و«برومل» الوسيم،
5
من ذلك أنه أبطل عادة إعفاء الشعر وإسداله مفروقا إلى الحاجبين والصدغين، وأدخل بالأندلس بقلة الهليون (أسباراجس) وزاد في الأطعمة لونا كانوا يسمونه بالنقايا، وهو يصنع بماء الكزبرة مع السنبوسق والكباب، ولونا آخر سموه تقلية زرياب، يطبخ فيه الدجاج أو الأرانب في ماء كثرت به التوابل والأفاويه، وأبدل بالأكواب المعدنية الأكواب الزجاجية، وابتدع النوم على أسرة من الجلد، وابتكر أن تكون أسمطة الطعام من جلد كذلك، إلى كثير من وسائل الرفاهية والنعيم، ثم إنه أرشد الناس إلى التأنق في تغيير الملابس بحيث ينزل غلظها على التدريج، من أصفق الملابس في زمهرير الشتاء، إلى أخفها في هجير الصيف، وكانوا يغيرون ملابسهم مرة عند الشتاء وأخرى عند الصيف، وقصارى القول إن هذا الأبيقوري
6
المرح لم يبتدع شيئا إلا رآه الأندلسيون ضروريا جميلا.
وبينما كان القصر ورجاله منهمكين في تذوق ألوان جديدة من الطعام متأنقين في قص شعرهم، كان فريق من أهل قرطبة يفكر وينهمك فيما هو أعظم وأبعد أثرا؛ لأن الخطر في هذا الحين لم يدهم الدولة من خارج حدودها، فإن عبد الرحمن الأوسط - على علاته - لم تعوزه الشجاعة التي تدفعه إلى خوض معامع القتال، فكثيرا ما قاد الجيوش إلى نصارى الشمال الذين كانوا بزعامة لويس الجميل الخلق والخلق لا يفتأون يغيرون على الحدود، وكثيرا ما حلق النصر حول رايته،
7
على أن هذه المناوشات لم يكن لها الآن من الشأن والخطر ما يهز ركن الدولة الوطيد، فإن الاضطراب في عهود الدولة الأولى لم يجئ إلا منها نفسها، وقد جاءت الزعازع في هذه الآونة من عدد قليل من النصارى بقرطبة التهبت نفوسهم غيرة وتعصبا لدينهم، أما جمهرة النصارى بالأندلس فلم يصابوا بشيء من هذه الغيرة العنيفة؛ لأنهم رأوا أنهم يعاملون خير معاملة، وأن المسلمين قد تركوهم أحرارا فيما يعبدون، وأن الحكام لا يتدخلون في شيء من عقائدهم، وأنهم يتجرون كما أرادوا، ويجمعون الثروة حيثما وجدوها، وأنهم يعيشون كما يعيش إخوانهم المسلمون، فما الذي بقي لهم من أمانيهم؟ لا شيء، اللهم إلا إذا كانوا يتطلعون إلى استرجاع ملكهم، وشيء من هذا يعد الآن من المستحيلات، فقنعوا بالأمور كما هي، واجتهدوا أن يستفيدوا من سماحة حكامهم ولينهم.
كان هذا الميل عاما بين نصارى الأندلس، وإن ظهر هنا وهناك روح طموح متحمس أغاظه هذا الخنوع لحكم المسلمين، وطافت بخيال أصحابه أطياف من قوتهم الماضية وعلو شأن الكنيسة، ولم يستطع القساوسة أن يكبحوا جماح بغضهم للمسلمين الذين سلبوهم عزهم وسلطانهم، وأبدلوا بالنصرانية دينا جديدا، ومن العجب أن تسامح المسلمين كان يزيد في سخط النفوس المتعصبة، فلقد كان أصحاب هذه النفوس يؤثرون أن يعذبوا وأن يضطهدوا كما اضطهد القديسون من قبل، وكانوا يتشوفون إلى الاستشهاد تشوف الظمآن إلى الماء الفرات، وينقمون من المسلمين أنهم لم «يعذبوهم في سبيل دعوتهم الحقة» حتى يضمنوا لأنفسهم الفوز في جنات النعيم، وكان أشد ما يكره هؤلاء المتشددون المتزمتون ما شغف به العرب من التمتع بلذائذ الحياة، والإغراق في اللهو والسرور، والعيش في ظلال الرفه والنعيم، فكان تمتعهم بالحياة وزينتها وحبهم للغناء والموسيقى وولوعهم بالعلوم من أكبر ما يثير بغض هؤلاء الزهاد وحقدهم، فإن حياة المؤمن الحق عندهم يجب أن تكون سوط عذاب، وصوما متصلا، وتوبة وبكاء، وتطهيرا بالآلام، وإماتة للجسد في سبيل إحياء الروح.
واكتفى هؤلاء أول الأمر بإظهار جانب الزهادة المسيحية والتحرج بين الأهلين، ولكن الأيام دارت دورتها ونشأ في المسيحية جيل جديد، فإذا تحمس مفاجئ عميق الغور يأخذ مكان التهاون القديم، وإذا حمى حب الموت والاستشهاد في سبيل المسيحية تظهر في كل مكان.
Shafi da ba'a sani ba