Labarin Falsafar Zamani
قصة الفلسفة الحديثة
Nau'ikan
ثم عاش بعد ذلك عامين، وفي اليوم الحادي والعشرين من سبتمبر سنة 1860م جلس وحده على مائدة الإفطار وعليه علائم الصحة، ولكن سيدة الدار رأته بعد ساعة كاملة لا يزال جالسا إلى مائدته ساكنا لا يتحرك. لقد مات. (3) العالم فكرة
أول ما يفجؤك من كتاب «شوبنهور» «العالم كإرادة وفكرة» أسلوبه الذي صيغ فيه، فلن يصادفك منه إلا عبارة سهلة المأخذ، يسيرة الفهم، لا يشوبها شيء من تلك المصطلحات المعقدة التي نراها عند «كانت» ولا شيء من ذلك الغموض الذي يصدمك عند «هجل». ومما يلفت نظر القارئ في هذا الكتاب فضلا عن سهولة عبارته سبك الأفكار سبكا يستدعي الإعجاب الشديد، ففكرته الأساسية هي أن العالم إرادة، ثم يترتب على الإرادة كفاح وجهاد، ثم ينبني على الكفاح بؤس وشقاء، فقد جاء هذا الكتاب جديدا في كل شيء، جديدا في وضوح عبارته بعد ما رأيناه ممن قبله من غموض وإبهام؛ وجديدا في اتصال ما فيه من أفكار بالحياة الواقعة، وجديدا بكثرة ما فيه من الأمثلة التوضيحية التي لم ير «شوبنهور» - وهو ابن رجل الأعمال - بدا منها لجلاء الفكرة؛ وجديدا حتى في فكاهته؛ لأن وجود الملح الفكاهية في كتاب فلسفي كان ظاهرة تلفت النظر بعد «كانت».
ولكن إذا كانت تلك منزلة الكتاب، فلم نبذه وكساده؟ والجواب على ذلك أنه إنما نبذ وكسد؛ لأنه هاجم أساتذة الجامعة، وهم الطائفة الوحيدة التي كان في وسعها أن تذيع الكتاب وتنشره، فقد كان «هجل» هو الآمر المسيطر على ميدان الفلسفة في ألمانيا سنة 1818م، ومع ذلك لم يعبأ به «شوبنهور»، وبدأ كتابه بأعنف النقد «لهجل».
ويبدأ الكتاب بهذه العبارة: «العالم هو فكرتي عنه» وهو يقصد ما ارتآه «كانت» من قبل من أننا نعلم العالم الخارجي بوساطة الحواس والأفكار، ثم يستطرد «شوبنهور» فيعرض المذهب المثالي عرضا واضحا قويا، ولكنه مع ذلك أضعف أجزاء الكتاب وأقلها أصالة رأي، وكان خيرا له وللكتاب أن يؤخر هذا الجزء من أن يقدمه ويصدر به الكتاب، فلقد لبث الناس جيلا كاملا وهم لا يعلمون أن «شوبنهور» قد استهل الكتاب بأضعف فصوله ليتخذ منها ستارا يخبئ وراءه فكره الممتع الطريف. ولعل أهم ما جاء في هذا الجزء الأول هو هجومه على المذهب المادي، فقد تساءل كيف نفسر العقل بأنه مادة ما دمنا لا نعلم المادة إلا بواسطة العقل؟ ثم يقول إنه من المستحيل أن نستكشف كنه الحقيقة بأن نبدأ ببحث المادة، ثم ننتقل منها إلى الفكر، بل يجب أن نبدأ بذلك الذي نعرفه معرفة مباشرة قريبة أعني أنفسنا «إننا لن نصل إلى طبيعة الأشياء الحقيقية إذا بدأنا السير من الخارج، فمهما طال البحث فلن ندرك شيئا، اللهم إلا صورا وأسماء.» أما إذا عرفنا طبيعة عقولنا أولا فلقد ظفرنا بمفتاح العالم الخارجي. (4) العالم إرادة (أ)
إرادة الحياة:
لقد اتفق الفلاسفة جميعا بغير استثناء على أن جوهر العقل الفكر والإدراك، وكان الإنسان عندهم جميعا هو حيوان عارف «فيجب أولا أن ننبذ هذه الغلطة القديمة الجوهرية الاجتماعية.»
