبيات تقول:
عندما فصلت السماء عن الأرض
بعدما كانتا متصلتين
ظهرت الإلهة الأم
وبعدما وضعت الأرض وثبتت في مكانها
وبعدما وضعت الآلهة قواعد السماء والأرض
وبعدما نظمت الآلهة الجداول والقنوات وثبتت
شواطئ دجلة والفرات
جلست الآلهة:
آن
آنليل
أوتو
آنكي.
6
وقبل أن نمضي في استقصاء قصة التكوين السومرية من المتفرقات المتناثرة، نقف هنيهة مع ما أسلفنا ذكره، لنحدد الأمور بشكل أقرب إلى الدقة والوضوح، فنقول:
إن الاجتهاد في تفسير خروج السماء والأرض من البحر الأول (كما ورد عند الباحث سواح)، على أنه خروج لجزيرة أو جبل من الماء الأول، قبته السماء وقاعدته الأرض، هو اجتهاد لا مبرر له، كما أنه لا سند له فيما بين أيدينا من ملاحم وأساطير، وكل ما وصلنا هو إشارات عامة عن اعتقاد بوجود محيط ماء أزلي، ومنه كانت السماء «آن» والأرض «كي»، ومنهما جاء «آنليل» ليفصل بينهما، ولا شيء زيادة على ذلك في هذا الجزء من التكوين السومري. ومن هنا أتصور الفهم الأصح، هو أن هذا المحيط البدئي كان ذكرا وأنثى في ذات الوقت، أي أنهم تصوروه كائنا لديه قدرة التوالد الذاتي، فكان فيه الماء المذكر، والماء المؤنث، وهو ما ستؤيده قصة التكوين الأكادية والبابلية، التي سنفصل القول فيها فيما بعد، بعدما عثر عليها شبه متكاملة. ويزعم الباحثون أنها أخذت مادتها وتفاصيلها عن التراث السومري، فأكدت القصة الأكادية أن البدء كان ماء ذكر وماء أنثى، أنجبا سلسلة كيانات الوجود على التوالي،
7
وهو ما يدعم فهمنا المبدئي الحالي للتكوين السومري.
ونتيجة لتلاقح هذا الكائن المذكر المؤنث مع ذاته، أنجب كيانا جديدا هو «ليل»، الذي ترجم بمعنى الهواء، وأرى أنه يحمل في اسمه أيضا معناه الذي حملته كل اللغات السامية بما فيها العربية، بمعنى الليل أو العتمة، وبإضافة اسم الجلالة السومري «آن» يصبح «آنليل
AN-LIL »، وفي اللغات السامية بدءا من الأكاديين الذين حلوا محل السومريين في الرافدين يحل اسم الجلالة السامي «إيل أو إل
EL » محل اسم الجلالة السومري «آن»، فيصبح «آنليل» هو «الليل
EL-LIL ».
8
ويساعد على فهمنا هذا، أن «نانا
NANA » إله الليل وهو القمر متولد أصلا في المفاهيم الرافدية من الهواء، وتؤكد الأساطير الرافدية أن القمر ابن «آنليل»، ومن هنا نعتقد أن الهواء والليل حملا معنى واحدا لدى السومريين.
وهكذا جاء الهواء أو الليل أو العتمة أو الظلمة «آنليل»، ليفصل في الغمر أو البحر الأول «نمو» بين مياه ومياه، فرفع المياه الذكر إلى الأعلى لتصبح سماء وحط بالمياه الأنثى إلى الأسفل لتصبح أرضا وفي ذلك ما يفسر لنا اعتبار الإله «أنكي
ANKI » إلها للماء، كما يلتقي مع تصور الأقدمين للسماء كبحر علوي، تهطل منه الأمطار والسيول، عندما تفتح أبوابه بماء منهمر.
وبذلك تمكن «آنليل» من أن يحدد في الماء الأول بين ماء ذكر وماء أنثى، ويفصلهما عن بعضهما، حدد لكل منهما هويته وذاتيته وشخصيته المستقلة، وهو ما يمكن فهمه من ترجمة كريمر السالفة «هو الذي أظهر للعيان.» والتي حاول «فوزي رشيد» أن يجعلها أوضح في ترجمته لنفس النص «قد جعل كل ما هو نافع يبدو ناصعا.» أي واضحا ومحددا ومستقلا بشخصه، وأتصور أنه حتى «يظهر للعيان» ويجعل كل ما هو نافع «يبدو ناصعا»، كان لا بد من عمل آخر هو أن يحيل الظلمة التي على وجه الغمر البدائي إلى ضياء، يظهر للعيان ويجعل المرئيات ناصعة واضحة، لذلك جاء في زعم «كريمر» أن «آنليل» هو الذي جاء بالإله الشمس «أوتو
»، ولعل أوضح تأييد لفهمنا هذا ما سجلته نهاية المقاطع التي أوردناها من أسطورة «
KAR.4-METHOS »، أقصد:
وبعد ما وضعت الآلهة قواعد السماء
والأرض،
جلست الآلهة:
آن
آنليل
أوتو
أنكي.
ويظهر هنا «أوتو» الشمس، مقرونا بظهور الكيانات الكبرى في الوجود، ويأتينا الإله «أنكي» إله الماء، بديلا عن «كي» الأرض ضمن الأربعة الخالقة التي عرفناها، والتي اختفت منها في هذا النص الإلهة «كي»، مما يوحي بما زعمناه، حول حسبانهم الأرض كانت أصلا مياها، انفصلت عنها مياه السماء، ثم وبعد عناء عملية الخلق الكبرى تلك، جلست الآلهة على عروشها، أو استراحت، أو استوت.
التكوين الكائني
مع أسطورة «جلجامش وإنكيدو والعالم السفلي» نتابع بحثنا عن حقائق سفر التكوين السومري، فيوقفنا مقطع واضح في مقدمتها.
يقول:
بعد أن ابتعدت السماء عن الأرض
بعد أن انفصلت الأرض عن السماء
بعد أن عين اسم الإنسان
بعد أن أصبحت السماء بحوزة «آن»
بعد أن أصبحت الأرض بحوزة «آنليل ».
1
ونفهم من ذلك، أنه بعدما انتهى «آنليل» من فصل السماء عن الأرض وبعدما نظم كونه، وبعدما تقرر خلق البشر على الأرض (بعد أن عين اسم الإنسان)، اتحد «آنليل» بأمه الأرض، بعد أن أزاح أباه، وهو ما يلتقي مع فروض مدرسة التحليل النفسي، في رغبة الابن إزاحة الأب والاستيلاء على الأم، خاصة أن أفعال «آنليل» الخالقة تتوقف عند هذا الحد، ولا يظهر له دور في عملية خلق الإنسان، فيما تحت أيدينا من نصوص، كما لو كان تحقيقا لرغبة موقوفة التحقيق والنتيجة، فلا هو ينجب من أمه الأرض، ولا هو يعاشرها أصلا (كما لو كان تحقيقا لفكرة التابو والتحريم ضد الرغبة)، إضافة إلى أن النص: «بعد أن أصبحت الأرض بحوزة آنليل.» يلتقي مع ما سبق وافترضناه في اقتران ظهور «آنليل» على سائر الآلهة، أو على الأب «آن»، ببداية سلطة الحاكم الكاهن في المشترك المعبدي (بعد أن أصبحت الأرض بحوزة آنليل).
وفيما يتعلق بخلق الإنسان هناك أسطورة أخرى تقول: إن الأرض أنجبت الزرع والحيوان والإنسان، خرجوا من طينها كالدود والحشيش، ثم تصور هؤلاء البشر تصويرا يكاد يعطيها مشروعية علمية فتقول:
البشر الأول لم يعرفوا أكل الخبز بعد
يسيروا على أيديهم وأرجلهم
كالخراف يعلفون الحشائش
ومن القنوات كانوا يشربون الماء آنذاك
في المكان الذي كانت فيه الآلهة في معبدها
التل المقدس ... المعبد ...
المكان الذي تأكل فيه الآلهة الخبز.
2
فهل كان هذا النص تسجيلا لقصة بشر تطوروا وسط بشر ظلوا على حالتهم الحيوانية؟ ربما.
لكن هناك نصا آخر، يروي قصة أخرى لخلق الإنسان وجد منقوشا على لوحين مكررين لنص واحد، جاء أحدهما من مدينة «نفر» وهو حاليا في جامعة بنسلفانيا، والآخر محفوظ في اللوفر، يقول:
الأم الأولى نمو تأتى إلى آنكي (اتفقنا على ترجمة آنكي: السائل المخصب آبسو)
وتخاطبه: قم يا بنى من فراشك
واعمل ما هو حكيم لائق
اصنع عبيدا للآلهة
وعساهم أن يضاعفوا من عددهم
فتدبر آنكي الأمر وقال لأمه نمو:
يا أماه: إن المخلوق الذي نطقت باسمه موجود
فاربطي عليه صورة الآلهة
اعجني لب الطين الموجود فوق مياه العمق (اتفقنا أن ماء العمق آبسو السائل المخصب)
واجعلي الصانعين المهرة يكثفون الطين
عليك أنت أن توجدي له الأعضاء والجوارح
وستعمل ننماه (الأرض الأم أو السيدة الأم)
الأم الإلهة
من فوق يديك
وستقوم بجانبك إلهة الولادة (يبدو أنها ننماه ذاتها)
وستربط ننماه عليه صورة الآلهة
إنه الإنسان.
3
ونفهم من هذا النص أن الذي يجب أن ينسب إليه فعل خلق الإنسان هو الإله «أنكي»، بوصفه سائل الخصب أو مني «آن» مشخصا في إله وأنه لم يفعل أكثر من تلقيح طين الأرض «اعجني لب الطين الموجود فوق مياه العمق.» وأفضل ترجمتها «اعجني له الطين وسيكون فوقه آبسو المني.» خاصة أنه رغم طلب الأم الإلهة من «أنكي» القيام بخلق الإنسان، لا نجد له دورا سوى ذلك، لأن الأم الأرض «ننماه»، الوالدة «ننتو»، هي التي عملت الطين «وستعمل ننماه الأم الإلهة من فوق يديك.» ثم إنها هي التي صورته في هيئة الإنسان على شبه الآلهة «فاربطي عليه صورة الآلهة.» ومن هنا خلقت الآلهة الإنسان على شبهها ومثالها. ويعقب «كريمر»، على ترجمته للنص السالف بقوله: «إن المفكرين السومريين ... اعتقدوا اعتقادا جازما بأن الإنسان صنع من طين، وأنه خلق من أجل غرض واحد فقط، ذلك هو أن يعبد الآلهة ويخدمها بتزويدها بالطعام والشراب والمسكن ليتوافر لها وقت الفراغ لأعمالها الإلهية.
4
لنلاحظ هنا كيف استطاع هؤلاء المفكرون، وهم الكهان، وهم الحاكمون، أن يحققوا فائض إنتاج ملائما بين أيديهم، مقابل تفرغهم لإدارة المشترك المعبدي، والاتصال بالآلهة، باعتبار ذلك مسألة قدسية تتمثل في تزويد الآلهة بالطعام والشراب والمسكن، أو بالقرابين تدخل من فائض إنتاج الأفراد إلى ملكية خاصة بالآلهة والكهنة، إضافة إلى المسكن الفاخر للآلهة «المعبد»، الذي كان في واقعه قصرا سكنيا وإداريا للكهنة.
وقد حاول «بوتيرو» تعليل إصرار أهل سومر على فكرة خلق الإنسان من مادة الطين بالذات، بقوله: «إن هذا التمثيل والصنع من الطين لأجسام البشر الأوائل، يعتبر صورة طبيعية جدا، في بلد يلعب فيه الفخار دورا كبيرا، حيث نجد صنع التماثيل من الطين الفخاري بشكل إنسان، عملا منتشرا بصورة واسعة.»
5
أما نحن فنعتقد ببساطة، أنه كان يكفي للسومري أن يلاحظ الطين وما ينشأ فيه من حياة (فطر، نبات، ديدان ... إلخ) حتى تنشأ لديه قناعة أن هذا هو مصدر ومنشأ الحياة عموما. ولما لم يكن لديه شاهد عياني على خروج إنسان من الطين فجأة دفعة واحدة، كالزرع أو الدود، فقد اعتقد أن ذلك قد حدث بنوع من التشكيل الفخاري لأجداده الأوائل.
وبالبحث عن التسمية التي أطلقها السومريون على هذا المخلوق الطيني نجد الاسم «إنسي
ANZI » وهي في تحليلنا تعنى مثيل أو شبيه الإله «آن»، باعتبار «سي
ZI » تعني الشبيه أو الحقيقي، ويقول «حسن ظاظا» إن الاسم «إنسي» قد تخلف في كل اللغات السامية للدلالة على الإنسان، وأن مؤنثه كان يتأتى بقلب السين إلى «ش» فيصبح «أنشي»، أو إلى «ت» فيصبح «أنتي» أو «ث» فيصبح «أنثى» كما في العربية وجمعها «إناث»،
6
لكن «كريمر» يشير إلى أن الاسم «إنسي» وكان اللقب الذي يعرف به ملوك المدن السومرية.
7
ونعتقد أنه لا خلاف، فالأمر راجع إلى تعظيم الملك باعتباره أبا أولا للمشترك المديني الذي كانت تدين فيه كل عشيرة بالعبادة لأبيها، الذي تمثل بتجميع العشائر في مدينة في شخص الملك، فأصبح هو أب الجميع الأول «إنسي» وكان يلقب أيضا باللقب «لوجل»،
8
أي الرجل العظيم، أو ذا الجلال، ونظنها الأصل في الكلمة الدالة على مذكر الإنسان «رجل».
لكنا نعتقد أن مؤنث الكلمة «إنسي» السومرية، ليس «أنثى» أو «أنت
d »، لأن «إنسي» مركبة من ملصقين هما «آن = الإله أو السيد + سي»، وبما أن مؤنث «آن = سيد» هو «نن = سيدة»، فإن مؤنث «إنسي» يكون «نن سي» أو «ننسي»، وبحسبان ما أشار إليه «ظاظا» يسهل أن تتحول «ننسى» إلى «ننشي» و«ننتي» بشكل خاص، وقد ورد الاسم «ننتي» في أسطورة ترجمها «كريمر»، مما يؤكد استخلاصنا هذا، وقد جاء هذا الاسم في أسطورة تقول إن «نن تي» إلهة خلقت أصلا لغرض خاص جدا، هو تمريض وعلاج الإله «آنكي» عندما أصابه المرض في واحد من أضلاعه، والضلع بالسومرية هو «تي»، لذلك سميت الإلهة الممرضة «نن تي» أي «سيدة الضلع». ويعقب «كريمر» على ذلك تعقيبا يكاد يوعز لنا فيه بحل أحجية خلق حواء من ضلع آدم، التي وردت في الديانات السامية، حتى يكاد يقنعنا أن نصوص سفر التكوين في التوراة، قد أخذت ما جاء في الأسطورة السومرية بشكل شائه، بعد مرور زمان نسي معه الأصل، ولم يبق سوى سيدة الضلع أو السيدة الضلع، فخالوا الأنثى الأولى مخلوقة من ضلع الإنسان الأول، وسقط كاتب هذا الجزء من التوراة، في الشرك السومري، ففسر حواء التي تدل على الأنثى الأولى في اللغات السامية بأنها مأخوذة من «تلك السيدة التي تحيي أي التي تسبب الحياة.»
9
وهو ما تعنيه أيضا الكلمة «تي»، لأن «تي» تدل على الضلع عندما تكون اسما، لكنها كفعل تعني «أحيا»، أو جعله «يحيا» ويصبح اسم «نن تي» أو «ننتي»، السيدة التي تحيي.
10
وأصر كريمر على إفهامنا أن التوراة قد أحدثت خلطا ناتجا عن سوء فهم للتراث السومري، بين «ننتي» كسيدة للضلع مهمتها شفاء ضلع «آنكي»، وبين «ننتي» بمعنى السيدة التي تحيي، لأن «تي» تعني «أحيا».
ومع حفظنا لثقل «كريمر» وتقديرنا له كمصدر غزير للسومريات، فنحن ننحو منحى آخر في تصورنا لما حدث، فإذا افترضنا أنه قد حدث خلط فعلا، فقد كان في الكلمة السامية «حواء» من الفعل السامي «أحيا» وهو فعل له اشتقاقات عدة، منها «حوا» أي استدار حول الشيء واحتواه، كحمل الأم لطفلها في استدارة بطنها، و«حيا» وهو الفرج، ومن هنا يصبح الفعل «أحيا»، هو إخراج الحياة المحوية في البطن من الحيا، وبعد أن تعاملنا مع الاسم «آن تي» كمؤنث ل «آنسي» وانتهينا إلى وجوب تصحيحه إلى «نن تي»، فإن قمنا بالاشتقاق منها على الطريقة السامية في «حواء» من «حيا»، فستصبح «ننتي» هي «ننتو»، وهو الاسم الذي عرفناه لإلهة الولادة السومرية وترجمته الحرفية «السيدة التي تلد».
أما لو افترضنا أنه لم يحدث هذا الخلط في التوراة، فسيكون هناك خطأ ما في ترجمة الأسطورة الخاصة بخلق ممرضة ضلع «آنكي»، ونأسف لأن أصولها ليست بين أيدينا. وفي مثل هذه الحالة كان يمكننا افتراض أن «ننتي» كانت أنثى خلقت من ضلع الذكر، وليكن «آنكي» كما قال «كريمر» وليكن، «أنسي» بالفرض. وأنه كان يعاني من مرض في ضلعه، كان انتزاعه منه كفيلا بشفائه، وعليه لا تكون «ننتي» إلهة وليست أنثى بشرية، فهو ما لا يتناقض مع قوانين التطور الفكري والاجتماعي، التي عبدت الأسلاف كآلهة ذكورا وإناثا.
ولا يفوتنا أن نشير إلى اختصاص الأم الأولى بلقب آخر في السومرية هو «مونوس»، التي هي فيما نظن الأصل في الكلمة السامية «موموس» التي انحدرت إلى العربية «مومس»، للدلالة على المرأة التي لا تعرف رجلا واحدا كما لو كان في اللغة خاصية الحفريات، فاحتفظت لنا بكلمة ذات معنى حفري سحيق، لتشير إلى عصر كانت فيه المرأة مشاعا في المجتمع الأمومي أو النظام الغابر.
لكن أغرب ما في علاقة الفكر الديني السومري بالفكر الديني السامي، ولعله ليس أغرب إنما أقرب إلى طبيعة الأمور، هو ذلك الختم الأسطواني الذي كشف عنه مؤخرا، ويصور ذكرا وأنثى، بينهما نخلة، وخلف الأنثى تدلت حية، رأسها بجوار رأس الأنثى، بينما تمد هذه الأنثى يدها في شكل دعوة للذكر الجالس قبالتها، ليتناول من ثمار النخلة، ولنتذكر الآن الارتباط اللغوي بين الحية، وبين حيا الأنثى «فرجها»، وبين الحياة (فالأنثى مصدر للمواليد، للحياة)، وبين التسمية «حواء». ويبدو أن هذا الارتباط المتوارث، كان ناتج تصور الأقدمين أن الحية دائمة التجدد، ودائمة الحياة، عن طريق مشاهدتهم لها تنسلخ من جلودها العتيقة لتخرج بجلود جديدة زاهية، في حركة تشبه خروج الجنين من حيا الأم، ولعل ذلك يفسر لنا الارتباط العجيب في العقل القديم، بين المرأة كمصدر للحياة باستمرار، وبين الحية التي تتجدد وتولد دائما بانسلاخها من جلدها، وبين تصور كليهما «المرأة - الحية» كمصدر للخبث والأذى!
الخطيئة والسقوط
رغم أنه كان للآلهة معابدها، التي كانت في الوقت نفسه مسكنا لها، ومركزا إداريا للمشترك المعبدي، ومحل إقامة لكبير الكهنة وبطانته، أطلق عليها اسم «إى
E »، فإن هذه المعابد لم تكن مقار دائمة للآلهة، قدر ما كانت بقاعا أرضية مقدسة، تلتقي فيها الآلهة بكهنتها، لتفسير النذر أو قبول القرابين، أو لإصدار قرارات تتعلق بأمور مستعجلة، بينما كان مقرها الدائم كما جاء في الأساطير هو جبل السماء والأرض. أما أين هذا الجبل؟ فهو ما لا تجيب عنه المدونات الموجودة بشكل واضح، لكن يمكن الاستنتاج من مجموعة وثائق وأساطير، أنه كان في مكان يدعى «دلمون
DILMOUN » حيث وردت كمكان تجري فيه أحداث عظام، بين الآلهة السومرية، فظهرت «دلمون» كما لو كانت مسكنا دائما للآلهة. وفي مجموعة أخرى من الأساطير تبدو «دلمون» كما لو كانت مسكنا وموطنا للإله خالق البشر «آنكي» أو «أنسي»، إذا اعتبرناه أبا البشر الأول، وأنه أنجب هناك عددا من الآلهة.
1
وننفرد نحن في بحثنا هذا بزعم يدعمه ما تحت أيدينا من وثائق، هو أن «دلمون» كانت المكان الذي قامت فيه الآلهة بخلق أول بشر على الأرض، فقد وصفت هذه المآثر «دلمون» بأنها:
الأرض دلمون هي الموطن الطاهر
الأرض دلمون هي المحل النظيف
الأرض دلمون هي الأرض المشرقة
هو ذلك الذي اضطجع وحده في دلمون
المحل الذي اضطجع فيه آنكي مع زوجته.
2 •••
في دلمون لا ينعق الغراب الأسود ...
ولا يصيح طائر الأندو «الحدأة» ولا يصرخ
ولا يفترس الأسد
والذئب لا يفترس الحمل
ولم يعرفوا الكلب المتوحش الذي يفترس الجداء
ولم يعرفوا «خرم بالنص» الذي يفترس الغلة
ولم توجد الأرملة
والطير في الأعالي «خرم بالنص» ...
والحمامة لا يحنى رأسها
وما من أرمد يشتكي ويقول عيني مريضة
ولا مصدوع يقول في رأسي مرض الصداع
3
وامرأة دلمون العجوز لا تشكو من الشيخوخة
ورجل دلمون الشيخ لا يتبرم من كبر السن.
4
أما السر في كون «دلمون»، أخذت شكل المدينة السعيدة الفاضلة فيرجع إلى حلول الإله «آنكي» فيها،
5
وتقول أسطورة «آنكي وننهور ساج
ENKI & NIN HURSAG » التي بدأت بوصف «دلمون» كموطن طاهر نظيف مشرق، يسوده السلام والأمن والطمأنينة: إن الإله «آنكي» حل فيها، وأمر الإله «أوتو» أن يملأها بالماء العذب، لكونها كانت تفتقده، وعند ذلك أصبحت:
مدينتها تشرب الماء الوفير
دلمون تشرب ماء الرخاء
آبارها ذات الماء المر
انظر
تراها أصبحت مياهها عذبة
حقولها ومزارعها أنتجت الغلة والقمح
مدينتها، انظر، تراها
وقد أصبحت دارا للشواطئ
ومرسى للأرض.
6
لكن حتى يتأتى لهذه الأرض زرع، كان لا بد من إلهة للزرع والنبات جاءت عبر عدة عمليات خلق، فأولا يقوم الإله «آنكي» بوصفه المخصب، بتخصيب الإلهة «ننهور ساج»، فتحمل لمدة تسعة أيام، وتضع إلهة الزرع،
7
وأتصور إلهة النبات هذه هي حبة القمح، أو أول حبة قمح، فاسمها «نن شال»، و«شال» كلمة تدل على الفرج الأنثوي كمصدر للحياة فهي السيدة الفرج أو الإلهة الفرج، مع ملاحظة التشابه بين حبة القمح المفلوقة وبين الفرج الأنثوي، وما قد يخطر على بال القدماء، عندما يشاهدون فلقة حبة القمح تخرج حياة جديدة، بعد ريها بماء الخصب كما ينفلق الفرج الأنثوي عن ميلاد جديد بعد ريه بماء الذكر.
إلا أن الأسطورة تشير إلى خلق ثمانية نباتات أخرى خلقتها الأم «ننهور ساج» فأكلها «آنكي»، فغضبت عليه «ننهور ساج» غضبا شديدا، حتى أنها قامت تصب عليه اللعنات قائلة: «لن أنظر إليك بعين الحياة حتى تموت.» وهنا أخذ المرض يشتد ب «آنكي» وبدأ يتدهور ويذبل.
8
ولنقف الآن قليلا مع ما جاء في هذه الأسطورة، التي أراها أول تسجيل حقيقي اكتشف حتى الآن لقصة الخطيئة الأولى! فنتساءل: لماذا غضبت «ننهور ساج» كل هذا الغضب على «آنكي» لو لم تكن قد أنذرته سلفا، وحرمت عليه هذه الثمار قبلا، وأعلمته بذلك إعلاما واضحا؟ ومع ملاحظة أن النص به خروم وتشوهات كثيرة أدت لفقد كثير من الأبيات والمضامين! إذن من المنطقي أن يكون هناك علم مسبق أحيط به «آنكي» برغبة «ننهور ساج» عدم المساس بالنباتات الثمانية، وعندما عصى الأمر كان عقابه الموت «لن أنظر إليك بعين الحياة حتى تموت.» ويبقى التساؤل: كيف يمكن لإله مفترض فيه الخلود، أن يمرض ويموت؟! من هنا نفهم أن الأسطورة اعتبرت «آنكي» الأب الأول. وطبيعي أن يتصف بالألوهية بحسبان عبادة الأب الأول، بخاصة ما جاء في بداية الأسطورة بعد تقريظ دلمون كأرض طهور نظيفة، وفجأة وبلا مقدمات تقول: «هو ذلك الذي اضطجع وحده في دلمون.» إنها صورة تلقي بنا في مرآة الزمان الآتي، عند ظهور التوراة وما قالته عن أب للبشر يعيش وحيدا في مكان يسمى الجنة، ثم تقول أسطورتنا عن «دلمون» «إنها المحل الذي اضجع فيه آنكي مع زوجته.» فمن كانت هذه الزوجة؟
هل قصدت الأسطورة بالزوجة الإلهة «ننهور ساج»؟ ربما؛ لكن الأحداث التي تلت مرض «آنكي» تشير إلى منحى آخر، رغم عدم النص عليه في نصنا هذا المهترئ، لأن مرض «آنكي» كان في واحد أضلاعه، واتفقنا أن شفاءه تم بنزع الضلع المريض ليصبح هذا الضلع هو «نن تي» سيدة الضلع، فكان «آنكي» بذلك إلها معرضا للموت بسبب خطيئته، وهو ما يتعارض مع صفة الخلود الإلهية. وكان يجمع في ذاته الذكورة والأنوثة معا، فهو ذكر خلقت من ضلعه أنثى ليتحول الخلود الفردي الذاتي بالانقسام إلى خلود للنوع عبر تناسل الذكر والأنثى، وعليه تتضح عدة حقائق هي:
كان للآلهة دار طهارة وسلام للمقام هي «دلمون».
