كتب «الدوق داركو» كتابا هجا فيه المصريين وأنحى على دينهم، وسفه أحلامهم وقبح عاداتهم وأخلاقهم، فانبرى له قاسم، ووضع كتابا باللغة الفرنسية مكينا في معناه، ساحرا في أسلوبه، قويا في تركيبه، دفع فيه عن الدين الإسلامي التهم التي هو براء منها، وقارن بين حال المسلمة وحقوقها في الإسلام وبين حال المرأة الأوربية المتمدنة، فكان لهذا الكتاب صدى في عالم الكتابة الأوربية.
وقابلت قاسم أمين بعد وفاة المرحوم مصطفى كامل باشا فقال: «ما أنت وهذه الحركة القائمة؟» قلت: «على ما قد قرأت.» قال: «إنهم يقولون إنك بالغت في وصف الروح الوطنية، وإنك تعلق عليها آمالا، وقد لا تكون صادقة.» قلت: «والله ما اخترعت، ولا بالغت فيما كتبت، ولكني رأيت رأي العين شعور التضامن يتجلى أمامي على رءوس الناس في الشوارع والطرقات، فما فعلت شيئا أكثر من أني أرسلت الألفاظ لتلبس هذا المعنى الطاهر وسطرتها على صفحات «الجريدة»، وهل أنت تقول: إني بالغت مع القائلين؟»
فانبرى يقول: «إني أتهمك بالتقصير في وصف هذه الحال الشريفة، ولو كنت أخفف عليك في الحكم، لقلت: إنك في نظري أميل إلى التقصير في هذا الموضوع منك إلى الغلو والإغراق، إن هذا الشعور الوطني الشريف، هذا المولود الحديث الولادة الذي خرج من دم الأمة وأعصابها، هذا هو الرجاء في المستقبل، هذا هو الذي يجب عليكم جميعا أن تباركوا عليه وتتعهدوه حتى يصير شابا، هناك تنالون الاستقلال.»
أحمد عرابي باشا
في سنة 1911 توفي أحمد عرابي باشا قائد الثورة العرابية التي نشبت سنة 1882، أيام كنت صبيا في العاشرة من عمري، ولما كان - غفر الله له - من نوابغ المصريين وقد لعب دورا مهما في تاريخ مصر، أود أن أسجل رأيي فيه في هذه المذكرات:
لقد كان مستقبل مصر طوع يدي هذا الرجل، إن أصاب الفكرة، وحزم الرأي، وأتقن العمل، جعله مستقبلا سعيدا، وإن عجل ولم يتدبر وانقاد لشهواته أو شهوات زملائه وقعت مصر في التعاسة، ومن نحس الطالع أن الذي جرى هو آخر الفرضين!
لعرابي حسنات قبل الثورة، له حسنة رضيت عنها الأمة وفرحت بها، رضيها الخديو توفيق باشا، وسار عليها العمل، تلك الحسنة الكبرى هي الدستور؛ فالدستور المصري من عمله، ومن صنع يده، ومن آثار جرأته، طلبه عرابي، لا بوصف أنه عسكري ثائر، ولكن بوصف أنه وكيل وكلته الأمة في ذلك، فإن عريضة طلب الدستور كانت ممضاة من وجهاء الأمة ومشايخها، فأما كون القوة العسكرية هي التي كانت الآلة لتنفيذ إرادة الأمة في ميدان عابدين، فذلك - إن لم يكن مشروعا قانونا - فإنه مشروع بتقاليد الأمم؛ لأنه هكذا جرى في كثير من البلاد، وكان القائد للحركة الدستورية في كل بلد يحمل على الأكتاف، ويهتف باسمه في الشوارع والنوادي والمجالس، فعرابي حقق آمال الأمة بالدستور، ولم يرتكب في ذلك جريمة، ولم يسفك دما، بل كانت الحركة في حقيقتها سلاما لابسا كسوة عسكرية.
لا يجوز لنا أن نغمط حق الرجل في إنالتنا الدستور، بل يجب علينا أن نردد له ثناء آبائنا يوم صدر قانون الانتخاب، وقانون مجلس النواب، فإن كانوا بعد ذلك لم يستطيعوا حفظ مراكزهم، أو إذا كانت إنجلترا أغلقت المجلس، وألغت قانونه يوم دخولها؛ فذلك ليس من خطأ عرابي المباشر، ومع ذلك إذا كان في أخريات الأمر أو في عهد الثورة لم يحترم استقلال المجلس، وضغط عليه بقوة السيف، فذلك عمل آخر يحسب عليه بعد أن يحسب له كسب الدستور.
لعرابي سيئات بعد ذلك، فيما يتعلق بخروجه على خديو هادئ من غير مصلحة عامة للأمة، وفي عدم تقديره حالة أمته من القوة والضعف تقديرا صحيحا، وفي الجهل بالمقارنة بين قوته الحربية وقوة إنجلترا، وفي الانخداع ببعض المهيجين الإنجليز، وبكلمات بعض نوابهم الأحرار. •••
عرابي له حسنة كبرى، وسيئة كبرى، حسنة عمدية، ومعظم سيئته خطأ وجهل، فأما الخيانة، فذلك أمر لا نعرفه في زعمائنا المصريين المحسنين والمسيئين على السواء، وكان من شأن هذه السيئة التي عوقب عليها أن تأكل الحسنة الأولى التي أسداها، وهي الدستور، فيصبح بعد ذلك على الأقل إنسانا لا له ولا عليه كبقية خلق الله، ولكن كان الأمر على غير ذلك، فإن الرجل عاش في منفاه مذموما عند قومه، فلما جاء من منفاه، وهو شيخ أشيب، لم يحترم له شيء من حسن نيته، ولم يحفظ له شيء من تاريخه الطيب، بل اتهم ضميره بالخيانة! ولا يعلم الضمائر إلا الله.
Shafi da ba'a sani ba