11
إنما الإدراك مجرد قشرة سطحية لعقولنا، ولا نعلم شيئا عما تحويه تلك القشرة كما هي حالنا مع الأرض، لا نعلم منها إلا القشرة، فثمة وراء العقل الواعي إرادة شعورية أو لا شعورية، وهي عبارة عن قوة حيوية مكافحة مثابرة هي فاعلية من تلقاء نفسها، ورغبة توجه الإنسان بما تلقي عليه من الأوامر، ولقد يبدو العقل أحيانا كأنه هو الذي يقود الإرادة، ولكنه عندئذ يكون كما يقود الدليل سيده، فالإرادة «هي الرجل الأعمى القوي الذي يحمل على كتفيه رجلا أعرج لا يبصر» فنحن لا نريد الشيء المعين؛ لأن عقولنا قد وجدت ما يبرر إرادته من أسباب، بل إننا لنوجد الأسباب؛ لأننا أردناه، وكل ما ترى مما أنتج الإنسان من فلسفة ودين ليس إلا قناعا يلف فيه رغبته وإرادته، ولهذا يسمي «شوبنهور» الإنسان «بالحيوان الميتافيزيقي»؛ لأن سائر الحيوان يرغب ويريد دون أن يحاول إخفاء إرادته في قناع من الميتافيزيقيا، فالإنسان مسوق بإرادته وحدها دون عقله، يقول «شوبنهور» لشد ما يغيظني أن نجادل رجلا بالأسباب والبراهين ونعاني الآلام في إقناعه، ثم يتضح لنا آخر الأمر أنه «لا يريد» أن يفهم، وأنه ينبغي لنا أن نتصل «بإرادته» لا بعقله، ومن هنا كان المنطق عديم الفائدة؛ لأنه يستحيل عليك أن تقنع أحدا بالمنطق، وما نحسب علماء المنطق أنفسهم يستخدمون المنطق إلا كوسيلة لكسب العيش، فلكي تقنع إنسانا يجب أن تلجأ إلى مصلحته الشخصية الذاتية وإلى رغبته وإرادته ... انظر كم يحتفظ الرجل بذكرى انتصاره، ثم ما أسرع أن ينسى اندحاره، وما ذلك إلا لأن الذاكرة أداة طيعة في يد الإرادة، ثم انظر كيف «يخطئ الإنسان في إعداد حسابه خطأ في صالحه أكثر مما يخطئ في غير صالحه، وإنما يقع مثل ذلك الخطأ بغير أدنى قصد دنيء.» هذا وإنك لتلاحظ من جهة أخرى أن أغبى إنسان ينقلب مرهف الذكاء إذا ما كانت المسألة المطروحة عليه من البحث تمس رغباته مسا قريبا، ويدل ذلك كله على أن العقل ثانوي بالنسبة للإرادة، وأداة خاضعة لرغبة الإنسان، أما إذا حاولت أن تحل العقل محل الإرادة، فقد تورطت في إشكال لا نجاة لك منه؛، إذ لا يكون الإنسان عرضة للأخطاء إلا إذا حان أن يحكم عقله وتأمله في كل شيء.
فكر في كفاح الناس للحصول على طعامهم وزوجاتهم، ثم في تربية أطفالهم، وسائل نفسك: هل يمكن أن يكون هذا من عمل الفكر؟ كلا ولا ريب، إنما هو نتيجة لإرادة الإنسان أن يحيا حياة كاملة «فقد يبدو على الناس أنهم مقودون من الأمام، والواقع أنهم مسوقون من الخلف.» فهم يظنون أنهم مسيرون بما يرون لأنفسهم، وهم في الحقيقة مدفوعون بإحساس غريزي ما أكثر أن يسلبهم إدراكهم الواعي، فليس العقل من الإنسان إلا وزيرا لخارجيته «قد أنتجته الطبيعة ليخدم إرادة الفرد، والقصد منه أن يتعرف الأشياء بمقدار ما هي دوافع للإرادة، لا أن يسبر غورها أو يفهم حقيقة وجودها» أما الإرادة «فهي العنصر الوحيد الدائم الثابت.» وهي التي تعمل بما ترمي إليه من غرض على توحيد مشاعر الإنسان وربط أفكاره وآرائه بعضها ببعض، والجمع بينها في وحدة متناسقة دائمة.
هذا وإن شخصية الإنسان لتشكلها إرادته لا عقله، وما أصدق العامة حين يؤثرون «القلب» على «العقل»؛ لأنهم موقنون أن الإرادة الطيبة أعمق من العقل الخالص، وإنا لنلاحظ أن الناس إذا ما أطلقوا على رجل اسما من تلك الأسماء التي تتضمن حدة الذكاء «كالداهية» أو «العليم» أو «الماكر»، فإنهم إنما يبطنون وراء هذه التسمية ريبتهم في ذلك الرجل وكرههم له؛ «لأن نبوغ العقل يستثير الإعجاب، ولكنه يستحيل أن يستتبع المحبة.» ألست ترى «جميع الديانات تبشر بالجزاء ... لحسنات الإرادة أو القلب، ولكنها لا تعد نبوغ العقل والفهم شيئا؟»
Shafi da ba'a sani ba