في دلمون حدثت أول عملية خلق للنبات عن طريق تخصيب «آنكي» ل «ننهور ساج» لتنجب إلهة النبات. «ننهور ساج» تخلق بمفردها ثمانية نباتات محرمة.
يأكل «آنكي» النبات المحرم فتحيق به اللعنة الربانية فيمرض بضلعه ويحتضر، لولا نزع هذا الضلع المريض منه، وتخلق منه سيدة الضلع أولى إناث البشرية.
يفقد آنكي بذلك ألوهيته كسائل مخصب كوني، ويتحول خلوده الإلهي إلى خلود عبر التناسل. وهنا في رأيي تكمن العلاقة بين «آنكي» وبين «إنسي» فتحول «آنكي» إلى «إنسي» مهمته التخصيب المستمر لسيدة الضلع «نن تي» أو «نن تو» أو «سيدة الولادة» أو «ماما» أو «مامي» أو «أماه».
ولا يبقى لكي تترتب المسألة بشكل أفضل سوى أن نستكملها بالختم الأسطواني الذي صور ذكرا وأنثى يأكلان من ثمار نخلة، بإيعاز من الحية «والحية رمز جنسي» لنسد به الثغرات الناقصة في النص، ليصبح أكل الثمرة المحرمة هو رمز لممارسة الجنس مع أخرى غير «ننهور ساج»، مما استوجب غضبها ولعنتها، ولم تكن هذه الأخرى سوى «نن تي » أو «ننتو» أو «أنتي» أو الأنثى الأم الوالدة الأولى، بينما أصبح آنكي هو «إنسي» صاحب المني المقدس، بينما تحولت ثمار النخلة «التمر» (وهى رمز نن تي شافية المرض التي مارس معها الجنس آنكي، ولنلحظ نواة التمر المفلوقة وحبة القمح المفلوقة)، لتصبح ثمرا مقدسا وشافيا ومثيرا للغلمة والشهوة، وسببا لمزيد من مني الرجل وخصبه حتى اليوم؛ بل نعتقد أن كلمة «تمر» لغة، هي التي أصبحت بعد ذلك «ثمر»، لتدل على وجه الإطلاق على جميع أنواع الثمار بمعنى أنها كانت الأصل الأول للثمر عموما وللخصب عموما، ومثلها القمح وكل حب مفلوق (ولنلحظ العلاقة اللغوية بين الحب، والحب)، فكان التمر والحبوب، الثمار الأم الأولى في «دلمون» إلى جوار الأب الأول «آنكي» أو «إنسي» والأم الأولى «نن تي» أو «أنثى».
وبما أن «دلمون» يشار إليها في الأساطير السومرية كمركز إلهي خالد يخالف دنيا السومريين في الرافدين، فقد بات واضحا أن «آنكي» الإله الذي فقد الخلود، و«نن تي» زوجته، أو الإنسي والأنثى كأبوين للبشر، قد غادرا هذا المقر الإلهي من زمان بعيد، ليعيشا عيشة إنسانية، بينما ظلت «دلمون» موطن الآلهة الخالدة في الأساطير.
العالم التحت أرضي
إذا كان آنكي إلها فقد الخلود وأصبح «إنسي»، فهل كان ممكنا في العقائد السومرية أن يتحول الإنسان إلى إله؟ أو بصيغة أخرى، هل كان ممكنا في الاعتقاد السومري أن يحصل البشر على الخلود الدائم؟
يقول الباحثون إنه لم يخطر قط للسومريين، ولا للشعوب السامية في الرافدين أو باقي الهلال الخصيب، حتى قبل زمن المسيح بقليل، أنه يمكن للإنسان أن يخلد. وقد قررت ملحمة جلجامش ذلك صراحة بتأكيدها: أنه «عندما خلقت الآلهة الإنسان، قدرت عليه الموت، واحتفظت لنفسها بالخلود.»
1
وهنا الفارق بين الإنسان والإله، فالإله خالد والبشر فان إلا أن هناك قبسا إلهيا ظل في البشرية، هو المني الذكري والفرج الأنثوي، الذي يعود إلى الأب الأول «آنكي» والأم الأولى «ننتي»، أول رعيل إلهي تحول إلى بشر، فجمع اللاهوت مع الناسوت، أو الألوهية مع البشرية.
وقد عبر السومريون عن قناعتهم باستحالة خلود البشر في مجموعة أخرى من الأساطير، منها أسطورة «جلجامش وأرض الأحياء» وتقول: إن «جلجامش
GELGAMISH » كان يبحث عن نبات الحياة، فالخلود هنا مصدره مادي في شكل مادة إذا أكلها الفاني خلد، وهي ذات الفكرة التي قالت بها التوراة، حول شجرة الحياة في الجنة (التكوين 2: 9-22) وكي يحصل جلجامش على ثمرة الخلود، رحل إلى دلمون بالذات، فهي مقر الآلهة الخالدة، ليبحث هناك عن بغيته، وفعلا وجد الشجرة، واقتطف من ثمرها السحري، وعند عودته:
رأى جلجامش بركة ماء
نزل فيها، استحم بمائها
تشممت الحية رائحة النبتة
تسللت، صعدت من الماء
خطفتها
وفيما هي عائدة
تجدد جلدها
وهنا جلس جلجامش وبكى.
2
حقيقة، إن النص بليغ الدلالة، يلخص ما ذهبنا إليه، ويؤكده بوفاء واضح جلي، فها هي شجرة الخلد في «دلمون» مسكن الآلهة، وموطن آباء البشر الأوائل، تتعرض مرة أخرى لمحاولة السطو عليها، لكن الحية، والحية بالذات دون جميع الكائنات، رمز الحيا (الفرج، الجنس) تتسلل مرة ثانية لتسلب الساعي إلى الخلد ثمرة مسعاه، لتنعم به دونه، وتخلد بانسلاخها من جلدها كلما آن أوان موتها. ولا يكتفي السومري بهذه الرمزية الواضحة إنما يزيدنا إيضاحا، فيفقد «جلجامش» الخلود في بئر أو بركة ماء، والبئر أو البركة باستدارتها رمز واضح آخر للفرج، إنها قصة تدفعنا أو تكاد للظن أن الوعي والشعور كان مسألة مبكرة جدا في تاريخ نشوء الحياة على الأرض فاحتفظ الكائن إلى اليوم في عقله بكافة مراحل تطوره الأولى، منذ كان كيانا دقيقا، يستمر في الوجود عبر عمليات الانقسام الذاتي، حتى تخصصت فيه أعضاء للذكورة، وأخرى للأنوثة، ثم الانتقال إلى انفصال الذكر عن الأنثى (الضلع عن آنكي) لينتهي عهد الخلود الفردي ليبدأ عهد الخلود الجماعي للنوع، عبر التناسل، الذي استدعى التجمع الإجباري والتجاور لممارسة الجنس، حفاظا على النوع واستمراره، مما أدى بالضرورة إلى نشوء التجمع الإنساني.
ولعلي لا أغالي إن قلت: إن السومري القديم، حاول جاهدا - بلغته البدائية - أن يبلغنا بما بقي في اللاشعور الجمعي من ذكريات سحيقة في القدم فوضع أساطير أخرى مثل أسطورة معراج «أدابا
ADABA » إلى السماء، حيث دعاه هناك إله السماء وأكرم وفادته، فدعاه إلى مائدة تحوي طعام الخلد لكن «آنكي» كان أسبق من إله السماء، فأوعز إلى «أدابا» ألا يتناول منها شيئا فيرفض «أدابا» الوليمة الإلهية، ويخسر الخلد،
3
فهل بعد هذا بلاغة في محاولة السومريين تبليغنا.
فقط، إنسان واحد فقط، رفعه مجد عمله إلى رتبة الألوهية، ونال الخلد؛ وحتى يناله فعلا تم نقله إلى «دلمون» دار الخلود، ذاك هو بطل أسطورة الطوفان، الذي أنقذ بذرة الحياة على الأرض، في فلك أسطوري،
4
فكان أن منح الحياة الخالدة، أو نصيبا:
زيو سودرا الملك
سجد أمام آن وآنليل
فمنحاه حياة كحياة الآلهة
وجاءا إليه بأنفاس خالدة
كأنفاس الآلهة
وبأمر آن وآنليل
أمام الملك زيو سودرا
الذي يحفظ أسماء «خرم بالنص»
والبشر
في جبل العبور، جبل «دلمون»
حيث تطلع الشمس.
5
ويبدو أن بطل الطوفان «زيوسودرا
ZIUSUDRA » كان شخصا حقيقيا، استطاع أن ينقذ في قاربه إبان كارثة فيضان عاتي، أفراد أسرته وآخرين، فكان مجد عمله كفيلا برفعه إلى رتبة الألوهية، وكانت الأعمال الفدائية والمجيدة فيما نرى هي السبب الأساسي في تأليه الوالدين والأسلاف، في غابر الأزمان، وسبق أن أفضنا في التدليل على وجهة نظرنا هذه في اثنين من أهم أعمالنا المنشورة؛ الأول كان بعنوان «الأضاحي والقرابين، الجذور الاجتماعية»، والثاني «القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث».
6
ومن ثم اكتسب «زيوسودرا» الألوهية والخلود، بعد أن خسر حياته فيما يبدو إبان محاولة إنقاذ بنيه، وقد أخذ الساميون بهذه الأسطورة لكن البطل حمل اسم «أوتنابشتيم
UTNABESHTEM » و«إثرا خاسيس
ETHRA KHASIS » و«تجنوح
TAGNOAH »، لكن الأسطورة المصوغة لبطولة «تجنوح»، دخلتها عناصر من قصة الخلق، فقالت إن «تجنوح» لم يستمر في هذه الحياة الخالدة، بعد أن خسرها، لما أكل من فاكهة محرمة،
7
ولنلاحظ القرب الزماني لأسطورة «تجنوح» من وقت ظهور التوراة، حيث اختصر فيها «تجنوح» إلى «نوح»، الذي تقول التوراة إنه عاش عمرا مديدا بلغ حوالي تسعمائة وخمسين عاما، وهو يكاد يكون ترديدا لمعنى الخلد الألفي، الذي ينقطع فجأة بالأكل من الثمرة المحرمة في القصة الأصلية «تجنوح» (تكوين 6: 9).
وقد استند الباحثون إلى مثل هذه الأساطير ليقطعوا بأن السومري القديم لم يعتقد في حياة خالدة من بعد الموت، وأن الساميين قد تابعوهم في ذلك، وهذا في رأينا فهم خاطئ للمسألة من أساسها، لأن الخلود الذي قصدته تلك الأساطير كان مطلبا لديمومة الحياة في هذه الدنيا، ورفض السومريون الاعتقاد في أن إمكانية تحقق ذلك أمر منطقي وعقلاني، رغم رغبتهم الواضحة فيه، أما الاعتقاد في حياة أخرى بعد الموت في عالم آخر، فهو أمر مقرر لدى السومريين، ولا يجادل بشأنه مكابر، ولا يقبل شكا أو جدلا، لكنه لم يأخذ خطه التطوري الذي أخذه عند المصريين، فلم يعتقد السومريون بعودة الموتى في شكل بعث جديد ولا في ثواب أو عقاب، وكل ما في الأمر أن الموتى يرحلون جميعا إلى عالم آخر، وهو في ملحمة «جلجامش»: «البيت الذي لا يعود داخله»،
8
في عالم تحت أرضي، خالد، لكن ليس فيه ما يبهج النفس.
وأطلق السومريون على عالمهم التحت أرضي كلمة «كور
KUR »، وكانت هذه الكلمة في الأصل، تدل على وحش تخيلوا مسكنه تحت سطح الأرض، اختطف إلهة أنثى أرضية هي «إيرشكيجال»، وأخذها لتعيش معه كزوجة في العالم التحت أرضي، وصارا هناك سيدين للعالم التحت أرضي الرهيب.
9
وأتصور أن الكلمة «كور» تحولت من دلالة على الوحش السفلي، إلى الدلالة على العالم الأسفل عموما، نتيجة تصور أن العالم السفلي يتخطف الأحياء عن الأرض، لينزلهم موتى إلى باطنه، كمن يلتهمهم، أو أن «كور» كان يتخطفهم من الدنيا الأرضية، وبذلك يكون بداية لفكرة ملاك الموت السامي «عزرائيل».
وفي إحدى مناحات الإلهة «إنانا
INANA » على حبيبها «تموز
DAMUZI » نجد للعالم التحت أرضي اسما آخر هو «آدن، أو أدين، أو الدين
EDIN » فهو عالم الدين والكلمة «
EDIN »، في الأصل تعني السهل.
10
وقد اهتم السومريون بالموتى، وزخرت قبورهم بالمتاع والطعام والشراب. ويبدو أنه كان بقصد انتفاع الميت بهذا المتاع؛ لذلك ربما اعتقدوا بعودة روح الميت بين آن وآخر من العالم التحت أرضي إلى القبر وهو ما افترضه «نجيب ميخائيل»
11
لكن ربما كان لوضع المتاع سبب آخر، وجائز أنهم اعتقدوا ببقاء الميت في قبره حيا لفترة محددة، قبل هبوطه إلى العالم التحت أرضي، مما يجعله محتاجا في هذه الأثناء للطعام والشراب. علما أن حكام سومر قبل عهد العاهل «أورنامو» كانوا يصطحبون معهم عند الموت مقتنياتهم وحاشيتهم من بشر، بأن يتجرعوا السم ليهبطوا بصحبة سيدهم إلى عالم تحت الأرض.
12
وقد لوحظ اعتقاد السومريين أن أعظم شر يمكن أن يلحق بالميت هو عدم دفنه وفق تقاليد طقسية محددة، لأنه في هذه الحالة سيتحول إلى روح شريرة تجوس في الأرض تؤذي الأحياء. ويبدو أن هذه الفكرة صياغة كهنوتية قصد منها الكسب ليس أكثر، وهو ما يستنتج من المثل السومري الساخر: «أغلى شيء في لجش هو أن تموت.»
13
مما يشير إلى ارتفاع أجور الكهان لممارسة عملهم في طقس الدفن ومغالاتهم في ذلك.
أما الحياة في العالم التحت أرضي، المحاط بأسوار سبعة لكل منها باب واحدا،
14
يحكمه «كور» وزوجته «إيرشكجال» مع معاونين من المردة والجن، فلها قواعد، أهمها العري التام، فالميت يدخله عاريا كما ولد عاريا، وهو ما نفهمه من أسطورة «نزول إينانا إلى العالم السفلي»،
15
وإن كان سينال بدل الملابس ريشا ينبت على جسده كالطيور،
16
لكن للأسف، ليس في هذا العالم ميزة لصالح على طالح، فالكل فيه في الرغام والطين والظلام الأبدي سواسية؛ الرفيع فيه كالوضيع.
17
وهكذا يتضح أنه ليس ثمة علاقة محددة بين هذا العالم التحت أرضي وبين عالم الآلهة الخالد الدلموني، وإن صفة الأبدية في كليهما لا تعني أبدا وجود قاسم مشترك بينهما، بل إنه ليس هناك أية علاقة بين صنفي الآلهة الدلمونية وبين الآلهة التحت أرضية.
18
بلاد الرافدين.
بلاد الشرق الأوسط والعالم القديم.
آلهة مصرية بالرأس الطوطمي.
آلهة رافدية بجسد الإنسان ورأسه وإن غلب على الرأس نوع من التجريد إمعانا في الغموض والتغييب.
ختم أسطواني سومري، ينتمي إلى حوالي منتصف الألف الثالث ق.م. كائن حاليا بالمتحف البريطاني بلندن، يمثل أفعى تنتصب خلف امرأة تمد يدها في شكل دعوة للرجل الجالس أمامها لتناول ثمرة من شجرة أو نخلة بينهما. ولعله من الواضح تماما أن هذا النقش الذي سبق تدوين الكتاب المقدس بقرون طويلة يمثل قصة إيعاز الحية للذكر والأنثى الأوائل بأكل الثمرة المحرمة.
الباب الثاني
سفر التكوين البابلي
تأسيس
إذن استطاع الساميون المهاجرون، أن يصبحوا أصحاب السيادة في كافة بقاع الهلال الخصيب (بلاد الرافدين؛ سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن)، حتى لم نسمع شيئا عمن سبقهم هناك، لكنهم فيما يزعم الباحثون ولنا تحفظنا كانوا أول أمرهم عالة على ثقافات أصحاب المنطقة الأصليين، ثم تمثلوا هذه الثقافات، وعبدوا أربابها، ومارسوا نظمها وعاداتها وتقاليدها، وأحيانا مزجوا بين ما حملوه من لغة وثقافة في بيئاتهم الأصلية، وبين الجديد في المواطن الجديدة. والباحثون يؤكدون أن أهم ثقافة أثرت في هؤلاء المهاجرين الوافدين هي الثقافة السومرية، التي حفظت داخل التراث الديني السامي بعد ذلك، الذي تبلور نهائيا في الثقافة اليهودية، التي تضمها دفتا الكتاب المقدس (التوراة).
وقد أشرنا مسبقا إلى أن أول الموجات من هذه الهجرات المتدفقة كونت دولة في الرافدين، هي موجة القبائل الأكادية، التي بدأت بالاستقرار على حدود الدويلات السومرية، ثم تسللت إلى الداخل تدريجيا، وأخذ أفرادها يتقاطرون داخل المدن السومرية، ليعيشوا أول الأمر كمواطنين وافدين من الدرجة الثانية، وفي ظروف غير معروفة تمكنوا من الإمساك بزمام الأمور، بعد أن استطاع أحد أفذاذهم أن يصل في مدارج نجاحه الوظيفي، إلى رتبة ساقي القصر الملكي في مدينة «كيش»، ثم وثب على العرش، ليعرفه التاريخ باسم الملك «شاروكين
SHARUKEN » أي الملك الشرعي أو الصادق، وعرفته تواترات التاريخ باسم «سرجون الأول»، الذي تعصب لبني جلدته الساميين، وبالاعتماد عليهم تمكن من أن يجعل نفسه ملكا مطلق النفوذ وأن يوحد دويلات سومر في دولة واحدة، هي الدولة الأكادية، التي استمرت ما يقرب من مائتي عام (2340-2180ق.م.) التي كانت أول المراكز القومية المركزية في تاريخ الرافدين.
و«سرجون» هو صاحب أول قصة عن الإلقاء في اليم، فكتب عن نفسه سيرة كثيرا ما ترددت بعد ذلك في سير أبطال الملاحم الشعبية، فقد ولدته أمه خفية وخيفة لأسباب غير موضحة، ووضعته في سلة من البوص أحكمت غطاءها بالقار وألقت به في الفرات، فاحتمله الماء، حتى انتشله فلاح اتخذه ولدا وعلمه الفلاحة، وكان كل ذلك تقديرا ربانيا حيث تدخلت العناية الإلهية في النهاية بشكل مباشر وسافر من أجل البطل الموعود، فشملته الإلهة «عشتار
ESHTAR » برعايتها ثم بوأته ملوكية البلاد.
1
وبانهيار الدولة الأكادية استعاد السومريون قدراتهم وأقاموا لهم دولة موحدة (العصر السومري الثاني)، انتهت بدفقة سامية أخرى من القبائل العمورية (أو الأمورية أو الحمورية)، الذين أسسوا دولة بابل الأولى (1880-1595ق.م.) وكان أشهر ملوكها «حمورابي» صاحب القوانين المشهورة (حوالي 1728ق.م.).
ويتمسك الباحثون برأيهم في أن الثقافة السومرية استمرت تفعل فعلها بعد أن دخلت كنسيج أساسي في ثقافة الساميين الذين استوطنوا البلاد، وتسربت إلى كافة الثقافات السامية في جميع مواضع الهلال الخصيب. ويعلل «كريمر» ذلك بقوله:
وجدت جميع شعوب آسيا تقريبا، كالأكديين والآشوريين والبابليين والحيثيين والكنعانيين والعيلاميين ... أن من مصلحتها استعارة الخط المسماري، لغرض تدوين سجلاتهم وكتاباتهم الخاصة ... كانا يتطلبان تدريبا شاملا في اللغة والأدب السومريين؛ ولتحقيق هذا الهدف كان المعلمون والكتاب من ذوي المعرفة، يستوردون بلا شك من الأقطار المجاورة بينما كان الكتبة المحليون يشدون الرحال إلى بلاد سومر، للحصول على تعليم خاص في مدارسها ذات الشهرة الكبيرة، وكانت النتيجة انتشارا واسعا لبذور الحضارة والأدب السومريين، إن أفكار السومريين ومثلهم، كأفكارهم في الكون واللاهوت والأخلاق ونظام التعليم، تغلغلت إلى درجة كبيرة أو قليلة في أفكار وكتابات جميع شعوب الشرق القديم ...
2
دور الملك في التكوين
استطاع «سرجون» إذن، ولأول مرة، أن يوحد مدن سومر في دولة مركزية موحدة، يسودها عنصر سامي وافد، وكان ذلك إيذانا بتحول فوضى الفرقة إلى نظام، في جهاز إداري واحد صارم، وخضوع كافة السلطات الاجتماعية المتراتبة، لسلطة واحدة آمرة ناهية، تتمثل في شخص الملك الجديد، المالك لكافة المشتركات المدينية السابقة، التي تحولت بسادتها البشر والآلهة إلى أتباع للسيد الجديد المطلق النفوذ، الذي تحول بدوره بالسلطة المجردة من القسر إلى سلطة باطشة، بعد أن تدهورت سلطة مجالس المشتركات الأولى وقيودها على العاهل تدريجيا نتيجة للاتساع الهائل للدولة ليمسك الملك المتحرر النفوذ بكل السلطات. وفي الدولة السرجونية، تحرر الملك تماما من نفوذ أي مجالس شعبية، وأصبح القسر والبطش الأسلوب الأسرع في الوصول والتأثير في البقاع المترامية الأطراف، لتحقيق مآرب الدولة الموحدة، إزاء طوارئ لا تحتمل انتظار الرأي الشعبي في دولة واسعة، وتم تمثيل الكل في ذات الحاكم، والإله الذي ساد بسيادة هذا الحاكم، ومن ثم أخذ الإله يتحول عن صورته الرحيمة القديمة كأب بدائي للمشترك، ليتحول إلى طاغ طغيان الملك، كلمته نافذة نفاذ كلمة الملك، عصيانها قد يدمر الدولة أو يؤخرها على المستوى الإنساني، فهي خيانة عظمى، وعصيانها على المستوى الإلهي كفر وإثم عظيم، ومن ثم أصبحت كلمة الملك والإله واحدة، لا راد لها ولا لقضائها، فتحولت القدرة الإلهية من الفعل بالعمل، إلى الفعل بالكلمة، وظهر لأول مرة دور الكلمة الإلهية في التكوين الرافدي، على ما سنرى بعد قليل.
المهم أن الساميين الوافدين تركوا الآلهة السومرية على حالها لكن مع تبديل في أسمائها إلى أسماء سامية، ومع بعض التغيير في الأدوار والوظائف، فظل مجمع السبع المقررة المصائر قائما وكذلك مجمع العظام الخمسين، لكن بعد أن توارى «آن» زعيم السبع المقررة المصائر، ليحل محله «إيل» أو «إل» السامي أما الأرض «كي» فأصبح «أرد
ARD »، كذلك «أوتو» الشمس تم تعديله إلى «شمش»، و«نانا» القمر باعتباره الإله جميل الصورة الزين، إلى «سين»، والزهرة «إينانا» إلهة الجنس الشبقة العاشقة دوما للعشرة والمعاشرة الجسدية، أصبحت «عشتار» من العشرة والتعشير (أي الجماع والحمل)، بينما تحول «آنليل» إلى «الليل» خلال الدولة الأكادية، ثم أزاحه إله الدولة البابلي الصاعد «مردوخ
MARDUK » نهائيا، واستولى على صفاته ومناصبه، ثم لم يكتف بذلك، بل اقتنص كل اختصاصات الآلهة العظام الخمسين، ولم يمض وقت قصير حتى تمكن من الاستيلاء على اختصاصات باقي الآلهة، وحتى دور «آنكي» الأب الأول، سلب منه مبدئيا على يد إله جديد هو «أيا
EA »، ثم أخذه منه «مردوخ» باعتباره في الميثولوجيا البابلية ابن «أيا» ووريثه، أو الابن الذي فاق أباه قوة وحكمة .
وفي ذلك يقول «عبد العزيز صالح»: إنه قد «انتفع البابليون ببعض عناصر الفكر السومري، عن أصل الخلق المادي والمعنوي في دنياهم، وخرجوا بنظرية عن نشأة الوجود، جعلوا ربهم قطب الدائرة فيها.»
1
ويضيف «بوتيرو»: «إن البابليين لا يبدو أنهم افترضوا انعداما كليا للأشياء كأصل الوجود، بل افترضوا فوضى وعدم انتظام شامل، وبهذا فإن الكون لا يبدأ بخلق ... لكن يبدأ بتنظيم ما هو في حالة فوضى.»
2
وقد وردتنا أسطورة شبه متكاملة للتكوين البابلي، في الملحمة المسماة «إينوما إيليش
Enuma Elish » التي تعني «في العلا عندما» أو «عندما في العلا»، وقد دونت في سبع لوحات، يعود تاريخ كتابتها إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وتؤكد أن مبعث الفوضى الكونية الأولى كان يعود إلى سيادة إلهة أنثى عريقة قديمة، هي الإلهة «تيامت
TIAMAT » ولنستمع إلى «بوتيرو» يسرد علينا موجزا لهذه الملحمة، فيقول:
في الأسطورة الشهيرة للخليقة، المسماة إينوما إيليش ... التي ألفها علماء الدين في بابل لتعظيم الإله مردوخ ... في الأصل لم توجد سماء ولا أرض، لكن فقط مياه في حالة من الفوضى، مكونة من إلهين أصليين، اختلطا مع بعضهما، هما الآبسو، والموموتيامت ... ونتيجة اندماج هذين الإلهين ... خرج الإله آن، الذي أولد أيا على شكله، والإله أيا قضى على الآبسو لأنه أراد تدمير نسله، وأولد مردوخ، وتبع هذا الحدث ثورة تقودها تيامت ضد الآلهة انتقاما للآبسو، وتحضر لمعركة مخيفة وتجهز مجموعة من الوحوش الكاسرة ... ويرفض الإله أيا الاشتراك وخوض الصراع ضد تيامت ويقبل الإله مردوخ النزال، للحصول على السلطة العليا ... ويجري النزال وجها لوجه، مردوخ ضد تيامت، وينتصر عليها، ويسجن جيشها المخيف ويقسم جسدها إلى نصفين، وينفخ فيه الهواء ويعمل من نصف جسدها العلوي - الذي يرميه إلى الأعلى - السماء، ومن النصف الثاني ... الأرض ... وينظم بذلك مردوخ القبة السماوية بكل نجومها، التي حاز عليها بعد نضال عنيف في تنظيم عالم الآلهة، ويتوج، ويحتفل به كسيد للآلهة السماوية، وعلى الأرض.
