أرسل هؤلاء البؤساء إلى إشبيلية ليقوموا بخدمة الإسبان فيها، حتى انقضت ثمانية الأشهر، وإذ لم يستطيعوا أداء ما بقي عليهم من الفدية، حكم عليهم جميعا بالعبودية، وكانوا زهاء خمسة عشر ألفا، وهكذا نالت مكايد فرديناند أمنيتها، وبلغ مكره السيئ غايته.
أصبح القسم الغربي من مملكة غرناطة الآن في قبضة النصارى، واحتلت حامياتهم قلاع رندة، ومالقة الجميلة، وكان أبو عبد الله لا يزال يحكم غرناطة، وقد أسرع بتهنئة سيده وسيدته على انتصارهما بمالقة، أما الزغل فكان في الشرق يتحدى الفاتحين، وقد جمع حول لوائه كل من بقي في نفسه شيء من الحمية والتصميم من بين العرب القانطين، وكان يملك غير منازع القسم من جيان إلى المرية، وهي ثغر عظيم الشأن على بحر الروم، ويدخل في ملكه أيضا بعض المدن العظيمة: كوادي آش، وبسطة، ثم السفوح الوعرة لجبال البشرات، وهي مهد قوم شداد صلاب من الجبليين، تطل على عدد عديد من الأودية التي تسقى بالماء الخصر المنهمر من جبال نيفادا الثلجية حيث تكثر المراعى والكروم، وغياض البرتقال والرمان، والأترج والتوت، ومن هذه الخيرات وغيرها تتكون ثروة هذا الإقليم.
وفي سنة 1488م/893ه وجه فرديناند سيفه المنتصر إلى هذا الجزء الهادئ من مملكة الإسلام، فجمع جموعه في مرسية، ثم زحف إلى الغرب في مملكة الزغل، وهجم على بسطة فصدمه الزغل صدمة عنيفة؛ لأن يده لم تفقد بعد قوتها، ولأن عقله لم يزل ثاقبا بعيد مدى الحيلة، لم تذهب النكبات بذكائه، فرد النصارى عن أبواب بسطة، وزاد فانتقم لنفسه بالهجوم على مملكتهم، ولكن هذه الهزيمة لم تضعف من عزيمة فرديناند، فجدد هجومه على بسطة في السنة التالية، وبدل أن يقذف بجنوده في هجمات خائبة على المدينة، أرسلهم يعيثون ويفسدون في الأرض الخصيبة حولها؛ ليدفع الجوع سكانها إلى التسليم، واستمر حصار المدينة ستة أشهر، مات في خلالها من جنود النصارى نحو عشرين ألفا من المرض والإقامة بالعراء، ومن هجمات المسلمين،
5
ثم سقطت المدينة في سبتمبر سنة 1489م/894ه وبسقوطها تبددت قوة الزغل وأفل نجمه، وتلا ذلك أن خضعت القلاع التي تحصن البشرات واحدة بعد واحدة لسيف فرديناند أو ذهبه، وتجلت عند ذلك للزغل الحقيقة المحزنة، وهي أن حكم المسلمين بالأندلس قضي عليه بالزوال.
فألقى القياد على كره منه لفرديناند، وسلم إليه المرية، فأقطعه الملك قطعة من الأرض في البشرات، ومنحه لقب «أمير أندرش» ولكنه لم يقم طويلا بهذه البلاد التي ذهب فيها مجده وتولى سلطانه، فباع أرضه، واجتاز البحر إلى إفريقية، وهناك قبض عليه سلطان فاس فعذبه أشد عذاب وسمل عينيه، فقضى بقية أيامه هائما في الأرض بائسا طريدا، وما كان أشد حزن الناس على هذا البطل المغوار وهو في أسماله البالية، وقد قرءوا على رق غزال خيط بردائه «هذا سلطان الأندلس العاثر الجد».
لم يبق للمسلمين غير غرناطة التي اغتبط أميرها أبو عبد الله أعظم اغتباط، وتشفى في عدوه القديم عمه أبي عبد الله الزغل حينما سلبه ملوك الكثلكة ملكه، وصاح من الفرح حينما بلغه الرسول الخبر: لن أقبل من الآن أن يلقبني أحد بالزغيبي؛ لأن الحظ أقبل علي بوجهه.
