Labarin Falsafar Zamani

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
57

Labarin Falsafar Zamani

قصة الفلسفة الحديثة

Nau'ikan

قلنا فيما سبق إن فلسفة «بركلي» تتألف من خطوتين؛ الأولى: سلبية ينكر فيها وجود المادة، والثانية: إيجابية يثبت فيها وجود الكائنات الروحية. ولقد بسطنا القول في مرحلته السلبية الأولى، ونحن نعرض عليك الخطوة الإيجابية الثانية.

يقول «بركلي»: إنه لا ريب أن هنالك إلى جانب أفكارنا ذوات مدركة. إنني أعلم حق العلم أن أفكاري كائنة في عقلي، وأستطيع أن أميز تمييزا واضحا بين ذاتي وبين أفكاري، وإذن فللعقل وجود مستقل لا شك فيه، وهو الذي يتناول أشتات الأفكار، فيصل بينها وينظمها، ولولاه لظلت مفككة لا تؤدي معنى، فيكون لون التفاحة مثلا منفصلا عن ملمسها، وهذا مستقل عن رائحتها، وهي جميعا لا تتصل بطعمها، وبذلك لا يكون هناك فكرة متصلة مترابطة متحدة عن التفاحة، أو بمعنى آخر لا تكون في العقل فكرة للتفاحة على الإطلاق، هذا العقل الذي يدرك الأفكار،

9

ويؤلف بينها يستحيل أن يكون هو نفسه فكرة من الأفكار؛ لأنه فاعل والأفكار كلها قابلة، وهو مدرك والأفكار مدركة. والخلاصة أن العقل، أو الروح موجود لا ريب في وجوده، وإذن فكل ما في الوجود عقول وما تحويه من أفكار. (2)

الله هو منشئ الأفكار:

لقد أنكر «بركلي» وجود الأشياء المادية، ولم يعترف إلا بالعقول وأفكارها، فبديهي أن يرد على الذهن هذا السؤال: من أين إذن تأتي أفكارنا؟ إنه ليست هناك أشياء في الخارج تبعثها في نفوسنا، حتى نقول إنها صور لتلك الأشياء، كذلك لم تخلقها عقولنا خلقا من عدم، فكل عمل العقل مقتصر على تنظيمها وربطها، ويستحيل أن تكون وهما وخداعا؛ لأنها حية ناصعة واضحة منظمة، فإذا كانت هذه الأفكار ليست من ابتداعنا نحن، فلا بد أن يكون لها سبب خارج عنا، ولا بد أن يكون ذلك الكائن مفكرا مريدا؛ لأنه بغير الإرادة لا يمكن أن يكون فاعلا ومؤثرا في الناس، وبغير التفكير يستحيل أن يبث في عقولنا. هذا ولما كانت أفكارنا منوعة متعددة تنوعا وتعددا لا نهاية لهما، فلا بد أن يكون لذلك الكائن قوة لا نهائية، وعقل غير محدود، إنه لا بد أن يكون في قدرته السيطرة على العقول كلها، حتى يتمكن من أن يبث أفكارا بعينها في عقول كثيرة في وقت واحد ... هذا الكائن هو الله، وهذه الأفكار التي يؤلفها وينسقها ويربط بينها هي ما نسميه بالطبيعة،. أما هذا التتابع الذي يحدث بين الأفكار فهو ما نطلق عليه قوانين الطبيعة. وهنا يستطرد «بركلي» فيقول: إننا لسنا في حاجة إلى أن نثبت وجود الله بالمعجزات الخارقة لقوانين الطبيعة؛ لأن ثبات هذه القوانين وانسجام الأفكار وتنظيمها تدل على قوة الله أكثر مما تدل عليه الخوارق الشاذة ... ثم يقول: إنك إذا سمعت رجلا يتحدث دون أن تراه لما شككت في وجوده، فكيف يجوز للإنسان أن يشك في وجود الله وهو يتحدث إلينا حديثا متصلا لا ينقطع بلسان هذه الطبيعة - أي الأفكار - إن هذه الأفكار التي يبثها في عقولنا هي نماذج من أفكاره الخالدة، فهي دليل قائم على وجوده وخلوده.

ترى مما سبق أن «بركلي» يذهب بفلسفته إلى أن الأشياء جميعا لا تعدو أفكارا وما يربطها من علاقات، ولكن هذه العلاقات ليست طبائع الأفكار نفسها، وإذن فهو لا يعترف بما في العالم الخارجي من سببية؛ لأنه لا يرى أن الحادثة المعينة أو الفكرة المعينة لا بد أن تستتبع حادثة أو فكرة بعينها، إذ هو - كما رأيت - ينكر أن العلاقات بين الأشياء ضرورية ليس من حدوثها بد، فكل ما في الأمر سلسلة من الأفكار تتابع في العقل تتابعا يتم كما يريده الله.

أراد «بركلي» بإنكاره للعالم المادي، وبإثباته للكائنات الروحية وحدها أن يصد تيار المادية الذي طغى على الفكر في عصره طغيانا انتهى بالإلحاد، وأن يقرر وجود الله الذي ينشئ في نفوسنا الأفكار، ولكنه يعود فيعترف بأن الإنسان عاجز عن معرفة الله معرفة تامة كاملة؛ وذلك لأن أفكارنا قابلة فقط وليست فاعلة، وحتى على فرض فاعليتها، فهي ولا شك فاعلية ناقصة. ولما كان الله عبارة عن فاعلية خالصة كاملة، كان من غير الممكن أن تمثله هذه الأفكار التي تنقصها الفاعلية، فمعرفتنا بالله هي من قبيل معرفتنا بذواتنا وبوجود العقول الأخرى، فلسنا نعلم عن الله إلا ما نستنتجه من آثاره فينا؛ أي الأفكار التي في عقولنا.

ولكن طريقته هذه إذا طبقت إلى نهايتها فقد تنتهي إلى إنكار عالم الروح كذلك.

إنه زعم أن الشيء المادي لا يكتسب وجوده إلا من إدراكه في عقل ما، وأن كل ما هنالك عن ذلك الشيء هو فكرة في عقل، فبأي حق أقرر أن الله والعقول الأخرى موجودون وجودا حقيقيا خارج عقلي، وأنهم قادرون مثلي على التفكير والتخيل والإرادة؟

Shafi da ba'a sani ba