3
إذن: كان في الأصل غمر مظلم من الماء، ذكر هو الآبسو (عرفناه باسم آنكي أو إنسي السائل المخصب)، والمومو (أي الماما أو الأم الكبرى) تيامت (وواضح لصق اسمها من تي أم نسا الأم تي)، وبتلقيح الآبسو كسائل مخصب للأم تيامت، جاء الإله السماء «آن» وولد «أيا» الذي قضى على «آبسو» لأنه أراد تدمير نسله. (ولنلحظ الرمزية هنا: أيا إله حل محل الإله آبسو كإله للسائل المخصب في الثقافة السامية الغازية محل الثقافة السومرية. أما لماذا قضى أيا على آبسو، فلأن آبسو إله سومر، أراد تدمير نسله أيا السامي!)
ثم ولد «أيا» ابنه «مردوخ» إله الدولة والملكية المركزية ونتيجة مقتل السومري «آبسو» قامت الأم الإلهة تطالب «أيا» السامي بدمه، وهنا يقوم الإله الابن «مردوخ» بالصراع ضد «تيامت» ليحصل على السلطة العليا.
ولنفهم المعنى الأخير «لكي يحصل على السلطة العليا»، نستعين مباشرة بلوحات «الإينوما إيليش» فنجدها تقول: إن الآلهة وهي تجد نفسها مهددة من الأم البحر «تيامت» تلجأ إلى مردوخ أحدث الآلهة، إله الدولة الجديدة، لكن «مردوخ» يستفيد من ذلك، ليتجاوز سلطة مجلس السبع المقررة المصائر الخالقة، والخمسين العظام فيقول:
إذا كان علي أن أكون بطلكم
وأن أقهر تيامت، وأنقذكم
اجتمعوا إذن
وأعلنوا عن سلطتي العليا
اجلسوا حقا فرحين
في بشو كينو
واتركوني أحدد مثلكم المصير
وذلك عن طريق:
الكلام الذي ينطق به فمي
وبهذه الطريقة
لن يكون بالإمكان
أن يتغير شيء مما أقرر
الأمر الذي أعطيه
لا يرد، لا يتغير.
وفعلا:
أقاموا له عرشا يليق بأمير
وجلس يترأس وهو يواجه آباءه
أنت الأكثر تمجيدا بين كبار الآلهة
إن ما تقرره لا يعارض
إن كلمتك الآمرة هي كلمة آن
منذ اليوم
لا يكون ما تنطق به عرضة للتغيير
نطقك يغدو الحقيقة
وأمرك لا يحتمل شكا
وقالوا لبكرهم مردوخ:
افتح فمك
تتلاشى قطعة القماش
تكلم ثانية
تعود القطعة كما كانت ...
ولما رأى آباؤه ثمرة كلمته
قدموا له الخضوع في فرح
قائلين: من دونك ملك ...
أيها السيد:
احفظ حياة من يؤمن بك
أيها السيد:
انزع حياة الإله الذي يضمر السوء
مر بالغرق، أو بالخلق
يكن ما تأمر به.
4
وهكذا ظفر «مردوخ» بالسلطة المطلقة، وتخلى له مجلسا الآلهة عن سلطانهما، ليصبح سيدا أوحدا، معبرا عن سلطة الملك البابلي، في دولته المركزية الواسعة، ويؤكد لنا ذلك، طقس سنوي كان يقوم فيه الملك بتمثيل دور «مردوخ» في مسرحية دينية، يحارب فيها «تيامت» وجيشها حتى يقضي عليها،
5
ممثلا بذلك وقائع سفر التكوين، وقد ذكر هذا الطقس في أكثر من نقش، إضافة إلى أننا نتأكد من مصداقية هذا الربط الذي نفترضه بين مردوخ والملك، بالنظر إلى ما ورد في الأسطورة ذاتها، فالآلهة تقول:
لقد خلصتنا الآن أيها الإله
فماذا ستكون هبتنا لك؟ (إن الهبة ستكون هي تثبيت الملوكية، انظر النص):
دعنا نبني عرشا
مأوى لإقامته؟!
6
ولا يكتفي «مردوخ» بذلك، كما لم يكتف الملك بمجرد عرش، بل يسلب «مردوخ» الآلهة العظام الخمسين في المجلس سلطاتهم، أو كما تقول الأسطورة:
أما نحن
فمهما أطلقنا عليه
فهو إلهنا
ألا فلنعلن أسماءه الخمسين!
7
وهكذا يستولي الملك بدوره على سلطات المجالس شبه الديمقراطية الأولى، الباقية من نظام المشتركات المدينية، بعد توحيدها في دولته المركزية، مع ملاحظة أن هذه التطورات تعبير في الوقت ذاته، عن سيادة مطلقة للإله الذكر، تمثلت في الفعل والخلق بمجرد الكلمة، كما تمثلت في لوحات «الإينوما إيليش» يقوم مردوخ بما قام به «آنليل» من قبل، لكن «آنليل» الذي ظل زمانا طويلا إلها لطيفا لطف طبعه «الهواء»، فرفع أباه آن عن أمه «كي»، في مياه الغمر الأولى «نمو»، أما مردوخ فكان عنيفا قاسيا، بعد أن حاز إمكانات أصبحت ضرورية، لحفظ الاستقرار في دولته السماوية، وضرورية للملك الأرضي لذات الغرض، وهو رأس دولة كبرى مترامية الأطراف، تحتاج حزما وقوة وعنفا، لذلك قام «مردوخ» وبقسوة ينفخ «تيامت» بالهواء، ثم:
شقها كما تشق الصدفة قسمين
وثبت نصفا جعله سقفا سماء
8
شطر جسدها شطرين،
أعلاهما ثبته في السماء
خلق منه السماء
والأسفل ثبته في الأرض
خلق منه الأرض.
9
ويعقب موسكاتي هنا بقوله: «وبذلك قسم المياه الأولى إلى: مياه فوق الجلد
Firmament ، وأخرى تحت الجلد.»
10
ونتابع الإينوما :
صنع مردوخ منازل للآلهة
خلق الأبراج
ثبتها في أماكنها
حدد الأزمنة
جعل السنة فصولا
ولكل شهر من الاثني عشر
ثلاثة أبراج
حدد الأيام بأبراجها ...
وإلى الشرق
وإلى الغرب
فتح بوابة
وسلط القمر على الليل
وجعله زينة في الليل
به يعرف الناس مواعيد الأيام.
11
وبعد أن رتب «مردوخ» في هذا الماء، أو الجلد السماوي، كواكبه ونجومه، والنيرين الكبيرين: الشمس والقمر، هبط إلى النصف الثاني (الماء والأرض)، وهناك:
مردوخ على سطح الماء
ظفر حصيرا وصنع شيئا من التراب
وخلطه مع الحصير
وهذا كون لوحا صلبا
فوق المياه
هو: الأرض.
12
لكن سماء «مردوخ» لم تكن سماء واحدة، وأرضه لم تكن أرضا واحدة إنما كانت السماء سماوات، فهي سبع سماوات طباقا، والأرض أيضا، طبقات سبع، أما في أعلى السماوات، فقد ابتنى «مردوخ» لذاته العليا عرشا يليق بجلاله، وبإطلاقية سلطانه.
13
ولما انتهى «مردوخ» من التكوين الكوني، اجتمعت الآلهة واحتفلت بتتويجه سيدا للكون، وبنوا له مدينة «بابل» أو «باب إيل» أو «باب الإله» لتكون مقرا لممثله على الأرض، وفي وسطها بنوا له معبد «الإيساجيل
Esag EI » وترجمته الحرفية «مقر رأس الإله»،
14
مما يشير إلى أن «مردوخ» قد تعرض للقتل والذبح، باعتبار المعبد مدفنا للرأس فقط، مما يربطه بآلهة الفداء الشهيدة وعبادات الخصب والري، مثل «أوزيريس
OSIRIS » المصري و«أدونيس الفينيقي»، الذى هو أحد البعول الكنعانية، و«أتيس
ATIS » الفريجي، و«ميتهرا
METHERA » الفارسي، و«يسوع» العبري، و«الحسين» العربي ... إلخ. وقد وجدنا أن أسطورة إله الري الذبيح قد لحقت بالإله «مردوخ»، وكانت تقام له سنويا، طقوس واحتفالات للتذكرة بعودته من بين الأموات، في عيد للقيامة مجيد، وساعتها يتلو الكهنة أمامه أسماءه الخمسين، إعلانا عن حيازته كل ألقاب السيادة. وأهم هذه الألقاب لفظ الجلالة الأسمي «إل» أو «إيل»، ولقب «بعل» أي سيد الآلهة أو ربها، ويفيد السيادة عموما، وغني عن البيان أن الملك البابلي وهو يقوم بدور «مردوخ» في هذه التمثيلية الدينية، كان يحظى سنويا وبتكرار دوري وتكريس مستمر، باعتراف أعضاء كل المشتركات المنضوية تحت لوائه، بسيادته المطلقة، بعد أن حاز كل الأسماء وكل شارات السيادة، وكل رموز السلطان المرموز لها في الأسطورة بالأسماء الخمسين.
وعليه فقد استولى الملك نهائيا على كافة شارات ومناصب آباء المشتركات، الذين بدءوا سادة بدائيين، ثم سادة لمشتركات معبدية فمدينية، وانتهى أمرهم بالتسليم للملك القوي الصاعد، المتربع على عرش بابل، فأصبح هو الأب الواحد الأوحد للجميع، ولا أب يدانيه في إطلاقية النفوذ. ويبدو أن بداية ظهور الأب الأرضي المتفوق هي التي أفرزت ربا متفوقا عن بقية الأرباب، كخطوة تطورية في السماء أفرزها جدل المجتمع على الأرض، مما ميز بالتدريج إلها عن سائر الآلهة، استطاع بعد ذلك أن يلغيها ويجعلها آلهة تابعة، لعدم قبول رفيقه السيد الأرضي المستبد بوجود أي منافسين له.
ومن هنا أصبحت كلمة السيد الأرضي المتربع في بابل لا راد لها، نافذة بقوتها الذاتية، لأنها صادرة عن فم الأب الأعظم، الذي تمثل كلمته حكمة الإله «مردوخ». يكفي أن تكون نطقا باللسان فيكون كل المراد محققا في الواقع.
وبذلك تركت الفكرة السامية عن الكلمة الملكية الفاعلة بذاتها، أثرا في عموم فروع اللغة السامية، وأصبح الأمر «كن» من الفعل يكون أي يوجد، «ويكون» أي يخلق، والعالم الموجود بكليته إنما هو أحد اشتقاقات الكلمة، فهو «الكون»، فامتلك الأمر «كن» قدرة سحرية لغوية تؤدي بمجرد نطقها من قبل شخص مؤهل لها (ملك، إله، ساحر، كاهن) إلى «الكينونة»، أي الوجود الواقعي المتحقق «كيانا» عيانيا.
لكن الأمر الواجب إيضاحه هنا، هو أن «مردوخ» لم يخلق بالكلمة إنما بالعمل اليدوي، فقد شق «تيامت» كما تشق الصدفة، ورفع السماء وحط الأرض ... إلخ. بينما أقحمت مسألة القدرة السحرية للكلمة الفاعلة «كن» إقحاما في الإينوما إيليش:
أقاموا له عرشا يليق بأمير
وجلس يترأس وهو يواجه آباءه
أنت الأكثر تمجيدا بين كبار الآلهة
إن ما تقرره لا يعارض
إن كلمتك الآمرة هي كلمة آن
منذ اليوم
لا يكون ما تنطق به عرضة للتغيير
نطقك يغدو الحقيقة
أمرك لا يحتمل شكا!
واضح أن النص هنا ليس تعبيرا عن مطلب الملك الأرضي، ليصبح سيدا مطلق النفوذ، إزاء طوارئ اكتسبت صفة الديمومة، بحيث تنفذ أوامره دون مناقشة، لذلك نلحظ أن كل ما جاء عن الكلمة الخالقة في الأساطير لا يتعلق فعلا بما حدث لتكوين الكون وإيجاده، إنما كان تجربة كتجارب الحواة وألعابهم، قصد بها تأكيد تبعية الأتباع للسيد، أنه «لو أراد» شيئا بالكلمة سيحققه:
ووضعوا في الوسط قطعة قماش
وقالوا لبكرهم «مردوخ»: افتح فمك
تتلاشى قطعة القماش
تكلم ثانية تعود القطعة كما كانت
ولهذا
قدموا له الخضوع في فرح قائلين
من دونك ملك؟
وإعمالا لكل ما سبق، يمكننا الزعم أن دخول فكرة الكلمة الخالقة إلى سفر التكوين، بدأت تعبيرا عما وصل إليه التطور السياسي في المجتمع الإنساني، وتعبيرا عن وجوب الطاعة الكاملة غير المشروطة للعاهل الذي لا ترد كلمته ولا تتبدل، والتي يجب تنفيذها الفوري مهما كانت غير مقبولة أو غير معقولة، ومع ذلك واصلت فكرة الكلمة الخالقة صعودها الخيالي في اللغات السامية، ليصبح للأمر «كن» دلالات القوة الفاعلة في الكلام لكنها على المستوى الفعلي لم تكن ذات دور فاعل حقيقي في عملية الخلق، التي تمت بموجب «الإينوما إيليش» البابلية.
وظل فكر الساميين الديني بعد ذلك، يحتفظ بكلتا الفكرتين جنبا إلى جنب: الخلق بالعمل اليدوي والفعل البدني من جانب الإله الخالق (يفصل السماء عن الأرض، يخلق الإنسان بيديه، يكتب ألواح الشريعة التوراتية بإصبعه ... إلخ). وفي الوقت ذاته، يمكنه أن يخلق بمجرد الكلمة تعبيرا عن سلطانه اللامحدود، وقدرته اللانهائية، لكن يبدو في مختلف نصوص الديانات السامية، أن الأمر «كن» كان مجرد إمكان غير متحقق (حتى الآن)، أو هو استعداد إلهي موقوف لإثبات القدرة المطلقة فقط، فهو استعداد بالقوة لم ينتقل إلى الفعل، وربما ينتقل من القوة إلى الفعل حين يشاء، لكنه لم يعد الآن مجديا، بعد أن وجد الكون فعلا بالطريقة اليدوية التصنيعية.
ولو نظرنا لتصوير «مردوخ» في النقوش، سنجده صورة مطابقة للنقوش الملكية، نقش لرجل يلبس تاجا مخروطيا عاليا، تزينه وريدات، له لحية طويلة مصففة بتجاعيد مصطنعة على غرار صنعة الحلاق بالقصر الملكي، ومثل الملك كان «مردوخ» يرسل شعره خلفه، بينما يرتدى ثوبا طويلا مرصعا بالنجوم، يضم يسراه إلى صدره ، وهي تقبض على رموز السيادة: «الدائرة والعصا»،
15
وهما فيما نرى رمزان لحيازة السيادة على مجتمعين ونظامين: الرعوي الذكري والزراعي الأمومي،
16
وإمساكهما إمساك بقدرة منح الحياة وإعطائها، فالعصا عضو الذكورة، والدائرة فرج الأنثى.
الدم روح الإنسان
يقول الباحث العراقي «فوزي رشيد»: إن «قصة الخليقة البابلية، قد تضمنت بين سطورها وصفا لوضعية الآلهة، بعد أن كتب عليها العمل، وكيف أن تلك الوضعية كانت لا تختلف عن وضعية الإنسان، بعد خلقه ...
عندما كانت الآلهة مثل البشر (وتعني لدينا: عندما كان الملوك كبقية الناس)
توجب عليها العمل
وكانت سلة عمل الآلهة كبيرة
وكان عملهم صعبا
لذلك تعددت الشكوى ...
ويعني هذا أن الإنسان قد خلق، من أجل أن يقوم بتزويد الآلهة بالطعام والشراب والسكن، وهذا ما قاله «فوزي رشيد»
1
مع تعليقنا بين قوسين. لكن مع سياق فهمنا للأمور، نرى القصة صدى لواقع حدث، بعد أن تفرغت فئة للحكم، وتحررت من عناء العمل، لذلك تردد القصة ما سبق ورأيناه في التكوين السومري، حيث انقسم مجتمعهم الإلهي إلى صنفين من الآلهة: آلهة عاملة أو شغيلة، وآلهة متفرغة للخلق وإدارة شئون الكون، لكن التكوين البابلي قام هنا بصياغة جديدة فأوضح أن الآلهة خلقت البشر ليحملوا هم أعباء العمل، لتتفرغ الآلهة لإدارة شئون الكون والبشر، وكان أكبر الآلهة «مردوخ» الذي يمثله على الأرض ملك بابل، وما على أفراد المجتمع سوى السعي من أجل خدمته وراحته، وتقديم فائض إنتاجهم بين يديه.
ونعود إلى «الإينوما إيليش» نستطلعها التفاصيل، فتقول في لوحتها السادسة:
ألا فليذكر الرعايا دائما إلههم
وطبقا لكلمته يهتمون بالآلهة
ألا فلتحمل القرابين
إلى آلهتهم وإلهاتهم
وبغير نسيان
فليعنوا دائما برعاية آلهتهم
ليستصلحوا أراضيهم
ويبنوا هياكلهم
ليخدم ذوو الشعور السوداء
آلهتهم.
2
ونستكمل من ملحمة «اتراخاسيس» بدءا من السطر «179» بالعمود الرابع، الذي يقول: «بيليت إلى» كانت حاضرة الرحم
ليتها تخلق الإنسان الأول
لكي يحمل هذا الإنسان سلة عمل الآلهة
نادوا مولدة الآلهة الإلهة «مامي» الحكيمة
وسألوها:
أنت الرحم خالقة البشر
اخلقي الإنسان الأول
من أجل أن يحمل النير ...
سلة عمل الآلهة يجب عليه حملها
فتحت الإلهة «ننتو» فاها
وخاطبت الآلهة العظيمة:
ليس بمقدوري أن أفعل ذلك
إن القدرة بيد الإله «آنكي»
إذ بإمكانه أن يجعل كل شيء طاهرا
فتح الإله آنكي فاه
وخاطب الآلهة العظام:
في اليوم الأول، والسابع،
والخامس عشر من الشهر
سأقيم طقوس الاغتسال
وسأقيم الحمام
وليذبح الآلهة إلها من بينهم
وبعد ذلك يطهروا أنفسهم في الحمام
وعلى الإلهة «ننتو» أن تمزج الطين
مع لحمه ودمه
وليت الإله والإنسان يمتزجان سوية
في الطين دعونا نستمع إلى الطبل
من أجل مصير الأيام القادمة
وبسبب لحم الإله
نود أن يسكن شبح الموت
جسم الإنسان
وليذكر هذا الشبح الأحياء بالموت
ما داموا على قيد الحياة
ليت شبح الموت أن يوجد في الإنسان ...
ثم فتحت الإلهة «مامي» فاها
وقالت تخاطب الآلهة العظام:
لقد عهدتم إلي عملا فأكملته
وما دمتم قد ذبحتم إلها رغم قدسيته
فها أنا قد رفعت عنكم عناء أعمالكم الشاقة
وجعلت الإنسان يحمل سلة عملكم
وها أنتم قد وهبتم صراخكم للبشرية
وها أنا حللت عنكم النير
حررتكم من الواجبات
ولما سمع الآلهة كلامها
تراكضوا إليها وقبلوا قدميها
وقالوا:
في السابق الإلهة «مامي» كنا نناديك
والآن: ليكن «سيدة الآلهة» اسمك.
3
ولاستطلاع أمر هذا الإله الذي ذبح، نعود مرة أخرى إلى «إينوما إيليش» فتطالعنا:
قتل «كنجو»، قطعت شرايينه
سال الدم
ومن الدم، خلق الإنسان
ليعبد الآلهة، يخدمها.
4
ولأن «إينوما إيليش» أكثر سامية من «إترام خاسيس» المتأثرة بالفكر السومري أكثر، فإن «الإينوما» تحاول إبراز دور «مردوخ» بفاعلية أوضح، في عملية خلق الإنسان، فتقول:
بعد أن سمع الإله «مردوخ»
كلمات الآلهة
تحرق قلبه من أجل خلق الكمال
وعندما أخبر الإله «أيا» بقراره
وشرح له خطة العمل
التي رسمها في ذهنه:
أريد أن يحضر لي الدم والعظم
أريد أن أخلق لوللو
الذي سيكون اسمه الإنسان
لأني أريد أن ألقي عليه عناء الآلهة
حتى تنعم هي بالراحة
وأريد أن أجعل طريق الآلهة
محاطا بالإبداع ...
يجب إحضار أحد إخوانك
لنذبحه ونصنع منه البشر
وليت الآلهة العظام تجتمع الآن
وتعترف عليه الآلهة
جمع الإله «مردوخ» الآلهة العظام
وبلطف أمرهم أن يقدموا المشورة ...
سأضعكم الآن تحت القسم
وأطلب منكم الحقيقة
من منكم تسبب في نشوب الحرب؟ «تيامت»! «تيامت» أثارتها ونظمت الثورة.
عليكم بإحضار الذي تسبب
في نشوب الحرب
لأني أريد أن أحمله وزرها
لتعيشوا أنتم في هدوء «كنجو»
هو الذي تسبب في نشوب الحرب
و«تيامت» أثارتها ونظمت الثورة،
ربطوه
وجاءوا به إلى الإله «أيا»
وحملوه وزر جريمته
وسفكوا دمه
وعلى دمه خلق الإله «أيا» البشر
وحملهم عناء الآلهة
وتحررت هي منه
وعندما قسم الإله مردوخ
ملك الآلهة
آلهة الآنوناكي إلى قسمين
علوي
وسفلي.
5
هكذا سجلت اللوحة السادسة:
إنه «كنجو»
هو الذي أثار الفتنة
وحرض «تيامت» على الثورة
واشترك في المعركة
فقيدوه
وأمسكوا به أمام «أيا»
ووضعوا عليه جريمته
وفصدوا دمه
وصاغوا منه البشر.
6
وعليه سجلت ذات اللوحة قول «مردوخ»:
سأكتل العظم وأخلق اللحم
سأصنع إنسانا ...
سيكون اسمه الرجل ...
سيكلف بخدمة الآلهة.
7
ولنقف الآن مع هذه النصوص، لنحاول معرفة علاقتها بواقع الأحداث، ولنبدأ مع مبتدأها:
عندما كانت الآلهة مثل البشر
توجب عليها العمل.
فالنص يردد هنا صدى واقع أحداث المجتمع، قبل تفرد فئة بالحكم دون باقي الأفراد، عندما كان الجميع سواء في العمل، ثم تطورت الأوضاع إلى تفرد البعض بالإدارة، واستيلائهم على فائض إنتاج الأفراد:
ألا فليذكر الرعايا إلههم ...
ألا فلتحمل القرابين
إلى آلهتهم وإلاهاتهم
وعلى باقي أفراد المجتمع الكد والعنت والكدح
في الأرض،
ليستصلحوا أراضيهم
ويبنوا هياكلهم.
وإن الربط بين العمل في الأرض، وبين بناء الهياكل والمعابد، هو ترسيخ واضح لسلطان الملك المرتبط بفائض العمل، وبقدسيته كإله يستحق هذا الفائض بالحق الإلهي، ثم لنتأمل أبيات ملحمة «إترام خاسيس»، التي يتضح فيها أثر تقديس الميلاد من أم إلهة، وهي فكرة أقدم: «بيليت إلى» كانت حاضرة الرحم
ليتها تخلق الإنسان. (لنلحظ أن القراءة الأصدق لاسم الإلهة بيليت إلى هو بعليت إيلي، أي البعلة الإلهة أو السيدة، أو سيدتي البعلة.)
ويظهر في النص أثر مفاهيم عبادة الخصب والري في أصل الوجود والخلق بالميلاد من أم أولى، وهو بدوره أثر من عبادة الأم في مجتمعات الخصب القديمة، وذات النظام الاجتماعي الأمومي الغابر، ويتضح ذلك في النص:
نادوا مولدة الآلهة
الإلهة «مامي» الحكيمة
وسألوها:
أنت الرحم، خالقة البشر.
والإلهة «مامي» هي التي عرفناها في سفر التكوين السومري، باسم «ننتي» أو «ننتو» وهو ما يردده نصنا الحالي لكن بعد التمازج مع الفكر السامي في نظامه الأبوي الذكري، الذي سلب هذه الأم قدرتها الذاتية على إنجاب الحياة وحدها دون معين، فيقول:
فتحت الإلهة «ننتو» فاها
وخاطبت الآلهة العظمى
ليس بمقدوري أن أفعل ذلك
إن القدرة بيد الإله «آنكي».
لم يزل الإله «آنكي» حتى الآن فاعلا في أسطورتنا السامية المبكرة، ومن الضروري أن يلقي ببذرة الخصب، أو السائل المخصب، حتى يتم التكوين المطلوب، لكن يدخل هنا عنصر جديد على المناطق الخصبة، فقد تصورت هذه المناطق في فجر الفكر أن وجود البشر مسألة خاصة بالأم وحدها، خاصة أيام المشاع البدائي القديم، ولم يكن للذكر دور يمكن ملاحظته في عملية الحمل والوضع، كنتاج التقاء المرأة بأكثر من رجل، فتصوروا أن دم الحيض هو سر الميلاد، ومنه يتكون الجنين لدى المرأة دون معين، لكن دخول الثقافة الذكرية أدخل دورا واضحا للذكر في التكوين الإنساني، مع رغبة ملحة في إلغاء دور الأنثى تماما، إلغاء لسلطانها.
