Labarin Falsafar Zamani
قصة الفلسفة الحديثة
Nau'ikan
كان هذا المذهب الذي ارتآه مالبرانش، وخلاصته هذه العبارة: «إن كل شيء في الله.» ممهدا لمذهب وحدة الوجود الذي دعا إليه خلفه «سبينوزا»، بل إن وحدة الوجود هي النتيجة المنطقية التي تخرج من مذهب «مالبرانش». ومن العجيب أنه حين نادى «سبينوزا» بمذهبه كان أشد معارضيه «مالبرانش» هذا - وكانا متعاصرين - مع أن سبينوزا لم يزد على أن استخلص النتيجة التي قصر مالبرانش عن استخلاصها من مقدماته. (1-5) سبينوزا
Spinoza (1632-1677م)
ولد باروخ سبينوزا في أمستردام من أسرة برتغالية يهودية ألقت عصاها في هولندا بعد ما أصابها من نفي وتشريد بسبب عقيدتها الدينية اليهودية التي شب عليها الفيلسوف في عهد الصبا. وكان أبوه تاجرا ناجحا ود لو انخرط ابنه في سلك التجارة عسى أن يخلفه، ولكنه نفر وأبى وآثر أن ينفق وقته في معبد اليهود وما يتصل به، ينكب على ديانة قومه وتاريخهم لعله يبث فيهما من روحه الشابة قبسا يمحو ما غشاهما من ظلام، وما زال الفيلسوف الفتي منصرفا إلى ما أخذ نفسه به لا يفتر ولا يني حتى أكبره رجال اليهودية الذين تقدمت بهم السن، وأملوا أن يكون من هذا الغلام ضوء ونهوض لجماعة اليهود، ثم لم يكد يفرغ «سبينوزا» من دراسة متن الدين، حتى انتقل إلى شروحه، ثم إلى كتب ابن ميمون، وابن عزرا، وحسداي بن شبروت، ثم تناول بالدراسة فلسفة ابن جبريل الصوفية وفلسفة موسى القرطبي وغيرهم من فلاسفة اليهود بالأندلس.
سبينوزا.
قرأ هذا كله قراءة درس وتمحيص، فامتلأت نفسه بما حوت تلك الأسفار، واستوقف نظره كثير مما جاء بها من آراء، فلقد راعه ما ذهب إليه موسى القرطبي من وحدة الله والكون واعتبارهما حقيقة واحدة، وصادفته هذه الفكرة نفسها في حسداي الذي ارتأى أن الكون المادي هو جسم الله، ثم قرأ في ابن ميمون بحثا في نظرية ابن رشد التي تزعم أن الخلود لا يتعلق بالأشخاص والأفراد، ولكن هذه الكتب التي قرأها بذرت في نفسه بذور الريبة والشك، وأثارت في ذهنه من المسائل والمشاكل ما لم يستطع حلها، فأبت نفسه المتطلعة إلا أن يقرأ ما قاله رجال الفكر في الديانة المسيحية عن الله، وعن مصير البشر لعله مصادف عندهم ما يشفي غلته، فبدأ يدرس اللغة اللاتينية حتى استوعبها، وعن طريقها استطاع أن يطالع تراث الفكر الأوروبي، سواء منه القديم والأوسط، فدرس سقراط وأفلاطون وأرسطو، كما درس فلسفة الذريين التي صادفت منه إعجابا عظيما، وطالع الفلاسفة المدرسيين، وأخذ عنهم كثيرا من مصطلحاتهم الفلسفية، كما اقتبس منهم طريقتهم الهندسية في استخدام البدائه والتعاريف والقضايا والبراهين والنتائج، وما إلى هذه من طرق البحث في الهندسة. كذلك درس فلسفة «برونو» ذلك الثائر العظيم الذي أنفق حياته في التجوال من بلد إلى بلد، والانتقال من عقيدة إلى عقيدة، باحثا دهشا مرتابا، والذي حكمت عليه محكمة التفتيش آخر الأمر أن يقتل «من غير أن يراق دمه» أي أن يحرق حيا. وأول ما استرعى نظر سبينوزا من آراء «برونو» هي فكرته عن وحدة الوجود، فكل الحقيقة واحدة في عنصرها، واحدة في علتها، والله وهذه الحقيقة شيء واحد. كذلك ارتأى برونو أن العقل والمادة شيء واحد، فكل ذرة مما تتألف منه الحقيقة مركبة من عنصر مادي وعنصر روحي قد امتزجا، بحيث لا يقبلان التجزئة والانفصال، وموضوع الفلسفة هو أن تدرك وحدة الوجود في تعدد مظاهره، وأن ترى العقل في المادة، والمادة في العقل. وقد كان لهذه الفلسفة أثر عظيم في سبينوزا.