ولكن الرسول أجابه في تؤدة: إن الريح التي تهب من أفق قد تهب من آخر، وإنه يجدر بالسلطان أن يكبح من فرحه وسروره حتى يستقر الجو، وكان أبو عبد الله كثيرا ما يسمع سبه ولعنه بأذنه في جميع شوارع غرناطة، وكثيرا ما يصل إليه ما يرميه الناس به من خيانة قومه ومحالفة أعدائه، ومع كل هذا كان يعيش مطمئنا هادئ البال، تام الثقة بحلفائه، سعيدا بزوال ملك عمه، وفي أثناء ما كان يحرض الملكين عليه، عاهدهما على أنهما إن أفلحا في الاستيلاء على ملك الزغل وأخذا وادي آش والمرية، سلم اليهما غرناطة راضيا، ولكنه لم يلبث طويلا حتى أفاق من غفوته، فإن فرديناند كتب إليه ينبئه بأن الشروط التي دونت لتسليم غرناطة قد تمت من ناحيته، وأنه يحتم تسليمها على حسب نصوص المعاهدة التي دونت بينهما، وألح أبو عبد الله عبثا أن يرجئ فرديناند هذا الأمر قليلا، ولكن الملك لم يتحول عما طلب، وأنذر بأنه إذا لم تسلم إليه المدينة أعاد نكبة مالقة، فارتبك أبو عبد الله ولم يدر ماذا يفعل، غير أن أهل غرناطة بزعامة موسى بن أبي الغسان الفارس الشجاع أخذوا الأمر في أيديهم، وبعثوا إلى فرديناند بأنه إن أراد أسلحتهم فليأت لأخذها بنفسه.
وحينما وصلت هذه العبارة الجريئة إلى أذن فرديناند، كان مرج غرناطة يزخر بالحب والفاكهة، وقد عاد إليه الخصب والنماء بعد أن عاثت فيه الحروب بين الزغل وأبي عبد الله، وبلغ الزرع أشده، وآن حصاده، وتطلب المناجل، فاقتنص فرديناند هذه السانحة ولجأ إلى طريقته المعتادة، فرمى المرج بخمسة وعشرين ألفا من جنوده، غادروه بعد ثلاثين يوما وهو أقفر من كف اللئيم، واقتنع فرديناند بهذا القدر في هذا العام، ثم أرسل على المرج في سنة 1490م/895ه غارة مدمرة أخرى، ودفع أبا عبد الله إلى شجاعة يائسة، فلبس لأمة الحرب وهجم على أعدائه مستعينا برأي موسى الذي كان نادرة في الرجال، وحينما رأى العرب الذين كانوا عاهدوا فرديناند من قبل على الطاعة سلطان غرناطة وهو يقود جيوشه للجهاد، وثبت عزائمهم من جديد، وألقوا بعهودهم في الهواء وانضموا إلى إخوانهم المحاربين.
وكان يخيل إلى المرء أن أيام العز الماضية قد عادت إلى غرناطة، فإن المسلمين استردوا من النصارى بعض الحصون وعاثوا في تخوم بلادهم، ولكن كل ذلك كان آخر شعاعة للشمس عند المغيب؛ فإن فرديناند وإيزابلا خرجا في إبريل سنة 1491م/896ه للحرب الصليبية التي اعتاداها كل عام، وعزما ألا يعودا إلا وغرناطة في قبضتيهما، فقاد الملك جيشا عدته أربعون ألفا من المشاة، وعشرة آلاف من الفرسان، وعقد أبو عبد الله مجلس الحرب بالحمراء بينما كانت سحب غبار الجيش الإسباني ترى من نوافذها، فرأى بعض رجال المجلس أن لا فائدة من المقاومة وأن الخير في التسليم، ولكن موسى قام واستحثهم أن يكونوا أبناء بررة لآبائهم، وأن يطردوا عنهم اليأس ما دامت فيهم قوة على القتال، وما بقيت لهم جياد سريعة الوثبات، فانتقلت حماسته إلى الناس، وصمموا على الموت، ولم يكن يسمع بغرناطة إلا صليل السلاح وأبواق الجنود.
Shafi da ba'a sani ba