وحتى يتم الخلق من الدم باعتباره المادة المعروفة لتكوين الجنين، وليس لديهم مادة أخرى يقبلها حسهم للتكوين المطلوب فنعتقد أنهم عمدوا إلى الدم كمادة لتكوين الإنسان الذي إذا جرح سال منه هذا الدم الذي خلق منه حتى إذا نفد دمه مات، لكنهم استبعدوا دم الأنثى واستبدلوه بدم ذكري. وبما أن الذكر لا يحيض، إذن فليذبح! ومن هنا سجلت النصوص:
قتل كنجو، قطعت شرايينه
سال الدم
ومن الدم خلق الإنسان.
وهكذا نظن الفكر الذكري قد حقق سلطان فلسفته، ثم ضمنها تفسيره لظاهرة الموت؛ فالإنسان يموت لأنه تكون من دم إله ميت (بعد مزجه بالطين):
وبسبب لحم الإله
نود أن يسكن شبح الموت
جسم الإنسان
وليذكر هذا الشبح الأحياء
بالموت
ما داموا على قيد الحياة
ليت شبح الموت يوجد في الإنسان!
ثم ترى «الإينوما» الأكثر إيغالا في الطابع الذكري، ومركزية السلطان، وجوب تقسيم المجتمع طبقتين: طبقة تعمل، وطبقة تحكم وتدير، وهذا هو الكمال وتمام النظام بعد الفوضى الكونية، والاجتماعية، الأولى، فتقول:
بعد أن سمع الإله «مردوخ»
كلمات الآلهة
تحرق قلبه من أجل أن يخلق الكمال
وقد حقق ذلك عندما
قسم الإله «مردوخ» ملك الآلهة
آلهة الآنوناكي
إلى قسمين
علوي وسفلي.
أما لماذا؟ فهو ما يجيب عليه النص بلسان «مردوخ»:
أريد حقا خلق الإنسان
لأني أريد أن ألقي عليه عناء الآلهة!
حتى تنعم هي بالراحة.
ومن ثم يبدو أن الملك الأرضي، قد سوغ استيلاءه على مجمع السلطات بشكل يعطيه تفويضا من قبل رؤساء المدن وحكامها، إبان عملية التوحيد والمركزة، كي يبدو هذا التفويض شهادة منهم وموافقة غير قسرية فيقول النص:
جمع الإله «مردوخ» الآلهة العظام
وبلطف أمرهم أن يقدموا المشورة
سأضعكم الآن تحت القسم
وأطلب منكم الحقيقة
من منكم تسبب في نشوب الحرب «تيامت»! «تيامت» أثارتها ونظمت الثورة.
ربما كان ذلك ترديدا لذكرى قديمة، إبان تداخل المجتمعين الذكري الأبوي والأنثوي الأمومي، وسيادة النظام الذكري، وربما كانت تيامت رمزا للنظام الأمومي الذي غبر بسيادة الذكر.
عالم آدم
وهكذا بات واضحا أن قصة التكوين السامية (أكدية أو بابلية)، والتي اصطلحنا على تسميتها «سفر التكوين البابلي»، لم تختلف كثيرا عن «سفر التكوين السومري»، بل رددت مفاهيم سومرية حول الآلهة وطبيعتها، مع إضافات وتعديلات تتلاءم مع التطور الذي لحق النظام الاجتماعي، الذي أرسى نهائيا دعائم حكم الذكر، وعبادة الذكر. وغني عن الذكر أن ذات قصة التكوين، قد عرفت طريقها إلى التراث السامي في مختلف مناطق الهلال الخصيب، مع تعديل طفيف في التفاصيل دون الأصل، مع تغير خلع الإله الخالق وتنصيب غيره بتغير السادات، فالإله «آشور» يأخذ دور «مردوخ» عندما تخضع الرافدين للآشوريين، بينما يكون لدى الكنعانيين هو «بعل»، الذي يقوم بمهمة الخلق التي قام بها البعل البابلي «مردوخ» و«آنليل» و«آنكي» السومريين .
وفي مصير الموتى، ظل العالم التحت أرضي قائما في مختلف العقائد السامية وفي ذلك يقول «بوتيرو»: «بالنسبة للبابليين بصورة عامة فإن ما بعد الموت لم يكن مغريا لهم ... وفي أسطورة نزول عشتار إلى العالم السفلي ... وردت تعابير غير شيقة أبدا عن حالة الموتى التعيسة ... إن طعامهم هو من الطين، إن غذاءهم هو من التراب، لا يرون النور أبدا، فهم يسكنون بالليل.»
وحتى عشتار نفسها لم يكن لها القابلية أو الحق في الدخول بين هؤلاء إلا بعد أن نزعت كل ما يسترها ... قطعة بعد أخرى، وأصبحت على صورة العري الكامل، الذي يستلزمه الذهاب إلى هذا العالم.
1
ولهذا السبب كانت «الحياة بالنسبة للبابلي من أعظم وأكثر الآمال، ونعرف منذ العصر السومري أن الملوك والخاصة، الذين أقاموا المعابد وجهزوا الهدايا للآلهة، عملوا ذلك بكل الوضوح، خوفا على حياتهم، حتى تكون هذه الحياة طويلة الأمد، وهذا هو الهدف الذي ينشده الورعون والأتقياء من رجال الدين أيضا، فتقديم القرابين للآلهة يطيل العمر.»
2
ويشرح موسكاتي تطابق وجهة نظر البابليين والسومريين في عالم تحت الأرض بقوله: إنهم اعتقدوا «أن روح الإنسان بعد الموت تنفذ من القبر إلى العالم السفلي أرالو
AraIlu ، وهي مدينة كبيرة يلفها الظلام والتراب، ويعيش فيها الموتى عيشة حزينة كئيبة، يشربون الماء القذر ويأكلون التراب، ولا يمكن التخفيف من هذا البلاء إلا بالقرابين، يقدمها أصدقاء الميت وأقرباؤه، الذين لا يزالون على قيد الحياة.»
3
ومن هنا يعقب «ديورانت» على فكرة البابليين عن العالم البابلي التحت أرضي بقوله: إن «فكرة البابليين عن الحياة الأخرى، كانت في جملتها ... فكرة أموات منهم قديسون، وأنذال، ومنهم عباقرة، وبلهاء يذهبون إلى مكان مظلم في جوف الأرض.»
4
هذا بينما يحيطنا «دو لابورت» علما باسم آخر لهذا العالم، إضافة إلى «أرالو» في قوله: «وبعد أن يعد الميت إعداده الأخير، يهبط إلى الأدمو، إلى الأرض الكبيرة، مأوى الظلمات ... إلى البيت الذى يدخله الداخل ولا يخرج منه، وهو كما تصفه رحلة عشتار ... موضع من الأرض تخيم عليه الظلمات، وتحيط به أسوار سبعة، لكل منها باب واحد، والموتى قد نبتت على جوانبهم أجنحة كأجنحة الطيور، يأكلون التراب ويتغذون بالرغام، هذه هي المملكة التي يتزعمها نرجال (عرفناه باسم كور عند السومريين)، والإلهة اللاتو (وتعني اللات وهى مؤنث إل أو إيل) ... التي تحت أمرها أرواح الطاعون والأمراض التي ترعى الموت، وتحول في المعتاد دون عودتهم إلى الأرض للإيقاع بالأحياء.»
5
ولكن على ما يبدو أن ما طرأ من تطور في الأوضاع الاجتماعية على الأرض، انتقل إلى ما تحت الأرض، وإلى هناك انتقل التمايز الطبقي الناشئ عن قيام الدولة الملكية المركزية، فنشأ تمايز مماثل في العالم التحت أرضي، جاء في الصياغة السامية لملحمة جلجامش السومرية، وبالتحديد في اللوح الثاني عشر، حيث نجد في هذا العالم:
أمواتا عظماء
وأمواتا حقراء
أغنياء وفقراء
سعداء وتعساء.
6
وتبقى هنا مسألة، تثيرها طبيعة اللغة السامية التي تعشقت فيها روافد متعددة، فدخلت البابلية ألفاظ سومرية لفظا ومدلولا، وتبودلت المعاني والألفاظ بين مختلف اللغات السامية لظروف الجوار والغزو، والعلاقات السياسية والاقتصادية وحتى الدينية، مما أدى إلى تشابك لغوي هائل، وإن كنا سنحاول التعامل مع الإشكال في أسهل الحدود الممكنة: لقد سبق وعلمنا أن السومريين أطلقوا على عالم تحت الأرض اسم إدين
Edin
وتنطق أيضا الدين وأدن، وبما نعلمه عن الخلط القديم بين «الميم» و«النون»، يمكن أن تتحول «أدين» إلى «أديم»، ورأينا البابليين يطلقون على العالم التحت أرضي «أدمو» أو «آدم»، وبما نعلمه عن الخلط بين «العين» وبين «الهمزة» تصبح أيضا «عدم» و«عدن» فيصبح عالم تحت الأرض هو عالم: أدن، الدين، أدين، أديم، أدمو، آدم، عدم، عدن (ولنلحظ ارتباط المعنى القائم بين مختلف الأسماء فكلها تعطي معنى العودة إلى العدم)، والأصل وهو التراب أو الأديم، وأدم من تراب وإلى عدم أو إلى أديم يعود، واللفظ آدم لفظ سامى يدل على أبي البشر، جاء في النصوص الأوجاريتية المكتشفة مؤخرا، وهي لغة سامية فينيقية، وكما في ملحمة «كارت ملك صيدون»:
أب آدم ويقرب (أي ويقترب الأب آدم)
أو ظهر له في الحلم إيل، في رؤياه ظهر أبو
أدم.
7
و «أدم» في هذا تعني الإنسان أو البشر، وواضح في النص وراثة الاعتقاد القديم في عبادة الأب الأول، لذلك جاء «إيل» الإله الأعظم في النص كأب للبشرية، وهو الذي لقب في ملحمة البعل الأوجاريتية الفينيقية بأنه:
خالق الخلائق ...
خالق الكائنات
لطفان (كثير اللطف)
إله الرحمة ...
8
وهي كلها صفات تشير إلى الألوهية ممزوجة بالحنان الأبوي وكان «إل» أو «إيل» يعد لدى الفينيقيين الإله الأعلى، ويلقب ب «العلي
God suprem »، فهو أبو الآلهة جميعا، وأبو البشر أيضا.
وإلى جانب «إل» عبد الفينيقيون إلها آخر لا يقل عنه أهمية بل هو أقرب إلى الناس من الأب الأول «إل» عرف في فلسطين باسم بعل، وفي لبنان في فينيقيا باسم «أدونيس
Adonis »، الذي هو «أدون» بعد حذف الياء والسين التي تلحق بأسماء الأعلام أو «أدوم» أو «أديم» أو «آدم» أو «عدم» أو «عدن».
كتابة مسمارية من اللوح الرابع في قصة الخلق «إينوما إيلش» الرافدية القديمة.
الباب الثالث
سفر التكوين التوراتي
تأسيس
عندما نبدأ الحديث عن التوراة، فهذا إنما يعني أننا نتحدث عن أخطر الشعوب السامية، ذلك الشعب ذو الأسماء المتعددة: عبريون، يهود، إسرائيليون.
وقد استطاع هذا الفرع من الشعوب السامية، أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، ويحوز شهرة واسعة في العالم حتى اليوم، نتيجة ارتباط هذا الشعب بالتوراة، تلك المأثرة التي تمكن من إنجازها، وجمع لها مادة دينية هائلة متنوعة، تحت عنوان «الكتاب المقدس
BIBLE »، الذي أصبح مصدرا تاريخيا ودينيا لا غنى عنه، للباحث المدقق أو المؤمن المتبتل، على حد سواء؛ نتيجة كونه الأثر الوحيد الذى وصلنا متماسكا وشبه جامع لتراث شعوب حوض المتوسط الشرقي بجملة عادات هذه الشعوب وتقاليدها ونظمها الاجتماعية، واعتقاداتها الدينية مع عدد غفير من الأساطير والمتواترات والملاحم والفلكلوريات؛ لذلك فهو معين للمؤمن، كما أنه لا شك معين غزير للباحث المنقب أيضا، لكن مع إشكالية كبرى ناشئة عن كون اليهود قد جعلوا جماعتهم وأربابهم، قطب الدائرة في هذا الكتاب فنسبوا بطولات الملاحم إلى آبائهم الأوائل أحيانا ، أو نسبوا أبطال أساطير شعوب أخرى إلى أنفسهم، وادعوا النسب السلالي إليهم أحيانا أخرى، فكانت النتيجة مزيجا هجينا من ثقافات شتى، تعود إلى الراسب الثقافي لمجموعة كبرى من شعوب المنطقة تلاقحت جميعا على صفحات الكتاب، ولعب فيها اليهود دور البطولة المطلقة.
والكتاب المقدس المتداول الآن، هو مجموعة الأسفار التي جمعها اليهود، مع ما أضافه إليه المسيحيون من أناجيل ورسائل مقدسة، وللتفرقة بين المقدس اليهودي، والمقدس المسيحي، داخل الكتاب المقدس، اصطلح على تسمية اليهودي «العهد القديم» وتسمية المسيحي «العهد الجديد». ومدار بحثنا هو المقدس اليهودي أو العهد القديم، لما تضمنه من تراث شعوب المنطقة.
وقد اختلف الباحثون حول ضبط وتوقيت جمع مادة هذا الكتاب التي كانت متناثرة على المتاح آنذاك من وسائل الكتابة، إضافة إلى ما دخل إليه أثناء جمع المادة من تأليف جديد وترتيب جديد. ويذهب «أنيس فريحة» إلى أنه «كانت مواد أسفار التوراة من شعر وقصص وأمثال وتاريخ وتعليم ديني في بادئ أمرها روايات شفهية متداولة جيلا بعد جيل، إلى أن قيض لها أن تدون في حدود 440ق.م.».
1
ويلخص «حسن حنفي» القول في قوله: «إن أسفار الكتاب المقدس لم يكتبها مؤلف واحد، في عصر واحد، لجمهور واحد، بل كتبها مؤلفون كثيرون، في عصور متعاقبة، لجماهير مختلفة المزاج. ويمتد التدوين إلى ألفي عام، وربما أكثر من ذلك.»
2
هذا إضافة إلى الإقرار الواضح في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس لسنة 1960م، الذي يقول: «ما من عالم كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى ذاته كتب كل التوراة منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف على وضع النص الذي كتبه عديدون من بعده، بل يجب القول: إن ازديادا تدريجيا حدث، سببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية.»
وقد حاول بعض العلماء تحديد الفترة الزمنية التي استغرقها زمن تدوين الكتاب المقدس، فطالت المسافة وامتدت ما بين بداية القرن العاشر قبل الميلاد وانتهاء بالقرن الأول الميلادي. وذهب هؤلاء إلى أن الأسفار الخمسة الأولى قد كتبت على مدى ثلاثة قرون ابتداء من القرن العاشر قبل الميلاد، أما آخر الأسفار وهو سفر المكابيين الأول، والثاني، فقد حررت خلال القرن الأول قبل الميلاد.
3
أما موسوعة تاريخ العالم، التي أشرف على تحريرها عدد لا يستهان به من العلماء، فقد أكدت أن في هذا الكتاب أجزاء ألفت ما بين 1150ق.م. وبين 130ق.م. وأجزاء أخرى كالأسفار الخمسة الأولى، قد أخذت صورتها النهائية حوالي عام 400ق.م. وتحوي كتابات يرجع تاريخها الشفاهي إلى ستة قرون سابقة على هذا التاريخ، بينما الأسفار التاريخية قد كتبت سنة 550ق.م. مع تصنيفات أخرى للكتاب، قدمت لها الموسوعة اقتراحات بتواريخ مختلفة ومتباعدة تباعدا كبيرا.
4
وكما هو ملاحظ، فإن أكثر الباحثين يطلق على هذا التراث الهائل اصطلاح التوراة، إلا أن التوراة تقتصر - لوجه الحق - على جزء يسير من الكتاب المقدس، هي الأسفار الأولى منه المنسوبة إلى النبي موسى، وهي: التكوين
Cenesis ، الخروج
Exudus ، اللاويين أو الليفيين
Levetieis ، العدد
Numbers ، التثنية.
Deuteronomy
ومن الباحثين في العلوم التوراتية، من يدخل في أسفار موسى السفر السادس «يشوع».
ونحن بدورنا سنستخدم هذا الاصطلاح «التوراة» في عملنا هذا، تجاوزا؛ لأن بحثنا سيتركز فعليا على الأسفار الست الأولى من الكتاب المقدس.
ومن المهم الإشارة إلى أنه لا يوجد باحث علمي ذو شأن، ذهب وراء القول إنها أسفار موسى، أو أن موسى كتبها، إنما هناك إجماع على أنها ألفت بعد موسى بقرون طويلة، وأنها نتيجة تصانيف مختلفة، لمؤلفين مختلفين مزاجا ومشربا. وتدلل مدرسة «فلهاوزن
Willhawsen » على ذلك بأدلة أهمها وأخطرها أن اسم الإله يختلف في هذه الأسفار ما بين سفر وآخر، إضافة إلى تكرار القصص فيها، مما يشير إلى عدد من الكتاب لم يلتقوا لتصفية الأمر بينهم، مع فروق واضحة وجوهرية وعميقة في اللغة وفي الأسلوب بين هذه الأسفار.
5
والتوراة تبدأ تاريخ اليهود منذ فجر الإنسانية على الأرض، فتأتي بشجرة النسب اليهودي من جذرها الأول المسمى في اللغة العربية «آدم»، ومنه تشعبت الأنساب شعابا، أهمهم في التوراة فرع من الشجرة البشرية هو الفرع السامي، بل هو غصن في هذه الشجرة هو الغصن اليهودي، أو كما يحلو لهم أحيانا تسمية أنفسهم الشعب العبري، واللغة المنسوبة لهذا الشعب والتي كتب بها أهم أجزاء التوراة، هي المعروفة باللغة العبرية ، بينما العبرية هي ما عبرت عنها التوراة بأنها «شفة كنعان» أي لسان الكنعانيين، حتى إن الكلمة آدم، وقد عرفناها قبل التوراة، كلمة كنعانية فينيقية في مدونات «أوغاريت».
ولنلحظ أن التوراة لم تحاول أن تنكر أن لسانها مأخوذ عن لسان الكنعانيين، ولم تحاول أن تنكر أنه قد سبقهم في هذه الأرض شعب هو الشعب الكنعاني. وأطلقوا على الأرض في التوراة أرض الكنعانيين، وأرض الفلسطينيين. ويزعم الباحثون أن الكنعانيين رغم أنهم أسبق في التواجد بفلسطين، فإنهم بدورهم كانوا هجرة قدمت إلى فلسطين من شبه جزيرة العرب حوالي 2500ق.م.
وإذا كان منهجنا في البابين السابقين، قد حاول أن يربط بين تطور العبادات في بلاد الرافدين وبين التطور الاجتماعي والسياسي والشكل الاقتصادي، فإن مثل هذه المحاولة مع التاريخ اليهودي أمر يستعصي على البحث تماما، لعدة أسباب أهمها:
مشكلة التتبع الزمني الصادق لأسفار التوراة، التي لم يراع في ترتيبها منهج محدد.
الغموض الذي أحاط بمعاني الألفاظ التوراتية، ومقصد التوراة الحقيقي منها، وهو أمر فيه جدال وخلف كبير، بين الباحثين التوراتيين مما أدى حتى الآن إلى تباعد شديد في تفسير النص الواحد، بل وأحيانا الكلمة الواحدة، إضافة إلى أن التوراة تغص بأسماء أماكن قديمة على خريطة المنطقة، يصل عددها إلى الآلاف، لم يستطع عالم جاد واحد حتى اليوم، أن يجزم بالمكان الحقيقي الصادق، ولو لعشر منها فقط، كما لم تعطنا البحوث الأركيولوجية، ولا أي حفريات، دلائل صادقة على موضع قديم يمكن القول المؤكد أنه موضع الآن في فلسطين المظنون أنها كنعان التوراتية.
وزيادة على ذلك، ونكاية في إخلاص الباحث الجاد، نجد مدونات التوراة قد ظلت زمانا طويلا خالية من التنقيط والتشكيل، إضافة إلى اختلاط النطق في الحروف العبرية ذات المخرج الواحد: الشفاه، الأسنان، الحنجرة، اللسان، الحلق، مع غياب الأزمنة: الحاضر، الماضي الناقص، الماضي التام، المستقبل السابق في الصيغة الإخبارية، ناهيك عن غياب الحروف المتحركة. ولم يتم وضع ذلك كله إلا أيام الحشمونيين قبل الميلاد بحوالي قرنين من الزمان، وفق قواعد اللغة الآرامية، مما أدى إلى لبس وأخطاء لا مزيد عليها، مما يجعل قراءة أي كلمة اليوم في التوراة، موضع حذر وشك كبير.
6
إن اليهود لم يكونوا خلال تاريخهم جماعة واحدة مستقرة في مكان واحد إنما كانوا جماعات مختلفة، مرتحلة دوما إلى جهات مختلفة، ما بين الرافدين وجزيرة العرب وكنعان وحاران ومصر ... إلخ. حتى دولتهم التي قامت مع بداية الألف الأول قبل الميلاد لم تستمر في الوجود زمنا مناسبا يسمح بنضوج أو تطور اجتماعي واضح محدد البصمات، يمكن للباحث تتبعه.
إن عدم الاستقرار في مكان واحد مددا طويلة، أدى إلى تغيرات مستمرة في العقائد والعبادات، التي أخذت تصطبغ مع كل ارتحال بألوان متعددة، فجاءت ديانتهم بعد جمعها مزيجا متنافرا من الألوان عديمة الاتساق والتمازج، مما أدى بباحث متحيز لليهود مثل «إيفارلسنر» إلى القول عما خرج به من دراسة الكتاب المقدس: «إن تابوت العهد
7
يعود بنا إلى مساكن آلهة النيل المتنقلة، وآثار السحر ترجع بنا إلى مصر كما تذكرنا قصة الطوفان والأرقام الغامضة ببابل، ويصير الإله البابلي جلجامش نمرودا، وتصبح ثيران آشور المجنحة كروبيم العبريين، كما أن أسطورة الجنة وشخصية الشيطان أهريمان، وعالم الملائكة ورؤساء الملائكة تعيد إلى أذهاننا بلاد الفرس، ونتعرف على البعل إله الفينيقيين والكنعانيين في أسماء إشبعل ومربعل. لقد كان الفلسطينيون الذين يحتمل أن يكونوا قد وفدوا أصلا من كريت، ينظرون إلى اليمامة أصلا كإله، أما السمكة التي عبدت في عسقلان فتظهر في قصة يونان.»
8
تاريخ اليهود في التوراة
تزعم التوراة أن اليهود هم نسل اثني عشر ولدا هم الأسباط، أبناء النبي «يعقوب» المسمى «إسرائيل»، ومن هنا سموا «بني إسرائيل»، وحتى تجعل التوراة من هذا النسل خلاصة البشرية، ومدار حديثها المقدس فإنها تجري تصفيات عجيبة بين الشعوب سنلاحظها مع خطونا داخل التوراة.
تبدأ التوراة تاريخ اليهود بالعودة إلى بداية الإنسانية لإنسانيتها على الأرض، فتحكي لنا رواية تقول: إن الله خلق زوجين من البشر، ووضعهما في مكان أطلقت عليه «جنة عدن»، وإن هذا المكان كان على هذه الأرض ذاتها، لكن الزوجين البشريين ارتكبا خطيئة عظمى، عندما عصيا أوامر الإله في أمر هائل؟ فقد أكلا من ثمرة شجرة حرمها عليهما! فثارت ثائرة الإله، وطردهما من هذا المكان إلى مكان آخر على الأرض، شرقي عدن. وأنجب الزوجان البشريان الأوائل، اثنين من الذكور هما هابيل الذي اشتغل بالرعي، وقايين الذي عمل في الأرض فلاحا (ويبدو أن ذلك تسجيل قديم لبداية التخصيص في العمل، وفق ظروف البيئة، والصراع الذي نشأ بين هذين النظامين)، وقام الأخوان يقدمان للإله القرابين لإرضائه، فقدم هابيل من لحم غنمه، وقدم قايين من زرع أرضه. وكما فيما بعد، فإن الإله كان على ما يبدو من اللواحم، فقبل قربان هابيل، ورفض قربان قايين (والتحيز هنا واضح للبداوة والنظام الرعوي، ولنتذكر أن اليهود بدو رعاة)، مما أوغر صدر قايين الفلاح، على أخيه الراعي، فقتله، ثم يختفي ذكر قايين من التوراة، ليظهر ابن ثالث لأبي البشرية المدعو آدم، هو «شيث» (وهكذا كان واضحا، ومن شيث تناسلت البشرية وتكاثرت على الأرض. وأن دور هابيل وقايين لم يكن له أي علاقة بالتكوين، بعد أن مات هابيل وتبعه قايين وجاءت البشرية من أخ ثالث هو شيث؛ وهو ما يؤكد أن قصتهما إن هي إلا تسجيل بدئي وتفريق بين نظامين، أقربهما إلى الإله هو الرعوي).
ومرة أخرى يعصي النسل البشري ربه، فيقرر الرب إفناء مخلوقاته العاصية دوما، بالطوفان، ورغم تأكيد التوراة المتواتر على ندم الإله المستمر لخلقه البشر، فإنه مع ذلك، يضمر بينه وبين نفسه الإبقاء على بذرة الحياة، فيختار من بين نسل «شيث» فردا واحدا هو «نوح»، ويخبره بقرار الدمار الذي انتواه، ويأمره أن يصنع ويجمع فيه من كل الأحياء، وأن يأخذ أبناءه معه، وتستمر القصة فتعلمنا بتفجر الأرض بالعيون، وتفتح أبواب السماء بماء منهمر، مما أدى إلى طوفان عات، حمل السفينة النوحية بركابها، الذين تم اختيارهم عشوائيا، بينما فني كل حي آخر على البسيطة، وانتهى الأمر بالسفينة بعد هدوء الغضب الإلهي، إلى التوقف فوق جبل «أرارات»، قرب بحيرة «فان»، إلى الشمال من بلاد الرافدين، داخل بلاد أرمينيا.