نعم أثر كل أولئك في فيلسوفنا أثرا كبيرا، ولكنه فوق ذلك كله مدين لديكارت بكثير من فلسفته وتفكيره، فقد استوقفه ما ذهب إليه ديكارت من أن الوجود ينحل إلى عنصرين، فالمادة كلها تنطوي تحت عنصر متجانس، والعقل كله يندرج تحت عنصر آخر متجانس، ولقد أثار هذا التقسيم من سبينوزا نزعة أصيلة فيه نحو التوحيد، وأبى إلا أن يكون الكون بكل ما فيه عنصرا واحدا. كذلك استرعى نظره من فلسفة ديكارت تفسيره للعالم كله، ما عدا الله والنفس، بالقوانين الآلية والرياضية، وهي فكرة بدأت عند برونو وجاليليو، ولعلها كانت صدى لتقدم الصناعة الآلية في المدن الإيطالية. فقد زعم «ديكارت» كما زعم «أناكسجوراس» قبله بألفي عام، أن الله قد دفع العالم دفعة واحدة منذ البدائية، كانت نتيجتها كل هذه الحركات التي تطرأ على الأجسام المادية كائنة ما كانت، فكل حركة من حيوان أو إنسان إن هي إلا نتيجة حتمية آلية لتلك الدفعة الإلهية الأولى. وإذن فالعالم كله بما فيه من أجسام آلة تسير مجبرة، ولكن خارج هذا العالم الآلي إلها، كما أن داخل جسم الإنسان روحا. وهنا وقف ديكارت فجاء سبينوزا وتناول الكون كله مادة وروحا وخالقا ومخلوقا، وصب الجميع في وحدة لا تنقسم ولا تتجزأ.
تلك كانت المصادر العقلية التي استقى منها سبينوزا فلسفته، ذلك الفيلسوف الذي كان يبدو رضيا وادعا وفي صدره أتون مستعر لا يهدأ ولا يستقر، وقد سيق في سنة 1656م إلى محكمة من آباء الكنيسة اليهودية، فسأله هؤلاء: أصحيح أنك زعمت لأصدقائك أن لله جسدا هو العالم؟ ولا ندري بماذا أجاب، ثم أصدروا حكمهم عليه بالكفر والحرمان بعد أن أغروه براتب سنوي قدره خمسمائة جنيه، على أن يظهر للناس بمظهر الخاضع للكنيسة والمؤمن بدينه وعقيدته، فرفض منحتهم في إباء. (1) اعتزاله وموته
قضت الكنيسة اليهودية بفصل سبينوزا ومقاطعته، فقابل الرجل هذا القضاء بصدر رحب وعزم صليب، وألقى ببصره فإذا هو وحيد طريد لا يخالط أحدا ولا يخالطه أحد، فحزت في نفسه مرارة الموقف، حتى إنك لتراه في كل ما كتب جادا صارما لا تعرف الفكاهة سبيلا إليه، ولقد ظل يحمل لرجال الدين المقت والبغض لما رأى فيهم من جهالة وحمق، يقول عنهم في كتابه «الأخلاق»: «إن هؤلاء (المفكرين) الذين يميلون إلى البحث في أسباب المعجزات لكي يتفهموا جوانب الطبيعة تفهم الفلاسفة، والذين لا يرضون لأنفسهم أن يحدقوا فيها مدهوشين كما يفعل المغفلون، أقول إن هؤلاء سرعان ما يعتبرون ملاحدة فجرة، على حين أن من يحكم عليهم بهذا أولئك الذين يمجدهم الدهماء على أنهم شراح للطبيعة والآلهة، وإنهم ليعلمون أنه إذا ما انمحت ظلمات الجهالة زالت على الفور تلك الدهشة كما يعلمون أنها الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بسلطانهم».
ولكن سبينوزا لبث منبوذا من قومه، حتى إنه ذات ليلة بينا هو يسير في الطريق إذ انقض عليه مأفون أخذته حمى الورع الأحمق، وطعن الشاب الفيلسوف بخنجره لعله يتقرب بدمه إلى الله، فانطلق سبينوزا يعدو سريعا، وقد أصابه الغر بجرح في عنقه، وانتهى فيلسوفنا بعد هذه الحادثة إلى رأي حاسم، هو أنه لا يستطيع أن يحيا حياة الفلسفة التي يريد إلا إذا اعتزل العالم وعاش وحيدا آمنا، فيسبح بفكره في الكون كيف شاء، لذلك استأجر غرفة هادئة في الطابق العلوي من منزل منعزل عن مدينة أمستردام، واستبدل باسمه «باروخ» اسما آخر يتنكر به هو «بندكت»
Benedict ، وكان يكسب قوته بادئ الأمر من تعليم الأطفال في إحدى مدارس المدينة، ثم اشتغل بعد ذلك بصقل العدسات الزجاجية، وهي مهنة كان قد تعلمها أيام حياته في الجماعة اليهودية، إذ يحتم قانون اليهود أن يحترف كل طالب حرفة يدوية لعقيدة عندهم هي أن الإنسان لا يكون فاضلا إلا بالعمل.
Shafi da ba'a sani ba