ثم تأخذ التوراة طريقها في تمييز النسل اليهودي المرتقب، كسيد للبشرية وشعب خاص من بين الشعوب الأخرى، فتقول:
وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك: ساما، وحاما ويافث، وحام هو أبو كنعان، وهؤلاء الثلاثة هم أبناء نوح، ومن هؤلاء تشعبت كل الأرض. (تكوين 9: 14-15)
ولأن اليهود يعدون أنفسهم في الأسطورة أبناء سام، فكان لا بد من التصفية، التي بدأت باستبعاد حام وبنيه من التاريخ المقدس، وهو في التوراة أبو كل من «كوش» أو الزنوج، و«مصرايم» أبو المصريين و«كنعان» أبو الكنعانيين، أصحاب الأرض المطلوب الاستيلاء عليها، لبني سام. ولا مجال للاستبعاد، إلا أن يأتي حام وبنوه منكرا، لخصته التوراة في القول: إن نوحا بعد هبوطه السفينة، قد شرب خمرا حتى ثمل، وتعرى من ثيابه ثم غاب عن وعيه «فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه ... فأخذ سام ويافث الرداء ... وسترا عورة أبيهما ... فلما استيقظ نوح من خمره، علم ما فعل به ابنه الصغير، فقال ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام، ليفتح الله ليافث، فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم» (تكوين 9: 20-27).
وواضح من هذه التصفية الأخلاقية، والتي كان الملام فيها أصلا - حسب الرواية التوراتية - نوح ذاته، القصد باستبعاد الكوشيين الأحباش والمصريين من التركة المقدسة، مع التركيز على استبعاد كنعان بن حام بوجه خاص مع خصه باللعنة والعبودية لسام، رغم أنه لم يشاهد العورة النوحية ولم يرتكب ذنبا، إنما كان الذنب ذنب الجد الذي سكر، وذنب الأب حام الذي شاهد هذه العورة وعاينها.
ثم تمطر التوراة بركاتها على الابن سام بالتحديد والخصوص، بحسبانه الجد البعيد لليهود، ثم تركز جهودها بعد ذلك، وطوال أسفارها حول نسله المجيد، فتخبرنا أنه أنجب كل بني عابر، وتعدد بني عابر بأنهم: «عيلام» أبو الإيرانيين، و«آشور» أبو الرافديين، و«أرفخشد» أبو الأرمينيين، ثم تصطفي من بينهم «أرفخشد» الذي أنجب شالح، وأنجب شالح عابر، وأنجب عابر فالج، ويقطان أبو حضرموت (ولا ندري سرا لهذا الخلط بين أناس يعيشون في أقصى الشمال، في «أرمينيا»، وأناس يعيشون في أقصى الجنوب، في «حضرموت»). (عند مراجعتنا للبروفة الأولى لطباعة هذا الكتاب كنا قد انتهينا من كتاب: النبي إبراهيم والتاريخ المجهول - دار سينا - ونظن أننا قد كشفنا فيه السر وراء هذا الخلط.)
أما فالج أخو يقطان، فقد كان هو الفرع المبارك في الشجرة المباركة فهو جد النبي «إبرام» أو «إبراهيم» الذي أنجب بدوره إسماعيل وتقرر التوراة استبعاد إسماعيل، فتقول: إن إبراهيم قد أنجبه من جاريته هاجر، وأن الأمر لم يرق لسارة زوجة إبراهيم، فأمرت بطرد الجارية وولدها فأخذهما إلى بادية من البوادي، وتركهما هناك، حيث ترعرع إسماعيل واستوطن في تلك البوادي نهائيا، تاركا الأرض للنسل الآتي، فقد أنجبت سارة حسب الرغبة التوراتية إسحق الذي تم استبقاؤه في المصفاة التوراتية ليكون جدا لليهود.
وأنجب إسحق ولدين هما: «عيسو» البكر، ثم «يعقوب». وحسب منطق القواعد السامية، كان المفترض أن يكون البكر «عيسو»، هو وريث النبوة والأرض والأملاك، لكن الذي حدث في التوراة هو العكس، بعد أن استخدمت مصفاتها مرة أخرى لاستبعاد البكر، واستبقاء آخر العنقود «يعقوب»، الذي سيكون هو «إسرائيل» أبو الأسباط أو بني إسرائيل، وقد أوردت التوراة ذلك في أسلوب طريف، في قصة أطرف لا يصح تجاوزها.
تقول القصة:
فكبر الغلامان، وكان عيسو إنسانا يعرف الصيد، إنسان برية، ويعقوب إنسانا كاملا يسكن الخيام، فأحب إسحق عيسو، لأن في فمه صيدا، وأما رفقة «الأم» فكانت تحب يعقوب ... وحدث لما شاخ إسحق كلت عيناه عن النظر، أنه دعا عيسو ابنه الأكبر فقال: ها أنا ذا، فقال: إنني قد شخت لست أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك، جعبتك وقوسك، واخرج إلى البرية، وتصيد لي صيدا، واصنع لي أطعمة كما أحب، وائتني بها لآكل، حتى تباركك نفسي قبل أن أموت، وكانت رفقة سامعة ... فكلمت يعقوب ابنها قائلة ... يا بني اسمع لقولي ... اذهب إلى الغنم، وخذ لي من هناك جديين جيدين من المعزى، فأصنعهما أطعمة لأبيك كما يحب، فتحضرهما إلى أبيك ليأكل حتى يباركك قبل وفاته، فقال يعقوب لرفقة أمه: هو ذا عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس، ربما يجسني أبى فأكون في عينيه كمتهاون، وأجلب على نفسي لعنة لا بركة ... فأخذت رفقة ثياب عيسو ابنها الأكبر الفاخرة ... وألبست يعقوب ابنها الصغير، وألبست يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعزى، وأعطت الأطعمة والخبز التي صنعت في يد يعقوب ابنها، فدخل إلى أبيه وقال يا أبي، فقال ها أنا ذا من أنت يا بني، فقال يعقوب لأبيه: أنا عيسو بكرك، فقد فعلت كما كلمتني، قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك فقال إسحق لابنه: ما هذا الذي أسرعت لتجد يا بني؟!
فقال: إن الرب إلهك قد يسر لي!
فقال إسحق ليعقوب: تقدم لأجسك يا بني، أأنت هو عيسو أم لا؟ فتقدم يعقوب إلى إسحق أبيه، فجسه ... ولم يعرفه لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي عيسو أخيه، فباركه ... فقال له إسحق أبوه: تقدم وقبلني يا بني، فتقدم وقبله فشم رائحة ثيابه وباركه، وقال: انظر رائحة ابني كرائحة حقل قد باركه الرب، فليعطك الرب من ندى السماء ومن دسم الأرض وكثرة حنطة وخمر، ليستعبد لك شعوب وتسجد لك قبائل، كن سيدا لإخوتك، وليسجد لك بنو أمك، ليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين. وحدث حين فرع إسحق من بركة يعقوب ... أن عيسو أخاه أتى من صيده ... فعندما سمع عيسو كلام أبيه صرخ صرخة عظيمة ومرة جدا، وقال لأبيه: باركني أنا أيضا يا أبى، فقال: قد جاء أخوك بمكر وأخذ بركتك. (تك 27: 1-35)
حقيقة، إن هذا النص ذكرى وتسجيل واضح للتطور التاريخي والاجتماعي؛ فقد قرر انتهاء زمن الصيد والمجتمع غير المستقر، وظهور المجتمع المستقر (عيسو كان إنسانا يعرف الصيد، إنسان برية، ويعقوب إنسانا كاملا يسكن الخيام)، ورغم تمسك الأب بالصيد والنظام القديم، فقد كان لا بد من الانتقال ولو بالخديعة.
المهم أن التوراة وهي تجري التصفيات النهائية بين الشعوب، لتصل إلى الشعب اليهودي، تجعل يعقوب أهم آباء اليهود بعد إبراهيم، نتيجة حدث خاص تعرض له يعقوب ، يفسر لنا سر تمسك الإله بهذا الشعب كمختار له دون البشر، إذ إن يعقوب التقى بالرب ودخل معه في معركة انتهت لصالح يعقوب، أو كما تقول التوراة:
فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر ولما رأى أنه لا يقدر عليه، ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني، فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل، لأنك جاهدت الله والناس وقدرت، وسأله يعقوب وقال: أخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي، وباركه هناك، فدعا يعقوب اسم المكان فينيئيل، قائلا: لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي. وأشرقت له الشمس إذ عبر فنوئيل وهو يخمع على فخذه، لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا الذي على الفخذ إلى هذا اليوم، لأنه ضرب حق فخذ يعقوب على عرق النسا. (تك 32: 22-32)
وهكذا تحول الاسم «يعقوب» إلى «إسرائيل»، أو «صراع إيل» أو مصارع الرب أو الذي صرع الإله، وأنجب «إسرائيل» اثني عشر ولدا هم الأسباط بنو إسرائيل، وكان أشهرهم أصغرهم سنا وأكبرهم شأنا «يوسف».
أما مصدر شهرة يوسف في التوراة فهو أنه كان جميلا جمالا فاتنا! والثاني أنه كان كثير الأحلام! والثالث أنه كان مفسرا أيضا للأحلام! مما أثار موجدة إخوته الذين كادوا له، حتى انتهى بكيدهم عبدا في بلاد مصر، لكن قدرته على التبصير وقراءة الطالع في الأحلام، أدت إلى ذيوع صيته في البلاط الملكي، حتى تمكن بقربه من صاحب العرش أن يصبح وزيرا لخزانة المصريين. وبهذا المركز تمكن من استجلاب أبيه وإخوته إلى مصر، في وقت حل فيه الجفاف بالأرض، وفي مصر عاشوا زمانا تكاثروا فيه وتناسلوا وعلا شأنهم.
لكن الحال لم يستمر على حاله، فقلب لهم الفراعنة ظهر المجن، واتخذوهم عبيدا مسخرين في الأعمال الشاقة، حتى ظهر «موسى» النبي، وهو في زعم التوراة أحد أحفاد سبط «ليفي» أو «لاوي» أحد إخوة يوسف وهو الذي قدر له قيادة اليهود للهرب من مصر إلى كنعان، في أشهر الرحلات في التاريخ، تلك المسماة «رحلة الخروج».
وقد قدر لهذا النبي حسبما جاء بالتوراة أن يكون صاحب مغامرات كبرى شهيرة، منذ ميلاده وحتى مماته، فقد ولد في ظروف صعبة، كان مطلوبا فيها بأمر فرعون مصر، قتل من يولد في هذا العام من ذكور، فألقته أمه في اليم لكن أقدار «الميلودراما» ساقته إلى قصر فرعون حيث عثرت عليه ابنة فرعون، فاتخذته لها ربيبا، لكنه كان يعرف أصله العرقي، مما دفعه يوما للانتصار لأحد اليهود من بني جلدته، فقتل بسبب انتصاره لعصبيته مصريا دون أن يتحقق حتى من موضع الحق، فكان أن طلبه القانون للقصاص فهرب إلى بلاد تسمى «مديان»، حيث التحق هناك بضيافة كاهنها المدعو «يثران»، وصاهره فتزوج ابنته، وهناك قابله رب اليهود في جبل أسمته التوراة جبل الله «حوريب»، حيث أمره بالعودة إلى مصر، مدعما بعدد من الخوارق، ليقود شعبه المختار من مصر في رحلة خروج، أو رحلة عودة إلى كنعان.
ويظن المؤرخون أن بداية بنى إسرائيل الحقيقية، هي مع رحلة الخروج حوالي 1200ق.م. بعد أن قضوا في مصر حوالي أربعة قرون، لكن موسى لم يحظ بدخول أرض كنعان، حيث تخبرنا التوراة أنه قد مات ودفن وهو من أرض الميعاد قاب قوسين أو أدنى، وخلف على القيادة رجلا دمويا، هو «يشوع بن نون»، الذي اشتهر بالقسوة المرعبة، وبمعجزات كالمعجزات الموسوية كفلق البحر، لكنه زاد عليها بالتخصص في معجزات يشوعية، منها ايقاف الشمس والقمر في مكانيهما، حتى يتمكن من الانتصار على أعدائه.
ومن بعد يشوع، استمر اليهود يعيشون زمانا، على هامش حياة الكنعانيين في الوقت الذي يزعم فيه الباحثون قدوم أقوام إيجية من جزيرة كريت، باسم الفلسطينيين، ليستوطنوا الساحل الكنعاني، ويكسبوا أرض كنعان اسمها «فلسطين»، مما خلق أمام اليهود عقبة جديدة، فبدأ صراع طويل بين الشعبين، استطاع اليهود بعد انتصارهم فيه أن يقيموا لهم ملكا ودولة، كان أول ملوكها «شاءول» ثم تلاه على العرش الملك «داود»، الذي استطاع أن يكسر شوكة الفلسطينيين بشكل حاسم ، مما أتاح للدولة الناشئة الاستقرار، وهيأ لوريثه الملك «سليمان» الفرصة ليبلغ بالدولة أوج شهرتها.
ويقول «موسكاتي» إن داود «أعاد إلى إسرائيل حظها الضائع وكان جلوسه على العرش حوالي عام 1000ق.م. وكان قد بدأ بتكوين دولة صغيرة خاضعة للفلسطينيين، ولكن مقدرته في الحرب والسياسة معا أكسبته الاستقلال، وأقامته ملكا على إسرائيل مكان أسرة شاءول. وبالاستيلاء على القدس، واستعادة تابوت العهد، صار للدولة الناهضة من جديد، مركزها السياسي والديني، وكان سليمان بن داود شديد الاختلاف عن أبيه؛ فقد أحدث تغييرا جوهريا في كل حياة المملكة وأعاد تنظيم المملكة على نمط الممالك المطلقة السلطان، في الشرق الأدنى القديم، فالأبهة والترف في البلاط، وكثرة الزوجات والجواري التي كانت تتطلبها اعتبارات الدبلوماسية والسمعة، والتي قدر كما تقول التوراة أن تشغل قلب الملك، ثم ازدياد مؤامرات القصور ... اضطرت سليمان إلى إقامة نظام من الضرائب، ألقى على شعبه عبئا ثقيلا ... وكان إنشاء المعبد الكبير في أورشليم القدس، أشهر ما قام به سليمان من أعمال عامة، وقد ضم هذا العمل الفخم عناصر قيمة من كنعان فينيقية وغير فينيقية، وكذلك من مصر وأرض الرافدين ... وانتهى نفوذ العبريين بموت سليمان.»
1
وقد قيض للملك سليمان أن يحوز في مقدسات المنطقة وتاريخها، شهرة لا تضارع، ربما لأنه أشهر ملوك اليهود، وربما لأنه ضرب بالأنبياء المتنبئين عرض الحائط - كما تقول التوراة - ولم يسر وراء الشعوذات وركز اهتمامه في الشئون الدنيوية وفق خطط عقلانية، فتغنوا بحكمته وربما أضاف إلى ذلك ميوله الفنية التي دفعته إلى بناء قصره، والهيكل وفق أحدث الطرز المعمارية، فجلب لهذا الغرض فنانين من مختلف الأقطار المحيطة بدولته، وأشرف بنفسه على عمليات البناء والنحت والتشكيل والتجميل والنقش.
أما الباحث أحمد سوسة فيقول: «أما الوصف الذي اعتاد الباحثون ترديده عن اتساع وامتداد حدود مملكة سليمان فيعده أكثر الباحثين من قبيل المبالغات، التي درجت عليها دويلات تلك العصور. والحقيقة أن مملكة سليمان التي تبجح بعظمتها، كانت أشبه بمحمية مصرية مرابطة على حدود مصر، قائمة على حراب أسيادها الفراعنة ... وكان سليمان يريد أن يجاري الفراعنة في البذخ، والظهور بما هو فوق طاقاته وإمكانياته الاقتصادية ... فأثقل كاهل الشعب بكثرة الضرائب ... ولما عسر على سليمان أن يحتل أرض الفلسطينيين الساحلية، طلب معونة فرعون مصر، فأرسل جيشا مصريا صغيرا احتلها له وسلمها إليه، مهرا لابنته.»
ثم يتساءل «سوسة»: «كيف صور كتبة التوراة مملكة سليمان، صورة تفوق الواقع بكثير ... فسليمان لم يكن وهو في أوج مجده إلا ملكا صغيرا يحكم مدينة صغيرة، وكانت دولته من الهزال وسرعة الزوال، بحيث لم تنقض بضعة أعوام على وفاته، حتى استولى شيشنق أول فراعنة الأسرة الثانية والعشرين على أورشليم.»
ويجيب «أحمد شلبي» على التساؤل، فيوضح الأسباب التي أدت إلى هذه الشهرة بقوله: «إن أمور مصر في عهده كانت مرتبكة فخفت هيمنتها على فلسطين وبلاد الشام، وكانت أمور الدولة الآشورية مرتبكة كذلك، وقد منح هذا لداود شيئا من حرية الحركة والنشاط، والتبسط في ممارسة السيادة.» أما ما جاء عن «قصة ملك سليمان وحكمته»، التي أوردها الكتاب المقدس، فقد تعرضت لحشو وإضافات على نطاق واسع، على يد كاتب متأخر شغوف بالمبالغة، في وصف رخاء عصر سليمان، موله بتمجيد حكمه ... وقد استطاعت هذه الرواية أن تحمل العالم المسيحي، بل والإسلامي، على الاعتقاد بأن الملك سليمان كان من أشد الملوك عظمة وأبهة ... لكن الحق أنه إذا قيست منشآت سليمان بمنشآت تحتمس الثالث أو رمسيس الثاني أو نبوخذ نصر، فإن منشآت سليمان تبدو من التوافه الهينات ... أما مملكته فهي رهينة تتجاذبها مصر وفينيقيا، وترجع أهميتها في معظم أمرها، إلى ضعف مصر المؤقت.
2 (ومن المناسب أن نوضح من جانبنا أنه لم يكتشف نص واحد حتى الآن، لا في مصر، ولا في نصوص الرافدين، يشير من بعيد أو قريب، إلى ملك باسم سليمان أو داود أو شاءول. وهو أمر غريب بالقياس إلى ما ادعته التوراة عن شهرة المملكة السليمانية!)
والمهم أن هذا النفوذ السليماني المزعوم، قد انتهى بانقسام المملكة من بعده إلى دويلتين: واحدة في الشمال سميت إسرائيل وعاصمتها السامرة، وأخرى في الجنوب سميت يهوذا وعاصمتها أورشليم. ولم تلبث المملكة الشمالية أن وقعت في قبضة الرافديين الآشوريين، بعد أن سحقها العاهل الآشوري سرجون الثاني، بينما انتهت المملكة الجنوبية يهوذا إلى المصير ذاته على يد العاهل البابلي الكلداني نبوخذ نصر الثاني، وذهب ألوف من كليهما أسرى إلى بابل وآشور، وهناك ظلوا في الأسر حوالي أربعة قرون.
وفي العقود الأخيرة من القرون الأربعة ظهرت في الأفق دولة كبرى جديدة في إيران هي دولة الفرس، بقيادة رجل حديدي غير عادى هو «كورش»، الذي اتجهت طموحاته إلى الاستيلاء على بلاد المشرق وتكوين إمبراطورية كبرى، وكان لحنكته السياسية دورها الحاسم في تحقيق أحلامه، فقد قبل عروضا بتعاون اليهود وعلى رأسهم «أشعيا» و«إرميا»، بموجب شروط ومطالب محددة لليهود، وعلى رأسها تحريرهم من الأسر وعودتهم إلى أرض كنعان لإقامة هيكلهم ودولتهم مجددا، مما انتهى بفتح أبواب بابل للفرس.
و«يخبرنا المؤرخ اليهودي يوسفيوس
3
أن كورش أرجع كل انتصاراته إلى الرب الذي يؤمن به اليهود، لذلك صمم على إعادة بناء بيت له في القدس ... وتشير المصادر اليهودية إلى أن كورش قام بإعادة اليهود المرتحلين من بابل إلى القدس مجددا خلال العام الأول من احتلاله لها، وقد فرح اليهود بذلك واعتبروه المسيح المنتظر ونقرأ في سفر إشعيا: هكذا يقول الرب لمسيحه كورش ... الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أمما وملوكا ... لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك إليه، إسرائيل (إشعيا 45: 3) ويقول العهد القديم بأنه تزوج إستر اليهودية وجعلها ملكة على بابل».
4
ورغم أن «قورش
Cyrus » قد حاز في التوراة على كل اصطلاحات الود، فأصبح هو «المسيح» وهو «راعى اليهود» (إشعيا 44: 28)، وناداه رب اليهود باسمه، فإن سفر إشعيا يؤكد أن «قورش» لم يعرف رب اليهود (إشعيا 45: 4، 5)، إلا أن المهم في الأمر هو إصدار قورش سنة 538ق.م. قرارا برجوع اليهود إلى الأرض المقدسة، وإعادة بناء معبد أورشليم الذي ظل قائما حتى دمره الرومان نهائيا حوالي عام 70م.
الآلهة التوراتية
هكذا لا يعود مستغربا أن نجد الدين اليهودي قد مر بأطوار لا يحكمها منطق محدد، قدر ما تحكمها ظروف أخرى أهمها التأثر بمختلف عقائد شعوب البلدان التي عاش فيها اليهود أزمانا طويلة، سواء في البلاد الكنعانية أو المصرية أو الرافدية، أو أي موطن آخر استقروا فيه بضعا من الزمن. ومن هنا يمكن لأي باحث - بقليل من الجهد - أن يجد في التوراة مآثر مصرية وأخرى رافدية وثالثة فينيقية، أو أن يجد طبيعة التأليه تتضارب ما بين التأثر بآلهة الخصب والزرع والري، وبين آلهة الصحراء والجبال والبراكين، وبين فجاجة الاعتقادات والطقوس الابتدائية، وبين قمة التطور في مفهوم الألوهية نحو المطلق، وكله في آن واحد، يتناثر دون تنظيم محدد على صفحات التوراة فيشكل خليطا عجيبا دونما رابط ولا زمام، ولا مراعاة لمنطق التطور الزمني أو الاختلاف المكاني، ولا يبقى أمام الباحث سوى أن يلقي بنفسه وسط هذه الأحبولة ذات المائة وجه والألف لون.
ولا نزعم أنه بإمكاننا ترتيب الأمر كله دفعة واحدة، وإلا كان ذلك سذاجة مفرطة، وإنما غاية ما نزعمه هو الإخلاص في المحاولة مع الإشكاليات التي قد تعترضنا، على أن تتم هذه المحاولة على خطوات، مع كل خطوة نخطوها في بحثنا، في هذا التل المختل من الأحاجي والطقوس والاعتقادات والنظم والتاريخ، الباطل منها والصحيح.
وسيرا مع خطتنا التي اتبعناها في البابين السابقين، سنحاول فهم طبيعة التأليه في التوراة، وهنا يقول لنا «إيفار لسنر»: إن سفر التكوين ينسب جزءا من عملية الخلق إلى إله يدعى «إلوهيم
Elohim » بينما ينسب جزءا آخر إلى إله يدعى «يهوه
Jehovah »
1
ورغم تبسيط «لسنر» المسألة وتسطيحها، فإننا سنقف مع هذين الإلهين «إلوهيم» و«يهوه أو جاهوفاه» وقفة تفصيلية بعض الشيء:
والاسم «إلوهيم» هو جمع للاسم «إيل» أو «إل» الذي عرفناه عند الساميين في الرافدين والهلال الخصيب، وهو الإله الذي استمر وجوده في التوراة متواترا، طوال عصر الآباء البطاركة «إبراهيم» النبي، والممتد عبر أبنائه وأحفاده، حتى ظهور النبي «موسى»، ومع «موسى» يبدأ «يهوه» في الظهور، بعد أن التقى بموسى في «مديان» وهو هارب من مصر، بعد جريمة قتله المصري ظلما، حيث قال له: «ظهرت لإبراهيم واسحق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء، وأما باسمي يهوه فلم أعرف عندهم» (خروج 36: 3).
وهنا قصد واضح من التوراة للتفرقة بين عهدين، عهد عبد فيه الإله باسم «إيل» طوال عصر الآباء الأول، ثم عصر جديد يبدأ موسى يظهر فيه الإله باسم «يهوه» وبما أن المفترض في سفر التكوين كقصة للخليقة، أن يكون أقدم بعصور وأزمنة بعيدة عن عهد موسى، ويعود إلى عصور موغلة في القدم، فإن «يهوه» يظهر فيه ليقوم بجزء من عملية الخلق، في عدة مواضع، مما حدا بالباحثين إلى الظن أن هذا السفر قد كتب بعد عهد موسى بزمان طويل، أما نحن فنرى في ذلك تأليفا بين قصتين للتكوين؛ إحداهما قصة عتيقة قام بها بدور البطولة مجموعة من الأبطال من الآلهة القديمة عبرت عنهم التوراة باسم الجمع «إلوهيم»، كل منها «إيل»، وهى الآلهة التي رافقت العهد الإبراهيمي في التوراة، وقصة أخرى أحدث، قام فيها بدور البطولة الإله «يهوه»، الإله الذي أرفقته التوراة بالعهد الموسوي وما بعده حتى اليوم.
وقد سبق وعلمنا أن «إل» كان اسما جلاليا منتشرا على نطاق واسع بين جميع الشعوب السامية، وعرفته القبائل السامية الضاربة على سواحل المتوسط الشرقية، ووصفته ملحمة البعل الأوغاريتية الفينيقية بأنه «إيل أبو السنين» و«خالق الخلائق»، «ثورايل»، «مقام إيل عند نبع النهرين»
2
وهي إشارات تدل على مستوى تطوري رفيع بلغه «إيل»، حيث تحول من إله فرد ضمن مجمع إلهي، إلى أب رفيع الشأن وإله للزمان «أبو السنين»، وتدل أيضا على مستوى رفيع من التجريد لدى هذه الشعوب، مما أدى به إلى التحول إلى رمز جلالي يطلق على أي معبود، ومن إله بذاته إلى اسم مجرد يعني الإله أو الله، مما انتهى بالباحثين إلى اعتبار «إل» علما إلهيا عرف في كل العبادات السامية بلا استثناء.
3
خاصة بعد أن تأكد لدى الباحثين في آثاريات جزيرة العرب أن «إل» كان معبودا معروفا قديما ومنتشرا في كل بقاعها.
4
ورغم أن «موسكاتي» يرى أنه كان شخصية إلهية غامضة
5
فإن «ديتلف نيلسن» الباحث والآثاري في آثاريات جزيرة العرب، يؤكد أن هذا الإله كان متواجدا باستمرار في جميع النقوش التي عرضت له، وأنه كان ذا دلالة عامة «اسم جلالة» لكن «نيلسن» يشير في الوقت ذاته، إلى أنه قد عرضت له نقوش، ظهر فيها «إل» كدال على إله خاص محدد مفرد،
6
مما يدعونا إلى افتراض أنه ابتدأ كإله خاص، ذي دلالة طبيعية محددة، مثل «آن» السومري، نظنها السماء، ثم تحول إلى رئيس لمجمع إلهي، ثم مع التطور انتهى إلى اسم جلالي ذي دلالة عامة.
7
ورغم أن البادي في سفر التكوين التوراتي، أن «إل» إله مفرد ذو دلالة محددة، كما في التأكيد أن «إيل إله إسرائيل» (تكوين 30: 20)، وأنه كان له موضع مقدس حمل الاسم السامي «
BIT »، فأصبح هو «إله بيت إيل» (تكوين 31: 13)، فإن الباحث في التوراة يجده في مواضع أخرى كثيرة، اسما ذا دلالة عامة، وأنه استخدم للدلالة على عدد من الآلهة كل منها «إل» أو إله، تعاصرت في العهد الإبراهيمي، وكونت مجمعا كان له إله رئيس أو كبير ميز بلقب «الرب الإله»، ويمكن أن نفهم ذلك من نصوص عديدة، منها مثلا:
وسمعا (آدم وحواء) صوت الرب الإله ماشيا في الجنة
فنادى الرب الإله آدم وقال: أين أنت؟
فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟
فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت. (تكوين 3)
أو ما نجده في النص الذي يحكي عن موقف الرب الإله من أبوي البشر، بعد أن أكلا من ثمرة المعرفة المحرمة بأمر الإله، وخشية الرب الإله أن يتطاول آدم وحواء أكثر، ويتناولا من ثمرة الخلود ويعيشا إلى الأبد كالآلهة، يقول النص: على لسان الرب:
هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر، ولعله يمد يده الآن ويأخذ من شجرة الحياة أيضا، ويحيا إلى الأبد.
والتعبير «كواحد منا» يشير بوضوح إلى مجمع من الآلهة الخالدة، يقف فيه الرب الإله متحدثا. ومثل هذه الإشارات كثير التكرار في التوراة، ومنها مثلا عندما خشي الإله البشر، الذين قاموا يبنون برجا صاعدا إلى السماء، وحتى لا يقلقوا راحته السماوية، فقد بلبل ألسنتهم وفرقها كي لا يفهم بعضهم بعضا، ويتفرقوا عن البناء، فقام يقول:
هلم ننزل ونبلبل ألسنتهم. (تكوين 11: 5-8)
وغالبا ما حددت التوراة الإله في مجمع من ثلاثة شخوص، كما في قصة ذهاب الرب إلى النبي إبراهيم، لزيارته وتبشيره بغلامه إسحق، وإبلاغه بقرار تدمير أهل لوط ابن أخيه في «سدوم» و«عمورة»، الذين تفشى بينهم داء الشذوذ الجنسي. تقول التوراة:
وظهر له الرب عند بلوطات ممرا، وهو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار. فرفع عينيه ونظر، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه، فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة، وسجد إلى الأرض، وقال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك، فلا تتجاوز عبدك. (تكوين 18: 1-3)
والنص واضح تماما، فالرب هنا يظهر في صورة ثلاثة رجال، استقبلهم إبراهيم، ثم خاطبهم بصيغة المفرد: يا سيد، عينيك، عبدك، ونتابع النص:
ثم قام الرجال من هناك وتطلعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم، فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ ... وانصرف الرجال من هناك، وذهبوا نحو سدوم، وأما إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الرب. (تكوين 18: 16-22)
مرة أخرى، الرب هنا مجموعة رجال في واحد، لكن المربك في هذا النص القول إن هؤلاء الرجال الآلهة ذهبوا نحو سدوم ليدمروها، بينما بقي الرب مع إبراهيم، ولا تفسير لهذا الأمر سوى أن الذي بقي هو كبيرهم الرب الإله. ويؤكد لنا هذا الفهم، أن الذين ذهبوا لتنفيذ المهمة اثنان فقط، فالنص يتابع قائلا:
فلما رآهما لوط، قام لاستقبالهما وسجد بوجهه إلى الأرض، وقال: يا سيدي ميلا إلى بيت عبدكما، واغسلا أرجلكما ... (تكوين 19: 1-2)
ومع ذلك فإن مزيدا من الإمعان في التوراة، يرفع عدد آلهة المجمع، حيث نجد عددا لا بأس به من الآلهة، فهناك: «إل صبلوت» إله الجنود، و«إله عليون» الإله العلي، و«إل شداي» الإله الشديد أو القدير، و«إل شلم» إله السلام، و«إل جبور»، و«إل رحبوت» و«إل يراه» ويمكن لخبرة الباحث في تاريخ الديانات وفي الميثولوجي، أن يشتم في هذه الأسماء، أسماء لآلهة مواضع ومناطق وظواهر طبيعية فترجمة «إل صبلوت» يمكن أيضا أن تكون «إله الظباء» أو الإله الظبي أو التيس، وهو إله معروف في تاريخ الديانات كرمز للخصب، و«إل عليون» يمكن أن يكون إله مكان مرتفع كقمة جبل أو بركان أو ما شابه ذلك و«إل شداي» يمكن أن يترجم إضافة إلى كونه الشديد، إلى إله الشذى أو الرائحة أو الريح (الدال تختلط بالذال في الساميات)، و«إل يراه» رمز واضح لإله الماء والري والخصب، وينطق أيضا «يراخ»، والمصريون يقولون:«المطر يرخ.» ويتضح للمدقق في التوراة أن إل يراه كان إلها لبئر أو لعين من الماء فهو يلتقي بهاجر «على عين الماء التي في طريق شور» (تكوين 16: 7)، ويأمرها بالرجوع إلى سيدتها فدعت اسم الرب الذي تكلم معها: «أنت إيل رئي.» والمعنى أن هاجر تعلم أن هناك أكثر من إله فميزت الإله الذي قابلته «الذي تكلم معها» وعرفت فيه إله الري، بأنه «أنت إيل رئي.» وقد اكتشفت أنه إله الري بالذات، والسبب «لأنها قالت: أها هنا رأيت بعد روية» (تكوين 16: 13)؛ أي ارتويت بعد عطش كاد يكون موتا «روية»، ثم إنها صادفت ذات الإله بعد ذلك عندما أخذها إبراهيم النبي بأمر زوجته سارة إلى البرية، حيث تركها هناك مع طفلها إسماعيل، حيث تظهر علامات إله الخصب مرة أخرى حين «طرحت الولد تحت إحدى الأشجار» (تكوين 21: 15)، وأخذت تبحث عن الماء، «وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء» (تكوين 21: 19)، لذلك «دعت البئر بئر لحي رئي» (تكوين 16: 13)، ولعل النص في الأصل «دعت البئر لهي رئي»؛ أي إله الري والماء.
ويظهر الإله «لهي رئي» في أكثر من موضع في العهد الإبراهيمي، لكن مع تداخل يهوه، الذي لم يظهر إلا في العهد الموسوي، بيد الكاتب المتأخر الذي خلط بين العهدين، وذلك في قصة تضحية إبراهيم بابنه لربه، وطقس التضحية يرتبط عادة بإلهة الخصب والري، طلبا للغيث والري، كما يرتبط بطقس الجنس الجماعي، والموضع الذي ذهب إبراهيم ليضحي فيه بولده يأتي في النص القائل «فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع «يهوه يراه»» (تكوين 22: 14)، وهنا يرد «يهوه» بمعنى الإله مضافا إلى «يراه» فهو إله الري، وفي أكثر من موضع نجد اسحاق بن إبراهيم يسمي بئر هذه المنطقة «بئر لحي رئي»، أو ما افترضنا «بئر لهي رئي» أي إله الري وليس إله الرؤية بمعنى البصيرة (التكوين 24، 62، 25، 11).
وهناك أمر يرتبط بهذا الإله هو إشارة المؤرخين العرب والمسلمين إلى هبوط النبي إبراهيم مع هاجر وولدها إسماعيل جزيرة العرب، لكن التوراة لم تشر إلى هذا الأمر بوضوح، وإن كنا قد استطعنا أن نعثر على متفرقات بالتوراة، يمكن أن تربط إبراهيم وجزيرة العرب، وأثبتناه بالأدلة في بحثنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، سينا للنشر»، ويرتبط أيضا بهاجر وبالإله الذي التقت به عند البئر «إله رئي»، وبطقس ذبح الابن الذي كاد أن يقوم به النبي إبراهيم (وهو أحد طقوس عبادة الخصب، حيث كانت التضحية بالابن البكر شرعة واجبة في عبادات الخصب بطول المنطقة وعرضها فكان العباد يذبحون البكر ويحرقونه في حجر الإله).
والتوراة تورد الأمر الإلهي لإبراهيم بقولها: «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة» (تكوين 22: 2)؛ لذلك «دعا إبراهيم اسم ذلك الموضع يهوه يراه، حتى إنه يقال اليوم في جبل الرب يرى» (تكوين 22: 14).
والنص يعني أن الرب أمر إبراهيم بذبح ابنه إسحق، وهو ما لا يتفق مع شرعة التضحية بالبكر، والبكر هو إسماعيل، والعرب والمسلمون يؤكدون أن الذبيح كان إسماعيل، وهو ما يتسق مع تلك الشرعة القديمة. وإذا كان إسماعيل في التوراة، وفي كتب التراث الإسلامي هو الجد البعيد لعرب الجزيرة، فإن ذلك كله يذهب بنا إلى جزيرة العرب، في رحلة إبراهيم مع هاجر وإسماعيل حيث تركهما هناك، لكن بعد أن كاد يضحي بولده في «أرض المريا» لذلك سمي الموضع «يهوه يراه» وأنه يسمى حتى اليوم، أو بتعبير التوراة: يقال اليوم «جبل الرب يرى»، وهو ما تعنيه تماما اللفظة العربية «المروة»، التي تتركب من ملصقين هما «الإله» و«مروة» أو «مروي» وتشير إلى الري والخصب.
ولم تزل «المروة» موضعا مقدسا في بلاد الحجاز، باعتقاد أن قدسيته موروثة منذ أيام النبي إبراهيم، وشعيرة الهرولة بين الصفا والمروة أحد شعائر الحج الأساسية، ويتبعه ضمن الطقوس شعيرة الذبح.
وتقول كتب التراث الإسلامي: إن الصفا والمروة كانا مقدسين قبل الإسلام بزمان وظلا مقدسين في العصر الجاهلي، وكان الجاهليون يهرولون بينهما؛ لأنه على الصفا كان الصنم «إساف» أو «أصاف» أي يوسف، وأن على المروة كان الصنم «نائلة»، وإن يوسف في الأسطورة قد جامع نائلة داخل الكعبة، لذا نشأ طقس الهرولة بينهما في الجاهلية، مدا وإيصالا لحبل الوصال بينهما، وهذا الجماع كان بدوره أحد طقوس عبادة الخصب في الديانات القديمة (ولنلاحظ أن نائلة في العامية نايلة، وفي العربية يعبرون عن وصال المرأة بكلمة نالها، وفي العامية المصرية: نيلها).
وتأسيسا على كل هذه المعاني سنقوم بالربط بين «إيل يراه» أو «إل يرخ» وبين القمر، باعتبار القمر كان يرتبط دوما بالعبادة الخصبية التي كانت تقوم في البوادي، والاسم «يرخ» كان أحد أسماء القمر في العبادات السامية وله أسماء عدة مشتقة من «يراه»، فهو أيضا «رخ»، «يرخ»، و«الورخ» و«يرح»، وكان أشهر مقار عبادته فيما يفيدنا به أنيس فريحة، المدينة التي حملت اسم «أريحا»!
8
في فلسطين.
وإننا إذ نربط بين القمر وبين عبادة الخصب، فإننا نقيم ذلك على عدة شواهد، أهمها الاعتقاد القديم أن القمر متولد أصلا من الهواء، والهواء هو الذي يسبب الريح «يريح»، كما أنه في هيئة الهلال كان في شكل قرنين، والقرنان لوازم الحيوانات التي قدست باعتبارها رموز آلهة الخصب وهي الشياه عموما (الثور، التيس، الخروف)، لذلك أطلق على القمر لدى الشعوب السامية اسم آخر هو «سين» اشتقاقا من أسماء الشياه، وأسماء الشياه، فيما يفيدنا به «موسكاتي» كانت تنطق «سي» بإمالة السين إمالة طويلة، وهى التي تطورت بعد ذلك من «سي» إلى «شي» إلى «شاء» إلى «شاه».
9
إذن «إل يرى» هو إله الخصب إله القمر، وتأسيسا على فرضنا هذا وقياسا على ثوابت العبادات الخصبية في المنطقة، يمكننا افتراض أنه كان في الثالوث الإيلي، ابن «إل شداي» وشداي منها الشذي، أي الرائحة والريح والهواء، والقمر متولد عن الهواء في اعتقادات القدماء كما أسلفنا فيكون «إل شداي» هو إله الهواء أبو إله الخصب القمري «إل يرى».
وهكذا لا يكون اليهود قد خرجوا في عهدهم الأول عن النمط السائد في العبادات الطبيعية القديمة، المرتبطة بمواطن الزرع، وبظواهر الطبيعة الكبرى، والذين عبدوا الآلهة نفسها بالمواصفات والوظائف نفسها تقريبا، بينما ظل «إل» كعلم مستقل ومجرد عند الجميع، دلالة جلالية تعود أصلا إلى السماء كجليل حمل لدى السومريين الاسم «آن» مجردا، ولدى الساميين الاسم «إل» مجردا، ليظل دائما فوق جميع الآلهة، وأباها جميعا.
هذا عن «إلوهيم» أو مجموعة الآلهة الإيلية في العهد الإبراهيمي وما قبله، فماذا عن «يهوه» المنسوب في التوراة إلى النبي «موسى»؟
واضح أن إله السماء توارى بمرور الزمان وأصبح رمزا غير واضح، بينما قفز الإله الابن ليحتل مكان الصدارة في ديانات المنطقة، فأدونيس الفينيقي يبرز ويصبح فوق جميع الآلهة، وبعل الكنعاني يزيح الأب إيل تماما ويصبح هو محور العبادات، ومن قبل تقدم آنليل السومري على أبيه آن، بل وظهر المسيح الابن في الديانة المسيحية بنص الأناجيل كما الوحيد من الأب ليصبح هو المعبود الرئيسي الأول، بينما توارى الأب تماما، ثم في المذاهب الشيعية في الإسلام، المنعوتة بالمتطرفة، تم إحلال الحسين في المقام الأول بعد أن أزاح من الوجدان أباه «علي» أو الإله العلي، وبنفس الطريقة أزاح الإله الابن «يراه» الأب وحل محله ليصبح هو إله الهواء وإله الري وإله القمر والإله الثور معا، ولكن باسم «يهوه».
وإن استيلاء الابن على سلطات أبيه في المجامع الإلهية، هو بالاستفادة من النظرية الفرويدية، ترديد لما حدث في المجتمع الإنساني على الأرض، حيث كان يحل الابن القوي دائما محل أبيه الذي ظل مطلق السلطات طوال فترة تمتعه بالقوة الجسدية، حتى إذا ما كهل وظهرت عليه بوادر الضعف، قفز أقوى الأبناء إلى المقدمة واستولى على القيادة.
وقد جاءنا من نصوص آثاريات «أوغاريت» الكنعانية الفينيقية نصوص تشير إلى أن الإله «إيل» أب طاعن في السن عاجز عن إدارة شئون مملكته، تواق إلى أن يحمل ابنه أعباء وظيفته الإلهية عنه، وأعلن في عدة نصوص تعيين ابنه خليفة له.
10
ولما كنا برأينا متفردين في القول بتفوق «إل يراه» بالتحديد، وأنه هو الذي أصبح يحمل اسم «يهوه» بعد مجموعة الآلهة الإيلية «إلوهيم»، فنحن نحتاج مزيدا من الأدلة حتى يتسم رأينا بالوجاهة المطلوبة.
لقد عرضنا فرضنا: أن «إل يراه» هو إله القمر المتولد عن «إله الشذى» أو الهواء أو الريح «إل شداي»، وأنه مرتبط بالري والخصب، وأن أهم رموزه هي ذات رموز آلهة الري في مختلف العبادات الخصيبة، وهي الشياه (الثور، التيس، الخروف)، وأنه ربما صاحبته طقوس الخصب المعروفة في عبادات الخصب كالتضحية بالأطفال على مذبحه، وممارسة نوع من طقوس الجنس لحض الطبيعة على الإخصاب والعطاء نباتا وحيوانا.
وبالبحث عن دعم، نجد التوراة تحكي لنا: أنه من بين أسباط يعقوب «إسرائيل» من دخل مصر مع يوسف، حين كان موزرا على خزانة مصر، وهناك تكاثروا وتناسلوا، ومن سبط ليفي أو لاوي كان النبي موسى، وإن موسى هرب من مصر إثر جريمة قتل فيها مصريا، انتصارا ليهودي من بنى جلدته، بعد أن تحولوا من سادة إلى عبيد، وأن هروبه كان إلى قبائل «مديان»، وهناك تعرف إلى كاهن مدين المدعو «يثران» وتزوج ابنته، وعاش معه زمانا يرعى الغنم في تلك البوادي، وهناك:
جاء إلى جبل الله حوريب، وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة، فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق، فقال موسى: أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم. لماذا لا تحترق العليقة؟ فلما رأى الرب أنه مال لينظر، ناداه الله من وسط العليقة، وقال: موسى، موسى، فقال: ها أنا ذا، فقال: لا تقترب إلى ها هنا، اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة ... هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم، وقال الله أيضا لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل يهوه ... أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد. (خروج 3: 1-15)
إذن، ميلاد «يهوه» في أفق الديانة اليهودية، بدأ من تمثله في نار تلتهب في عليقة، حيث التقى بموسى وأعلنه بقرار ربوبيته لليهود، ودعما لفرضنا المطروح، ما نجده عند الآثاري «ديتلف نيلسن»، الذي قطع بأن «يهوه» كان إلها للقمر، تأسيسا على ما لاحظه من شواهد أهمها:
أن التوراة عندما كانت تتحدث عن تجليات «يهوه» تفهمنا باستمرار أن هذا التجلي لم يكن يحدث إلا ليلا.
أن يوم السبت المقدس، والأعياد الأسبوعية الأخرى في الطقوس اليهودية ترتبط بأيام المحاق الثلاثة، وترتبط كل شهرين بمواقع القمر.
أن تعبيرات التوراة عن ظهور الإله «يهوه» هي اصطلاحات فلكية قمرية معروفة.
أن ظهور «يهوه» في سيناء لليهود، ارتبط بوقت ظهور القمر في اليوم الثالث من الشهر القمري.
أن أهم مواقيت تقديس «يهوه»، تكون في اليوم الأول من الشهر القمري ومنتصف الشهر عندما يكون القمر بدرا.
أن مواعيد الأضاحي المقربة إلى «يهوه» حسب الأوامر المدونة بالتوراة كانت ترتبط بمواطن القمر، ويتزايد عددها مع نضوج القمر، حتى استوائه بدرا الرابع عشر من الشهر، فيذبحون أربعة عشر أضحية.
11
ونضيف إلى نيلسن ملاحظاتنا:
إنه وإذا كانت ديانات الخصب قد اعتبرت الشياه وعلى رأسها الثور، رمزا لإله القمر، للتشابه بين الهلال والقرنين، فهو ما لم تخرج عنه التوراة، ومن أمثلة ذلك:
أن أتباع موسى إبان رحلة الخروج، انتهزوا فرصة غيابه فوق الجبل لكي يحضر فصنعوا ثورا من ذهب، ووقفوا يرقصون حوله عراة، وهو ذات الطقس التعبدي في مختلف ديانات الخصب (خروج 35).
تزعم التوراة أن موسى أمر بصنع تابوت بمواصفات محددة، ليتخذه «يهوه» مرقدا له، وإن هذا التابوت هو الذي وضعه الملك «سليمان» بعد ذلك في هيكل عظيم، صنع للتابوت خصيصا في أورشليم، وأنه كان لهذا الهيكل مذبح، وعلى المذبح تمثال لرأس ثور كبير، له قرنان عظيمان.
12
ويذكر سفر الملوك الأول: أن الملك سليمان قتل أخاه أدونيا، وذبح قائد جيشه يوآب، وهو ممسك بقرون المذبح يستجير بيهوه.
13
أما جميع زخارف المعبد فكانت ثيرانا مقدسة،
14
ويؤكد «ديورانت»: «أن بني إسرائيل لم يتخلوا قط عن عبادة العجل والكبش والتيس.»
15
أن الملك اليهودي «يربعام» بنص التوراة: «عمل عجلي ذهب وقال لهم: عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم، هو ذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر، ووضع واحدا في بيت إيل، وجعل الآخر في دان» (ملوك أول 12: 28، 29).
أو ما جاء في النص التوراتي عن هارون أخي موسى: «فأخذ ذلك «الذهب» من أيديهم، وصوره بالأزميل وصنعه عجلا مسبوكا، فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل» (خروج 32: 4).
ولنذكر قارئنا بأمور عدة لم يقف عندها الباحثون، وأهمها هو: لماذا تحول الجبل المقدس، الذي التقى فيه موسى برب لهيب العليقة، من جبل «حوريب» إلى جبل «الطور»؟ ولماذا كان اسم كاهن بلاد مديان حيث التقى موسى بربه، وحيث تزوج بنت هذا الكاهن، لماذا كان يحمل اسم «يثران»؟ ويثران مع ظاهرة القلب في الساميات تصبح «ثيران»!
ونحن نعلم أن كهنة الآلهة، كانوا يتزيون عادة بزي الإله، وأكدت ذلك نقوش آلهة الخصب وكهنتها بطول المنطقة وعرضها، وصورت كهنة الثور يلبسون تاجا ذا قرنين.
ومما يدعم وجهة نظرنا في أن اللفظة «ثيران» أو كما وردت مقلوبة - بالميتاتيز - «يثران» هي لقب كهنوتي لكبير كهنة الإله الثور، هو أن أول ذكر لهذا الكاهن في قصة لقاء بناته بالنبي موسى، عندما كان موسى هاربا من مصر إلى مديان، تقول: «وكان لكاهن مديان سبع بنات، فأتين واستقين وملأن الأجران ليسقين غنم أبيهن، فأتى الرعاة وطردوهن، فنهض موسى وأنجدهن، وسقى غنمهن، فلما أتين إلى رعوئيل أبيهن ... قلن: رجل مصري أنقذنا من أيدي الرعاة» (خروج 2: 16-19).
وقد تكرر ذكر هذا الكاهن بالاسم «رعوئيل» عدة مرات كما في النص: «وقال موسى لحوباب بن رعوئيل المدياني حمى موسى: إننا راحلون إلى المكان الذي قال الرب أعطيكم إياه» (عدد 10: 29)، مما يفيد أن هذا المكان كان يحمل اسم رعوائيل ويقلب لقبا وظيفيا «الثور».
وأنه ما علينا إلا أن ننطق اسم «يهوه» نطقا دقيقا «جاهوفاه
JAHIUVAH » حتى نجدنا نقلد خوار الثور بكل دقة! خاصة مع تدقيق «لودز
LODS » في النطق الصحيح لاسم هذا الإله، ووجوب نطقه بفتح ثم ضم فسجول طويلة
16 (والغريب مع ذلك، أن لودز لم يلحظ العلاقة بين النطق بهذا الشكل وبين خوار الثور).
ثم، وحتى ندعم فرضنا أكثر، سنضطر إلى تسجيل أمر هام لاحظناه ، وهو التلبس الواضح للإله «يهوه» بالإله الكنعاني «بعل مولوخ» منذ مراحله المبكرة «والبعل مولوخ» ينطق أيضا ويكتب «بعل مولوك والبعل الملك». ويعني السيد الملك، أو الرب الملك، وكان ذا غرام خاص بدماء الصغار وكانت له احتفالات يأخذ الناس زينتهم فيها، كأنهم في يوم عيد، وكانت دقات الطبول وأصوات المزامير تطغى على صراخ أطفالهم، وهم يحترقون في حجر الإله، وقد حدث في قرطاجنة أثناء حصارها سنة 307ق.م. أن أحرق على مذبح هذا الإله الدموي مائتا غلام من أرقى أسرها، كما كشفت حفائر «كفر الجرة» عن صندوق يضم عظام أطفال، تحت أساس عمود كضحية تأسيس، لبعل مولك، أو الملك.
ومن القصص المشهورة قصة «ميشا» ملك «موآب» الذي ضحى بابنه البكر ليفك الحصار عن مدينته، ولما أجابه البعل، ذبح سبعة آلاف يهودي شكرا وعرفانا.
وملاحظتنا عن تلبس «يهوه» بالإله «بعل مولك»، تبدأ من شغف «يهوه» بدوره بدماء البشر، فهذا الملك «يفتاح» ينذر للرب نذرا قائلا: «إن دفعت بني عمون ليدي، فالخارج الذي يخرج، للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند عمون، يكون للرب، وأصعده محرقة ... ثم أتى يفتاح إلى المصفاة إلى بيته، وإذا بابنته خارجة للقائه ... وهي وحيدة ولم يكن له ابن ولا ابنه غيرها ... ففعل بها نذره الذي نذر» (قضاة 11: 30-39)، ثم انظر مثلا آخر: «وسلمهم إلى يد الجعبونيين، فصلبوهم على الجبل أمام الرب» (صموئيل الثاني 21: 9)، أو «فحمي غضب الرب على إسرائيل، فقال الرب لموسى خذ جميع رءوس الشعب، وعلقهم للرب مقابل الشمس، فيرتد حمو غضب الرب» (عدد 25: 43)، أما النبي «إرميا» فيعلنها صريحة ويقرر أن اليهود كانوا يقدمون أطفالهم مذبوحين محروقين على مذبح البعل الملك (إرميا 9).
ومع مزيد من المطالعة في التوراة يتأكد فرضنا، حتى نكاد نزعم أن «يهوه» لم يكن شيئا آخر غير «البعل الملك»، ولنعد إلى لقاء موسى بيهوه الناري، والنص يقول: «وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط العليقة.» ومع التعبير «ملاك الرب» يستمر النص فيقول: «ناداه الرب من وسط العليقة ... هكذا تقول لبني إسرائيل: «يهوه» أرسلني ... إليكم.» فما المعنى إذن؟ هل كانت نار العليقة ملاك الرب، أم الرب «يهوه» ذاته؟ الواضح في النص أنها الرب بذاته، إذن ما هو تفسير «ملاك الرب»؟ لقد حاولت في بحث سابق «القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث» تفسير هذا التضارب المتواتر بكثرة في التوراة ما بين ملاك الرب، و«الرب»، بأن كاتب هذه الأجزاء من التوراة من الكتاب المتأخرين (حوالي 400ق.م. في الأسر البابلي وبعده)، وأن فكرة الألوهية كانت قد سارت حثيثا في تطورها نحو التوحيد، مما حدا بالكاتب إلى محاولة تفادي التعدد عند الحديث مثلا عن الذين دمروا سدوم وعمورة (وهم ثلاثة) فكان يضطر إلى إثبات المعلومة الأصلية المعدة، ثم يتحايل بالقول إنهم ملائكة، لكني لوجه الحق لم أعد مقتنعا تماما بصدق هذا التفسير، لذلك لن أثبته الآن أو أنفيه، إنما أضيف إليه تصورا جديدا أو فرضا جديدا أكثر تماسكا وقبولا، أبدؤه بافتراض وجود خطأ واضح ربما كان في ترجمة النصوص الأصلية فلا شك أن «ملاك الرب» إنما هي أصلا «الرب الملك» أو «البعل مولك، مولوخ»، ويدعم ذلك أن تعبير «ملاك الرب» يرد تبادليا في مواضع كثيرة بالتوراة مع تعبير «الإله أو يهوه»، ومن هنا لا شك يراودنا إذا قلنا إن «يهوه» لم يكن شيئا آخر غير «البعل مولك» أو «الملك»، منادى بالاسم اليهودي الجديد «يهوه».
ولنلحظ أن «شتادة» يرى معنى الاسم «يهوه» هوى بمعنى سقط
17 «يهوه». ولنلحظ أن هوى في اللغة تعني سقط وارتفع في آن معا، الهواء، وهو ما ذهب إليه «فلهاوزن» حين اعتبر «يهوه» إله الريح،
18
وقد خرج المرحوم العقاد باعتقاده أن الاسم «يهوه» من مادة الحياة «يحو»،
19
وهو ما يذكرنا بالتعبير التوراتي المتواتر عن «إل رئي» بأنه مرة «يهوه رئي»، ومرة «لحي رئي»، ولنلحظ أن الهواء سبب «الحياة»، والأقدمون اعتبروا «الروح» سر الحياة من «الريح» أو الهواء والنفس، وحملت لنا اللغة اشتقاقاتها من جذر واحد، وعليه فإن فرضنا أن «يهوه» كان إلها للهواء والريح مرموزا له بالشياه، مع استفادتنا بمذهب «ديتلف نيلسن» أنه كان إلها للقمر، قد أصبح فرضا مدعما بشكل كاف. وقد ألمح الباحثون إلى ارتباط «يهوه» بالبراكين، وعدوه إلها بركانيا ولنا هنا إضافات تثري هذا المعنى. فإذا ربطنا بين ظهور القمر بجاذبيته التي تسبب ظاهرة المد، كما تسبب أيضا فوران البراكين النشطة، فإن ذلك يؤدي إلى ارتباط القمر بالبراكين في أذهان الأقدمين، ولو طبقنا ذلك على «يهوه» كقمر سنجده مرتبطا بالبراكين ارتباطا مثيرا، حيث نجد صفات «يهوه» في التوراة صفات بركانية دون لبس، فهو قد ظهر أولا لموسى في هيئة نار في عليقة، كما كان يتمثل لموسى وأتباعه إبان رحلة الخروج «نهارا في عمود سحاب ... وليلا في عمود نار» (خروج 13: 21)، وهو المشهد الذي تتجلى به البراكين، فهي إبان النهار يطغى ضوء الشمس على إشعاع لهيبها المختفي في الفوهة، فلا يرى منها غير دخانها، أما ليلا فيتضح مشهد النيران واللهيب.
كما خلعت التوراة على «يهوه» صفات، ليست سوى صفات مسئول كبير عن البراكين وهولها في تصور العقل القديم فهي تصفه بأنه «إله يسخط كل يوم» (مزامير 7: 11)، وأنه «يمطر ... فخاخا نارا وكبريتا وريح السموم» (مزامير 11: 6)، وأنه ينادي عباده آمرا اعبدوا الرب بخوف واهتفوا برعده» (مزامير 2: 11)، وأنه إذا غضب «صعد دخان من أنفه ونار من فمه» (مزامير 18: 8)، وأنه إذا تجلى صاحبته «رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل ... وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، وصعد دخانه كدخان الأتون، وارتجف كل الجبل جدا» (خروج 19: 18-16). أما صفته الدائمة المتواترة في نصوص التوراة فهي «الرب إلهك هو نار آكلة» (تثنية 4: 24). أما أوضح تعبير توراتي عن ارتباط ظهور القمر بجاذبيته، بظهور الإله «يهوه» بثورة البركان، فهو ذلك النص الذي لا يحتاج تعليقا: «... جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وعن يمينه نار شريعة لهم» (تثنية 23: 1)، مع ملاحظة أن اسم الجبل الذي أشرق منه الإله «يهوه» أو القمر، يحمل اسم «سعير»، والسعير يدل على هوية هذا الجبل المستعر بالنار الذي تلألأ منه الإله وعن يمينه نار.
أما الأكيد فهو أن ابن «إيل» كان «البعل الملك»، وفي النصوص الأوغاريتية الكنعانية يقول الرب «إيل»: «اسم ابني ياو.»
20
و«ياو» ليس شيئا آخر غير «ياهو» أو «إهيه» أو «ياه» أو «يهوه»، أسماء رب اليهود في العهد الموسوي، كما وردت في التوراة! (ولنلحظ أنه عندما جاء الإسلام أعطى ملاك أو خازن النار في السعير الاسم مالك!)
وعليه نقرر أن اليهود عبدوا فعلا «الملك» باسم «يهوه» في الغالب وعبدوه أحيانا أخرى بالاسم «الملك» صراحة كما رأينا في سفر النبي أرميا. وأنهم تحاشيا لهذه الوصمة الكبرى التي تهدم أعمدة الفكر الديني اليهودي المتسم بالذاتية والاستقلالية والخصوصية التامة، حيث زعموا أن «يهوه» اختارهم من بين العالمين عبادا له، بينما هو أحد آلهة شعوب المنطقة، وأنه كان معبود اليهود فعلا وإلا ما حرمته ونهت عنه التشريعات الموسوية، أقول: تحاشيا لذلك استخدم اليهود الاسم «يهوه» بديلا عن «الملك»، ذلك الاسم الذي حمل من المعاني الكثير أوردناها سلفا، لكنه حمل أيضا معنى نداء الغائب في العبرية تحاشيا لنداء الرب صراحة باسمه «بعل مولوك» أو «الملك»، ولم تكن التسمية «يهوه» كنداء للغائب «هو» كما ذهب الباحثون التوراتيون احتراما للذات الإلهية (كما في رأي سميث مثلا):
21
إنما تغطية لاسم المعبود الأصلي، الذي كثيرا ما ظهر في الترجمات بالاسم «ملاك الرب» بدلا من الترجمة الحقيقية «الرب الملك» أو «البعل مولوك» أو مالك.
لكن ذلك لا يعني أن اليهود، قد انتقلوا من عبادة مجموعة الآلهة الإيلية «إلوهيم»، إلى عبادة إله واحد باسم يهوه؛ فالأمر لم يكن كذلك، ولم يكن «يهوه» هو إله اليهود الوحيد بعد العهد الموسوي، إنما كان هناك عدد آخر من العبادات لحق بعبادة «يهوه» وعددا من الآلهة عبد في الوقت ذاته إلى جوار «يهوه» حتى في داخل هيكله، وقد سجلت التوراة ذلك دونما حرج، وتواجدت هذه الآلهة طوال العصر الممتد من موسى حتى ظهور الأنبياء الموحدين (أمثال أشعيا ودانيال، وظهروا متأخرين، قبل القرن السابق للميلاد بقليل).
فإلى جوار «البعل الملك» أو «يهوه» عبد اليهود عددا آخر من البعول مثل «بعل فغور»، الذي ورد في النص التوراتي «وتعلق إسرائيل ببعل فغور، فحمي غضب الرب على إسرائيل» (عدد 25: 1-5)، ومثل البعلة، زوجة بعل مولك (البعلة الملكة، أو ملكة السماوات، بعليت مولوخ) المعروفة بالأنثى الإلهية «إناث»؛ إذ قالت التوراة بلسان اليهود: «بل سنعمل كل أمر خرج من فمنا، فنبخر لملكة السماوات، ونسكب لها سكائب، كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا رؤساؤنا في أرض يهوذا، وفي شوارع أورشليم، فشبعنا خبزا، وكنا بخير ...» (أرميا 44: 17).
بل إن بعض كبار ملوكهم مثل سليمان، عبد مثل هذه الآلهة صراحة وهو ما نراه في النص التوراتي «حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين، على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بنى عمون» (ملوك أول 11: 7). وبالمناسبة: هل كموش غير جموش أو بالعربية جموس أو جاموس؟ لفتة نشير بها إلى أنه بدوره كان إلها للخصب.
ثم إنهم عبدوا أيضا «تموز» إله الخصب الرافدي، ومارسوا طقوس الندب والبكاء عليه باعتباره إلها شهيدا، كما ظلوا على عبادة الشمس فترة طويلة وهو ما يفهم من رواية النبي حزقيال، عندما ذهب إلى الهيكل: «وإذا هناك نسوة جالسات يبكين على تموز ... وإذا عند باب هيكل الرب وبين الرواق والمذبح نحو خمسة وعشرين رجلا، ظهورهم نحو هيكل الرب، ووجوههم نحو الشرق وهم ساجدون للشمس» (حزقيال 8: 14-16).
ولا تني التوراة تؤكد أنهم عبدوا مجموعة البعول والبعلات الملقبات باسم «عشتارت» من عشتروت الرافدية، فتقول: «وعبدوا البعليم «جمع بعل» والعشتاروت «جمع عشتار» وآلهة آرام وآلهة صيدون، وآلهة موآب، وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين» (قضاة 10: 6)، أو باختصار، أنهم شاركوا في عبادة كل آلهة المنطقة.
ومن المقدسات الشبيهة بالآلهة عند اليهود، وربما كانت أدنى قليلا، كائنات أسمتها التوراة «الكروبيم» جمع «كروب»، وكان تصورهم لشكل «الكروب» محيرا، فهو يظهر مرة على أنه طير ربما كان نسرا، لكنه بعد ذلك يأخذ شكل الثور المجنح، بوجه إنسان. فالأسفار القديمة تصوره في هيئة نسر صنع له تمثالان وضع أحدهما على مقدمة تابوت العهد أو الشهادة، والآخر في مؤخرته. فالنص يقول: «فلما دخل موسى إلى خيمة الاجتماع، ليتكلم معه «الرب»، كان يسمع الصوت يكلمه من على الغطاء الذي على تابوت الشهادة، من بين الكروبيين» (عدد 7: 89). وينسب إلى موسى القول إنه رأى هذا النوع من الطيور قرب عرش الإله، وأنه لما أتم سليمان بناء الهيكل، جمع شيوخ اليهود «وحمل الكهنة التابوت ... وأدخل الكهنة تابوت عهد الرب إلى مكانه في محراب البيت، في قدس الأقداس، إلى تحت جناحي الكروبيين» (ملوك أول 8: 1).
ويبدو لنا أن تقديس النسور في مختلف العبادات القديمة، كان سببه رؤية العقل القديم لمسكن الآلهة في السماء، مع قدرة هذه الطيور رغم ضخامتها على الطيران والصعود في الأعالي، مما جعلها في التصور قريبة من الآلهة، لذلك أعطى العقل القديم كل المقدسات القريبة من الآلهة الأجنحة والقدرة على الطيران حتى تتمكن من الصعود إلى مقر الآلهة أو الهبوط منها، وهو ما نلحظه في صفات الملائكة، وقد قدست معظم الشعوب القديمة النسر وبخاصة العرب الجنوبية وقد أشار القرآن الكريم إلى عبادة «نسر» ضمن مجموعة آلهة عربية قديمة في قوله:
ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا (نوح: 23).
أما الصورة الثانية للكروب، كثور مجنح برأس إنسان، فتأتي في الأسفار المتأخرة، حيث نجد النبي حزقيال يصفه كالآتي: «لها شبه إنسان، ولكل واحد أربعة أوجه ولكل واحد أربعة أجنحة ... أيدى إنسان تحت أجنحتها ... أما شبه وجوهها فوجه إنسان ووجه أسد ... ووجه ثور ... ووجه نسر» (حزقيال 1: 25)، وقد نقشت تماثيل هذه الكائنات الإلهية على جدران المعبد اليهودي، ومع التحول نحو التوحيد (عند إشعيا وأرميا) تحولت الكروبيم إلى الدابة التي يستخدمها الإله في الركوب، فكان لا بد لدابته أن تتميز عن حمير وخيول البشر، بما يليق بمكانته، فأضيف إليها وجه الإنسان، والأجنحة. «ركب على كروب وطار وهف على أجنحة الرياح» (مزامير 18: 10).
وغني عن الذكر أن مثل هذه الكائنات بقي محفورا في الديانتين المسيحية والإسلامية؛ ففي المسيحية تصادفنا «الكروبيم» في حفل أو «بارتي» إلهي تغني قداسا إلهيا (رؤيا يوحنا اللاهوتي 4: 6-11)، أما في الإسلام فقد جاءتنا الدابة الإلهية «كروب» منطوقة «قروب»، ومع ظاهرة القلب المعروفة في اللغات السامية تحولت «كروب»، أو «كراب » إلى «براك»، أو «براق» وهو دابة سماوية بوجه إنسان وجسم مجنح، حملت النبي محمدا
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى القدس في قصة الإسراء المعروفة، كما كان للبراق باسمه العبري «كروب» شأن في كتابات التراث الإسلامية. لكن بعد أن تحولت مع التطور إلى أملاك للإله الواحد، فهي ملائكة له، فأصبحوا سادة الملائكة
22
وباعتبارهم دواب ركوب وحمل، فقد جاءوا كحملة للعرش الإلهي في الإسلام
23
كما كانوا مركبا ليهوه وتابوته من قبل، وقد صادق النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
على بيت من الشعر الجاهلي لأمية بن عبد الله يصف الكروب يقول فيه:
رجل وثور تحت يمنى رجله
والنسر لليسرى وليث ملبد
وجاء تصديق النبي في تعقيبه على هذا البيت بقوله: «صدق أمية في قوله!»
24
ولعل صورة الكروب تلك، لا فرض آخر لظهورها، وتحولها من نسر إلى ثور مجنح، سوى القول إن حزقيال قد تأثر بشدة بالثيران المجنحة المرسومة على جدران بابل، وتماثيلها المتناثرة في أرض بابل، وكانت عند البابليين حيوانات خرافية مهمتها حراسة المواقع الهامة في البلاد، ولا شك أن حزقيال رآها هناك إبان أسر اليهود في بابل.
ونظن أن اليهود قد تمثلوا في هذا الكروب البابلي إلههم «يهوه» في فترة من زمانهم؛ فالوجه الإنساني الوقور يمثل الجانب البشري فيه، والثور يمثل إل رئي، بوصف الثور رمزا للخصب والري، والأجنحة تمثل إل شداي أو الريح، والقرنان رمز للقمر ... إلخ.
ثم إضافة للكروبيم كانت هناك كيانات أخرى مقدسة مثل السرافيم جمع ساراف، ويفسر «موسكاتي» ساراف أنها كانت تعني الحية أو الثعبان.
25
وقد سبق وأقام لها موسى تماثيل مقدسة على راياته عند خروجه من مصر «فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية» (عدد 21: 9)، ولا ننسى عصا موسى التي كانت تنقلب إلى حية، كما لا ننسى خروج موسى ورجاله من مصر القديمة حيث كانت الحية رمزا مقدسا يوضع على تيجان الفراعنة، وأن السرافيم لم تعرف في تاريخ الديانة اليهودية قبل الخروج من مصر، ويبدو أن عبادة الحية وما يلزمه طقسها من إيقاد نار مستمرة أمامها للتبخير وتقديم قرابين البخور، قد استمر قائما في أفق الديانة اليهودية دون أن يغضب «يهوه» أو ينزعج وهو ما تؤكده التوراة في قولها: «حية النحاس التي عملها موسى لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها» (ملوك ثاني 18: 4)، هذا بينما كان «يهوه» يتفجر غضبا إذا عبدوا بعلا آخر لأنها بعول غريبة، مثل بعل بني مؤآب كموس أو جاموس أما هو فالبعل الوحيد لليهود، لذلك كان يطالبهم بالإخلاص القبلي له دون بقية البعول، وفعلا نظر اليهود إلى بعلهم بحسبانه بعلا إسرائيليا فحسب، أحق بعبادة اليهود من البعول الأخرى، ولم ينكروا في الوقت ذاته وجود بعول أخرى، كما لم ينكر «يهوه» ذلك، لكن إنكار الأتقياء منهم كان إنكارا لسيادة رب غريب عليهم. ومن هنا دانوا ليهوه وحده بالولاء؛ فالتوراة لا تميز ربها باعتباره رب الجميع الأوحد، إنما رب إلى جوار أرباب الشعوب الأخرى، لكنه الوحيد من بينها الجدير بولاء اليهود. انظر مثلا:
من مثلك بين الآلهة يا رب. (خروج 15: 11)
الآن علمت أن الرب أعظم من جميع الآلهة. (خروج 18: 11)
من يشبه الرب بين أبناء الله؟ إله موهوب جدا في مؤامرة القديسين، ومخوف عند جميع الذين حوله، يا رب إله الجنود، من مثلك قوي يا رب؟ (مزامير 89: 6-8)
لكن التطور التالي الذي لحق بعبادة البعل الملك يهوه، ليتحول به من إله قبلي إلى عالمي، يطلب السيادة على القبائل والشعوب الأخرى، فقد جاء مترافقا مع ظروف عالمية وتغيرات جدت بعد السبي في الرافدين، وقام بهذه المهمة بكفاءة عالية عدد من الأنبياء، أشهرهم «دانيال وأشعيا»، اللذين كانا على علاقة سرية وخاصة بالدولة الفارسية الطالعة الطموحة، وبعلها «كورش»، حتى اتهم أشعيا - بسبب هذه العلاقة - بالجاسوسية لحساب الفرس، رغم وضوح أنه كان يعمل بإخلاص لفك أسر اليهود على يد قورش، ولو مع بعض التنازلات الدينية التي لا بأس بها إزاء الغرض الأكبر. وكانت هذه التنازلات هي سبب هجوم اليهود عليه واتهامه بالعمالة. وقد استطاع أشعيا وصحبه أن يفتحوا أبواب بابل للفرس، وبعد سقوط هذه القوة الكبرى تمكن قورش من الزحف قدما ليكون أكبر إمبراطورية ظهرت في الشرق حتى عهده. وباعتبار اليهود قطعة من هذا الملك الواسع، فقد تصرف الأنبياء وفق الوضع الجديد، واستغلوه سياسيا ودينيا بذكاء، فحولوا إلههم المحلي إلى إله عالمي، ولم يترددوا عن التجاسر بالقول إنه هو إله قورش؛ ومن ثم إله الإمبراطورية، بل وسجلوا ذلك في توراتهم، وادعوا أن قورش كان يعمل بنصح «يهوه» وإرشاده حتى بلغ بهم الأمر مبلغا كبيرا فقالوا إن قورش هو مسيح «يهوه» المنتظر، ومخلص اليهود الذي طالما ترقبوا ظهوره ليعيدهم إلى أرضهم ليبنوا دولتهم من جديد، هذا رغم أن قورش كان رجلا مؤمنا بديانته الزرادشتية، مخلصا لها تماما، لكنه لم يجد بأسا ولا حرجا في قليل من المجاملة لجواسيسه الخلص فتغاضى عما كان يعلنه اليهود عنه وعن الرب يهوه، ما دام الأمر لم يتجاوز النطاق الديني أو نطاقهم هم الديني بتعبير أدق. وزاد قورش في المجاملة فأطلق سراحهم من الأسر، وساعدهم في إقامة هيكلهم مرة أخرى، ثم تزوج واحدة منهم «إستير» وجعلها ملكة على بابل.
وكان لتبادل هذه المجاملات والسماحات بين العاهل الفارسي العظيم وبين اليهود، دوره الفاعل في تحول «يهوه» من إله قبلي محلي إلى إله عالمي ...
وسبق ذلك عدة محاولات سريعة لتخليص «يهوه» من ارتباطه بمولك الثور ومن السرافيم «الحيات» والكروبيم «الثيران الطائرة»، فقام عدد من الأنبياء بهذه المهمة بجرأة شديدة ليعلنوا كفرهم بالإله الثور، والتنديد به والتطاول عليه، فهذا يجهر قائلا: «قد زنخ عجلك يا سامرة» (هوشع 8: 5)، وذاك الملك حزقيا بن أحاز يتبع الدعوة الجديدة، فتسجل التوراة عنه، أنه «هو أزال المرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى، لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها» (ملوك ثاني 18: 4).
ولذلك «أمر الملك حلقيا الكاهن العظيم، وكهنة الفرقة الثانية، وحراس الباب أن يخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل (إقرار واضح بصدق فرضنا)، وللسارية ولكل أجناد السماء، وأحرقها خارج أورشليم، في حقول قدرون، وحمل رمادها إلى بيت إيل ... وذبح جميع كهنة المرتفعات ... وكذلك السحرة والعرافون والترافيم والأصنام، وجميع الرجاسات» (ملوك ثاني 23: 4-24).
ومن ثم جاز ليهوه بعد ذلك أن يزهو بذاته الوحيدة، فيقول على لسان أشعيا:
أنا الرب وليس آخر، لا إله سواي ... أنا الرب وليس آخر، مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام. (أشعيا 45: 5-7)
أنا الأول وأنا الآخر، ولا إله غيري وكل شيء أنا أعلم به ... أنا الرب صانع كل شيء، ناشر السماوات وحدي، باسط الأرض، من معي؟ (أشعيا 44: 6-24)
الجالس على كرة الأرض ... الذي ينشر السماوات كسرادق، ويبسطها كخيمة للسكن، الذي يجعل العظماء لا شيء (أهل بابل)، ويصير قضاة الأرض كالباطل ... فبمن تشبهونني فأساويه؟ (أشعيا 40: 22-25)
هكذا تكفل أشعيا بإشاعة أن يهوه قورش وناصره، ومن ثم هو إله الإمبراطورية والعالم، ولم يعترض قورش المجامل على جواسيسه الذين كانوا ينقلون له أخبار بابل ومختلف الشعوب أولا بأول بوفاء جلي.
أما دانيال النبي فقد تكفل بمهمة أخرى، فقام يرد تحية قورش بأحسن منها، فأدخل إلى اليهودية عقيدة جديدة لم تكن فيها أبدا من قبل، أخذها عن ديانة كورش «الزرادشتية» ليكون هذا المزج الديني كفيلا بتحقيق الأهداف المرجوة؛ فقد ظل اليهود طوال عصورهم يعتقدون أن الموتى جميعا يرحلون إلى العالم التحت أرضي، صالحهم وطالحهم، ذلك العالم الذي أسمته التوراة «الهاوية» و«شيول» وأكدت التوراة هذا المعنى، فهي تقول: «من جهة أمور بني البشر، إن الله يمتحنهم ليريهم أنه كما البهيمة هكذا هم ... موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكل.» (جامعة 3: 18-19)
وكان أعظم عقاب رباني يلحق بإنسان، هو أن يموت، حتى أن الله ذاته كثيرا ما كان يلجأ إلى هذا السلاح السريع المفعول لإنزال عقابه على العصاة، فيميتهم ليذهبوا إلى عالم تحت الأرض «الهاوية»، أما الإنسان المخلص ليهوه، فكان يهوه يزيد في سني عمره وفي حياته الدنيوية الأرضية.
فالتوراة تحكي: «وكان عير بكر يهوذا شريرا في عيني الرب، فأماته الرب» (تكوين 38: 7). وهذا «أونان ... أفسد على الأرض ... فقبح في عيني الرب ما فعله، فأماته أيضا» (تكوين 38: 9، 10). وذاك الملك التقي الورع «حزقيا» يخبر النبي أشعيا بقرب موعد موته ، ويرجوه أن يتوسط له لدى الرب يهوه، وأن يذكر «يهوه» بأفضاله عليه، فينقل أشعيا الرسالة ليهوه، ويتلقى الرد «اذهب وقل لحزقيا هكذا يقول الرب إله داوود أبيك قد سمعت صلاتك، قد رأيت دموعك وها أنا ذا أضيف إلى أيامك خمس عشرة سنة» (أشعيا 38: 6).
لذلك فإن «مخافة الرب تزيد الأيام، أما سنو الأشرار فتقصر» (أمثال 10: 27)، لأن شيول تساوي بين الجميع، «هذا يموت في معظم وفرة وقد عمته الدعة والطمأنينة وذاك يموت في مرارة ونفسه لم تذق طيبا، وكلاهما يضطجعان في التراب، فيكسوهما الدود، فمن الذي يبين طريقه، ومن يكافئه على ما صنع؟» (أيوب 21: 31).
لذلك كانت التوراة تؤكد أن الموتى «يضطجعون معا لا يقومون، قد خمدوا كفتيلة انطفئوا» (أشعيا 43: 17)، «يناموا نوما أبديا ولا يستيقظوا» (أرميا 51: 39). بل يبدو لنا في التوراة أن العالم التحت أرضي خارج عن سلطان «يهوه» وسيطرته، فهذا يرجو ربه ألا يميته قائلا: «عد يا رب، نج نفسي، خلصني من أجل رحمتك، لأنه ليس في الموت ذكرك، في الهاوية من يحمدك؟ ... هل يحدث في القبر برحمتك؟ أو بحقك في الهلاك؟ هل تعرف في الظلمة عجائبك؟ وبرك في أرض النسيان؟» (مزامير 6).
حتى الأنبياء ذاتهم، عندما كانوا يتسببون في إشعال غضب «يهوه» لا يجد لهم دواء سوى القتل، وهو ما نراه في موت النبي موسى وأخيه هارون «وكلم الرب موسى في نفس ذلك اليوم قائلا: اصعد إلى جبل عباريم، هذا ... ومت في الجبل الذي تصعد إليه ... كما مات هارون أخوك ... لأنكما خنتماني» (تثنية 32: 48-51).
بل إن كبار الأنبياء كانوا يعلمون مصيرهم بعد الموت، وأنه هاوية تحت الأرض، فها هو يعقوب ينوح حزينا على موت ولده يوسف، بعد أن خدعه أبناؤه وقالوا له: لقد أكله الذئب، فيقول: «إني أنزل إلى ابني نائحا في الهاوية» (تكوين 37: 35).
ولكن هل كان دانيال يعرف أن «كورش» سيرضى بهذا المصير ولديه في الديانة الزرادشتية نعيم مقيم بعد الموت في مكان سماوي يدعى «باراديس» أو «الفردوس»؟ هنا كانت مهمة دانيال الذكي، فقام يحول شيول إلى عالم خالد، من أجل عيون قورش، ذلك الذي أصبح مسيحا للرب ويستحق مصيرا أفضل، وبالطبع قبل قورش الهدية ممتنا شاكرا، فظهر في التوراة سيرا على منطق الديانة الزرادشتية ولأول مرة، حديث حول قيامة الأموات:
وكثير من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار، إلى الازدراء الأبدي، استيقظوا وترنموا يا سكان التراب، هلم يا شعبي ادخل مخادعك. (أشعيا 26: 19)
وأضع روحي فيكم فتحيون، وأضع في أرضكم فتعلمون أنني أنا الرب، تكلمت وفعلت. (حزقيال 37: 1-4)
ومع ذلك، فقد كان عامة الشعب يعلمون أن ذلك ليس في أصل دينهم وأن المسألة لعبة سياسة، فعاملوا هذه الأفكار الجديدة بحسبانها غشا وتدليسا ودسا على يهوه، لذلك ظلت مثل هذه الأفكار موضع تحفظ من غالبية اليهود، وكانت محل رفض واستنكار من المتزمتين التقليديين، حتى مجيء المسيح، الذي كان تأكيده على فكرة البعث والحساب، من أهم حيثيات الحكم عليه بالكفران بدين يهوه، ومن ثم استحقاقه حكم الإعدام صلبا.
سفر التكوين التوراتي
لنتذكر الآن أن المدارس البحثية في التوراة تكاد تجمع على أن سفر التكوين أول أسفار الكتاب المقدس، يعد من بين أحدث الأسفار وليس أقدمها، وأنه دون حوالي القرن الثالث قبل الميلاد، أو قبله بقليل، أي بعد العودة من الأسر في بلاد الرافدين.
وأول ما تطالعنا به التوراة، في أول أسفارها «التكوين»، وفي أول صفحات هذا السفر وفي الإصحاحات الثلاثة الأولى، تطلع بقولها:
في البدء خلق الله السموات والأرض.
وكانت الأرض خربة وخالية.
وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه.
وقال الله: ليكن نور، فكان نور، ورأى الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارا، والظلمة دعاها ليلا، وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا.
وقال الله: ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد، والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك ودعا الله الجلد سماء وكان مساء وكان صباح، يوما ثانيا.
وقال الله لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة ... ودعا الله اليابسة أرضا، ومجتمع المياه دعاه بحارا، ورأى الله ذلك أنه حسن.
وقال الله: لتنبت الأرض عشبا وبقلا، يبزر بزرا وشجرا ذا ثمر، يعمل ثمرا كجنسه بذره فيه على الأرض، وكان كذلك، فأخرجت الأرض عشبا وبقلا، يبزر بزرا كجنسه، وشجرا يعمل ثمرا بزره فيه كجنسه ورأى الله ذلك أنه حسن، وكان مساء، وكان صباح يوما ثالثا.
وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء، لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين، وتكون أنوارا في جلد السماء، لتنير الأرض، وكان كذلك. فعمل الله النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل، والنجوم، وجعلها الله في جلد السماء، لتنير على الأرض، ولتحكم على النهار والليل، ولتفصل بين النور والظلمة، ورأى الله ذلك أنه حسن، وكان مساء، وكان صباح، يوما رابعا.
وقال الله: لتفض المياه زحافات ذات نفس حية، وليطير طير فوق الأرض، على وجه جلد السماء، فخلق الله التنانين العظام، وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة، التي فاضت بها المياه كأجناسها، وكل طائر ذي جناح كجنسه، ورأى الله ذلك أنه حسن، وباركها الله قائلا: أثمري وأكثري واملئي المياه في البحار، وليكثر الطير على الأرض، وكان مساء، وكان صباح يوما خامسا.
وقال الله: لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها، بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها ... فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها، والبهائم كأجناسها، وجميع دبابات الأرض كأجناسها، ورأى الله ذلك أنه حسن، وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء، وعلى البهائم، وعلى الأرض، وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكرا وأنثى خلقهم، وباركهم الله، وقال لهم: أثمروا وأكثروا واملئوا الأرض ... (بينما بداية الإصحاح الخامس تقول: يوم خلق الله الإنسان، على شبه الله عمله، ذكرا وأنثى خلقه وباركه، ودعا اسمه آدم يوم خلقه) ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدا، وكان مساء، وكان صباح، يوما سادسا.
فأكملت السموات والأرض وكل جندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل، وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقا.
هذه مبادئ السموات والأرض حين خلقت يوم عمل الرب الإله الأرض والسموات، كل شجر البرية لم يكن بعد في الأرض، وكل عشب البرية لم ينبت بعد، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض، ولا كان إنسان ليعمل في الأرض، ثم كان ضباب يطلع من الأرض ويسقي كل وجه الأرض، وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفسا حية.
وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله، وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهية للنظر، وجيدة للأكل، وشجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر.
وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة، ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس، اسم الواحد فيشون وهو المحيط بجميع أرض الحويلة، حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد هناك المقل، وحجر الجزع، واسم النهر الثاني جيحون، وهو المحيط بجميع أرض كوش، واسم النهر الثالث حداقل وهو الجاري شرقي آشور، والنهر الرابع الفرات.
وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن، ليعملها ويحفظها، وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت، وقال الرب الإله: ليس جيدا أن يكون آدم وحده فأصنع له معينا نظيره، وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية، وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء، وجميع حيوانات البرية، وأما لنفسه فلم يجد معينا نظيره.
فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه، وملأ مكانها لحما، وبني الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة، وأحضرها إلى آدم، فقال آدم : هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمي. هذه تدعى امرأة لأنها من امرئ أخذت، لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكونان جسدا واحدا، وكان كلاهما عريانين، آدم وامرأته وهما لا يخجلان.
وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية، التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة: أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمرة الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه، لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله، عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت، وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانين، فخاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر.
وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة، عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله، في وسط شجر الجنة، فنادي الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان، فاختبأت فقال: من أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك ألا تأكل منها؟ فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة فأكلت؟ فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت، فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه. وقال للمرأة: تكثيرا أكثر أتعاب حبلك بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك، وقال لآدم: لأنك سمعت لقول امرأتك، وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها ، ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تنبت لك، وتأكل الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزا حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلي تراب تعود.
ودعا آدم اسم امرأته حواء، لأنها أم كل حي، وصنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما.
وقال الرب الإله، هو ذا الإنسان، قد صار كواحد منا، عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا، ويأكل ويحيا إلى الأبد ... فطرد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم، ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة.
من البين في هذه القصة التوراتية بشأن التكوين، أن هناك روايتين أصليتين تم دمجهما في قصة واحدة، وتشير إلى ذلك دلائل شاهدة:
مرة يقوم بفعل من أفعال الخلق من سمي «الله»، وهو في الأصل العبري «يهوه» كما في النص «في البدء خلق الله» و«قال الله»، ومرة يقوم بأفعال أخرى للخلق زعيم المجمع الإلهي «إلوهيم»، الذي ميزناه باسم «الرب الإله»، وصيغة حديث الرب الإله تشير بوضوح سافر إلى تشاوره المستمر مع أعضاء هذا المجمع «إلوهيم»، كاستشارته لأعضائه «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا.» أو كما في إعلامه المجموعة الإلهية بالخبر المفزع الذي أثار القلق الشديد لدي الرب الإله «هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر.» وإن هذا الكائن الجديد ربما تطاول وأخذ من شحرة الحياة الخالدة، فيصبح خالدا مثلهم.
في موضع يقوم الإله الخالق بصنع السماء والأرض دفعة واحدة «في البدء خلق الله السماوات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية.» بينما في موضع آخر تكون السماء والأرض موجودتين أصلا كيم ماء أزلي، يفتقه الله عن بعضه إلى سماء وأرض.
في مشهد يقوم من لقب ب «الله» أو يهوه بإنبات النبات في الأرض، ويضع فيها حيوانها ودباباتها، بينما في مشهد آخر نجد برية بلا عشب يقوم الرب الإله فيها بخلق آدم، ثم فجأة يضعه في مكان أرضي يسمي الجنة ليزرعها ويفلحها ويعملها ويحفظها، وفيه نباتات مختلفة، أهمها شجرتان؛ شجرة المعرفة، وشجرة الحياة. وواضح أن هذا المكان كان موطنا تعيش فيه مجموعة الآلهة «إلوهيم» مع كبيرها «الرب الإله» فقط، بدليل خشية الرب الإله أن يتجرأ مخلوقه «آدم» ويأكل من شجرة الخلد الخاصة بالآلهة الخالدة وحدها، خاصة بعدما تجرأ على الأكل من شجرة المعرفة، مما جعله يصبح كالآلهة يميز بين الخير والشر.
هذا مع تناقض واضح يشير إلى هذا الانفصال الأكيد لروايتين مختلفتين من الأصل، تم مزجهما معا، فنفهم في أحد مواضع قصة التكوين أن آدم عندما وضع في مقر إلهه الخالد، لم يكن محرما عليه أكل ثمرة الخلد أساسا، بينما نفهم من موضع آخر أنه كان مخلوقا للفناء «حتى تعود إلى الأرض، التي أخذت منها، لأنك تراب، وإلى تراب تعود.»
ثم تضارب آخر، فلدينا رواية تؤكد أن عملية الخلق بدأت بخلق السماوات والأرض دفعة واحدة، فتقول الرواية: «إن الله قال: ليكن نور فخلق النهار والليل.» بينما الرواية التي تتحدث عن السماء والأرض كموجود واحد أصلي في هيئة غمر أزلي مظلم، ترجئ إيصال الإنارة إلى ما بعد فتق هذا المحيط إلى سماء وأرض.
ثم يظهر تضارب آخر بين القصتين، في كنه عملية الخلق ذاتها فالله يتخذ كل مرة قرارا للخلق بالكلمة فقط، لكنه في كل مرة كان يتبع كلمته الخالقة بعمل يدوي من صنع يديه لإيجاد الشيء المراد خلقه: «وقال الله ليكن جلد ... فعمل الله الجلد، وقال الله لتكن أنوار ... فعمل الله النورين العظيمين ... إلخ.»
أما أبرز الشواهد على مزج روايتين مختلفتين في التكوين التوراتي فهو الكيفية التي تم بها خلق الإنسان الأول، ففي مواضع القصة نجد الخالق يخلق الإنسان دفعة واحدة، ككائن واحد، يجمع في ذاته الواحدة الذكورة مع الأنوثة «ذكرا وأنثي خلقه وباركه، ودعا اسمه آدم.» ثم يفصل عنه العنصر الأنثوي من خلال المرأة الضلع أو الضلع المرأة، بينما نجد في موضع آخر إشارة مختلفة تماما، تقول «على صورة الله خلقه ذكرا وأنثي خلقهم.» فهنا شخصان منفصلان متمايزان عن بعضهما تماما من الأصل.
ولا مجال هنا لتفسير ذلك، سوي ما أسلفناه حول طبيعة التأليه اليهودي، الذي اتخذ طورين أساسيين، أو ما أسميناهما: طور التأليه الإلوهيمي في العصر الإبراهيمي وربما قبل إبراهيم بزمان طويل، واعتمد ثالوثا يرأسه الرب الإله؛ وطور التأليه اليهودي في العصر الموسوي وما تلاه، واعتمد مجموعة بعول أو ثيران تتسم بالصفات البركانية، مع التأثيرات التي لا شك دخلت هذا السفر إبان وجود اليهود أسرى في بلاد الرافدين، حيث كان الجو الديني يعبق بسفري التكوين السومري والبابلي، وهو ما نجده واضحا في المقارنة التالية: (1)
يقول التكوين السومري: في البدء لم يكن في الوجود سوي محيط بدئي مظلم، وهذا الغمر كان هو «نمو»، وقام الإله الهواء الريح «آنليل» بالفصل في هذه المياه بين سماء وأرض.
ويقول التكوين البابلي: في البدء كان غمر مظلم أنثي هي «تيامت»، شقها «مردوخ» كما تشق الصدفة إلى قسمين: سماء وأرض.
ويقول التكوين التوراتي: في البدء خلق الله السماوات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن جلد في وسط المياه، وليكن فاصلا بين مياه ومياه، فعمل الله الجلد، وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد، وكان كذلك، ودعا الله الجلد سماء. (2)
يقول التكوين البابلي: إن «مردوخ» أظهر اليابسة على الماء بأنه على سطح الماء ضفر حصيرا، وصنع شيئا من التراب، وخلطه مع الحصير وهذا كون لوحا صلبا فوق المياه، وهو الأرض.
ويقول التكوين التوراتي: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد، ولتظهر اليابسة، وكان كذلك، ودعا الله اليابسة أرضا. (3)
ويقول التكوين السومري: إن آنليل شاء إزالة الظلمة من على الغمر، (فأظهر للعيان) بالنورين العظيمين، الشمس والقمر.
ويقول التكوين البابلي: إن «مردوخ» سلط القمر على الليل، جعله زينة في الليل، به يعرف الناس مواعيد الأيام، كذلك جعل الشمس للنهار.
ويقول التكوين التوراتي: وقال الله ليكن نور، فكان نور، ورأى الله النور أنه حسن، وفصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا. وقال الله لتكن أنوار في جلد السماء، لتفصل بين النهار والليل، وتكون لآيات وأوقات وأيام وسنين. لتنير على الأرض ... فعمل الله النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار، والنور الأصغر لحكم الليل. (4)
يقول التكوين السومري: قامت إلهة أنثى بعجن طين، خلقت منه الإنسان الأول، بعد أن عجنت بسائل الخصب «آبسو وآنكي» المني المقدس، وأن الإنكي أو الإنسي عصى أوامر إلهية، فأكل ثمارا محرمة، أصيب بسببها بمرض في واحد من ضلوعه، حتى أشرف على الهلاك، «لن أنظر إليك بعين الحياة حتى تموت.» ولم ينقذه إلا استخراج ضلعه المريضة، لتصنع منها زوجة له، هي «نن تي» أو «ننتو» سيدة الضلع، وتعني أيضا سيدة الحياة أو التي تحيي أو الوالدة، فالإنسان بذلك خلق ذكرا وأنثى معا في ذات واحدة، ثم فصلا بعد ذلك.
يقول التكوين التوراتي: «يوم خلق الله الإنسان، على شبه الله عمله ذكرا وأنثى خلقه، وباركه، ودعا اسمه آدم يوم خلق ... وقال الرب الإله ليس جيدا أن يكون آدم وحده ... فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما، وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة ... ودعا آدم اسم امرأته حواء؛ لأنها أم كل حي.» ثم يقول إن حواء الحية (وهي من حوى، وحياة، وحيا أي فرج)، وقد خدعت زوجها (إليه اشتياقها) فأكل معها من ثمرة المعرفة المحرمة، وأول ما عرفاه - وهنا الغريب - أنهما عريانان؟ وهو الفعل الجنسي إذن! وهو ما ذهبنا إليه عند معالجتنا سفر التكوين السومري. (5)
يقول التكوين البابلي: إن الدم هو سر النفس أو الحياة، لذلك كان لا بد كي يوجد الإنسان حيا، أن تخلط النفس الحياة مع الطين، وكان الدم عند الأقدمين هو سر الحياة، عندما كانوا يرون المرأة المتميزة بالقدرة على الولادة تتميز بدورها بالدم الشهري، وأن هذا الدم ينقطع عند الحمل فتصوروا أنه يظل في الداخل ليعطي المولود حياته، وحتى يسلب التكوين البابلي المرأة هذا الحق البيولوجي، وينسبه للرجل قاموا بذبح «كنجو» ليخلطوا دمه بالطين، ويخلقوا الإنسان.
وفي التشريع التحريمي تقول التوراة: لكن احترز ألا تأكل اللحم، لأن الدم هو النفس، فلا تأكل النفس مع الدم (تثنية 21: 23). (6)
في الختم (المفترض أنه سومري حسب تصنيف الآثاريين) رأينا الحية توعز للأنثى الأولى بأكل ثمار التمر (ولا تنس الثمر المحرم الذي أكله آنكي) فتدعو زوجها لأكله، مما يؤدي إلى انتهاء الخلود الفردي وبداية خلود النوع بالتناسل، بخروج إنكى أو إنسي وزوجته «نن تى»، من أرض الخلود دلمون، وكان الخلود يتمثل في نبتة لو أكلها الفاني خلد. وفي ملحمة جلجامش علمنا أن هذه النبتة لا تنمو إلا في أرض الخلود «دلمون» مقر الآلهة الخالدة.
ويقول التكوين التوراتي: وغرس الرب الإله جنة في عدن شرقا، ووضع هناك آدم الذي جبله ... وشجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر ... وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت (ثم خلق له حواء كما شهدنا)، وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله ... فقالت الحية للمرأة: لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تتفتح أعينكما، وتكونان كالله عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل ... فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين صنعا لأنفسهما مآزر ... وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا للأبد ... فطرد الإنسان، وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة (ولنلحظ أن شجرة الخلد لم تكن محرمة أصلا، ولكن أكل آدم من شجرة المعرفة نبه الرب الإله إلى أنه غفل عن أمر شجرة الحياة، مما اضطره إلى طرد المخلوق البشري من موطن هذه الشجرة، حتى لا يخلد كالآلهة). (7)
والغرض من خلق الإنسان في التكوين السومري والتكوين البابلي، هو أن يحمل الإنسان عناء عمل الآلهة، بأن يزرع الأرض ويعمل فيها ليحفظها.
وفي التكوين التوراتي أخذ الرب الإله آدم، ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها. (8)
وفي التكوين البابلي: كان مفترضا أن تتم عملية الخلق بالكلمة الخالقة للإله مردوخ، ومع ذلك كان الخلق يتم دائما بالصنعة اليدوية.
وفي التكوين التوراتي: كان الإله ينطق الكلمة الخالقة (ويبدو أنه كان لا يحدث شيء بالمرة عند نطقها)، لذلك كان الإله يضطر دائما إلى صناعة الشيء المراد خلقه بالعمل اليدوي.
وفي التكوين السومري، وبعد عناء عملية الخلق، جلست الآلهة لتستريح, وفي التكوين البابلي، استوى مردوخ على عرشه، أما في التكوين التوراتي، عندما «فرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، استراح في اليوم السابع.»
أحد ثيران بابل المجنحة برأس إنسان وأجنحة نسر وقوائم وجسد ثور، وفي مجمله يوحي بمشهد الأسد أو كما أسماه حزقيال «كروب أو قراب» أو كما أسمته الروايات الإسلامية «البراق».
المصادر العربية والمراجع (المترجمة)
الكتب الموسوعية
(1)
القرآن الكريم. (2)
الكتاب المقدس. (3)
موسوعة تاريخ العالم (وليم لانجر وآخرون)، أشرف على لجنة المترجمين د. محمد مصطفي زيادة، مكتبة النهضة المصرية، د.ت. *** (4)
الأصفهاني: الأغاني، بولاق، القاهرة، 1285ه. (5)
برستد (جيمس هنري): انتصار الحضارة، ترجمة د. أحمد فخري، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د.ت. (6)
بكر (د. يعقوب السيد): هوامش مطولة وشروح وافية على ترجمته لكتاب موسكاتي (الحضارات السامية القديمة)، دار الكتاب العربي للطباعة، القاهرة، 1957م. (7)
بوتيرو(جان): الديانة عند البابليين، ترجمة وليد الجادر، نشر جامعة بغداد، 1970م. (8)
تشايلد (جوردن): التطور الاجتماعي، ترجمة لطفي فهيم، مؤسسة كل العرب، القاهرة، 1966م. (9)
التكريتي (سلمان): أساطير بابلية، مطبعة النعمان، النجف العراقي، 1972م. (10)
حسن (د. حسن إبراهيم): تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، مكتبة النهضة المصرية، ط7، القاهرة، 1964م. (11)
حنفي (د. حسن): هوامشه على ترجمته لكتاب إسبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة، مراجعة د. فؤاد زكريا، دار الطليعة بيروت، ط2، 1981م. (12)
دولابورت (ك): بلاد ما بين النهرين، حضارة بابل الجديدة وآشور، ترجمة مارون الخوري، دار الروائع، بيروت. (13)
ديورانت (ول): قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، الإدارة الثقافية بالجامعة العربية، ط3، 1961م. (14)
رشيد (د. فوزي ): خلق الإنسان في الملاحم السومرية والبابلية، آفاق عربية، بغداد، أيار 1987م. (15)
رشيد (د. فوزي): الديانة، المعتقدات (ضمن مجموعة مجلدات تاريخ العراق بالاشتراك مع آخرين)، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1985م، جد. (16)
زايد (د. عبد الحميد): الشرق الخالد، دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت. (17)
الزمخشري: الفائق، طبعة محمد أبو الفضل وعلي البجاوي، ج2، القاهرة، 1947م. (18)
ساندرس (ن. ك): ملحمة جلجامش، ترجمة نبيل نوفل وفاروق حافظ، دار المعارف، القاهرة، 1970م. (19)
السواح (فراس): مغامرة العقل الأولى، دار الكلمة، بيروت، 1980م. (20)
سوسة (د. أحمد): العرب واليهود في التاريخ، دار العربي للإعلان والطباعة والنشر، ط2، دمشق، د.ت. (21)
شلبي (د. أحمد): مقارنة الأديان، اليهودية، مكتبة النهضة المصرية، ط5، 1978م. (22)
الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، نشر مصطفي البابي الحلبي، القاهرة، 1961م. (23)
صالح (د. عبد العزيز): الشرق الأدنى القديم، مصر والعراق، الهيئة المصرية العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1967م. (24)
ظاظا (د. حسن): الساميون ولغاتهم، مطبعة المصري، الإسكندرية، 1971م. (25)
العقاد (عباس محمود): الله، كتاب الهلال، القاهرة، سبتمبر، 1942م. (26)
العلوجي (عبد الحميد): شخصية نبوخذ نصر الثاني، دار الحرية للطباعة، بغداد، 1982م. (27)
على (د. فاضل عبد الواحد): عشتار ومأساة تموز، وزارة الإعلام العراقية، 1973م. (28)
علي (د. فؤاد حسنين) (مترجم): كتاب الديانة العربية القديمة، بالاشتراك مع مجموعة علماء في مجموعة أبحاث بعنوان: التاريخ العربي القديم، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958م. (29)
على (د. جواد): المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، مطبوعات المجمع العلمي العراقي. (30)
غود ولييه (موريس): ضمن كتاب «حول نمط الإنتاج الآسيوي»، مع جان سوريه وآخرين، ترجمة جورج طرابيشي، دار الحقيقة، بيروت، 1972م. (31)
فريحة (د. أنيس): دراسات في التاريخ، دار النهار، بيروت، 1980م. (32)
فريحة (د. أنيس): ملاحم وأساطير من الأدب السامي، دار النهار، بيروت، ط2، 1979م. (33)
القزويني: عجائب المخلوقات، جونتجن، 1849م. (34)
القمني (سيد): إلهة الجنس أو الزهرة، آفاق عربية، بغداد، العدد 9، 1982م. (35)
القمني (سيد): «الأضاحي والقرابين: الجذور الاجتماعية»، فكر للدراسات والأبحاث، دار الفكر للطباعة والنشر، القاهرة، عدد 11. (36)
القمني (سيد): القمر الأب أو الضلع الأكبر في الثالوث، الكرمل، نيقوسيا، عدد 26. (37)
القمني (سيد): من الطوفان السومري إلى الطوفان النوحي، آفاق عربية، بغداد، العدد 9، 1983م. (38)
كارلوفسكي (س. لامبرج): دلمون مدخل إلى الخلود، ترجمة كامل مصطفي اللحام، الثقافة العالمية، وزارة لإعلام الكويتية، مارس 1983م. (39)
كريمر (صموائيل نوح): الأساطير السومرية، ترجمة يوسف داوود عبد القادر، مطبعة المعارف، بغداد، 1971م. (40)
كريمر (صموئيل نوح): السومريون، تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم، ترجمة د. فيصل الوائلي، وكالة المطبوعات، الكويت، د.ت . (41)
كريمر (صموئيل نوح): من ألواح سومر، ترجمة طه باقر، مؤسسة الخانجي، القاهرة، 1971م. (42)
لسنر (د. إيفار): الماضي الحي، حضارة تمتد سبعة آلاف عام، ترجمة شاكر إبراهيم سعيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1981م. (43)
لويد (سيتون): آثار بلاد الرافدين، ترجمة د. سامي سعيد الأحمد، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1980م. (44)
ميخائيل (د. نجيب): مصر والشرق الأدنى القديم، حضارة العراق القديم، ج6، دار المعارف، القاهرة، 1961م. (45)
هومل (فرتز): التاريخ العام لبلاد العرب الجنوبية، بالاشتراك مع مجموعة من العلماء في مجموعة أبحاث بعنوان: التاريخ العربي القديم، ترجمة د. فؤاد حسنين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1958م.
المصادر الأجنبية
(1)
Chesneaux (jean): In center d’Etudes et de Recherches Marxistes (C.E.R.M) Sur Le “Mode de production a siatique Editions Sociales, Paris, 1969. (2)
Frankfort (Henri): La Royautu et les dieax, paiot, paris, 1951, the Birth of Civilisation in the Near Eest. (3)
Frankfort (Henri): Wiliams and Norgate limted, Great Britain, 1951. (4)
Lods (A): Israel from Its beginings to the middle, of the Eight century, london, 1973. (5)
Smith: God and Man in early Israel. (6)
Stade (B): Lehrbuch der hebraischen grammtik, Libzig, 1979. (7)
Wallhausen (J): Die biblischen Atertu mer. (8)
History of the Worls, the Outline of History, vol 4.
Shafi da ba'a sani ba