وقد وطد العزم عبد الرحمن حاكم أربونة الجديد على التغلب على كل بلاد الغال، فإنه بعد أن وقف تقدم يوديس الذي حاول بعد انتصاره في طلوشة أن يغزو أرض المسلمين، هجم على طركونه وفتح أقيتانية، وهزم يوديس عند شواطئ الجارون.
واستولى على برديل (بوردو) عنوة عندما سمع بالكنوز المذخورة بدير القديس مارتن، وقابل شارل بن بيبين الذي كان في الواقع ملك فرنسا الفعلي؛ لأن ملكها كان ضعيف العزم يكاد يكون محجورا عليه من رئيس القصر.
وتقدم المسلمون إلى الغزو فرحين مستبشرين ظانين أنهم سيلاقون من النصر ما لاقوه في موقعة وادي لكة، وتوقعوا أن يروا فرنسا الجميلة من كاليه إلى مرسيليا وقد سقطت فريسة في أيديهم، وفي الحق إن مصير أوربا كان في الميزان، حتى لقد عدت هذه الموقعة من المواقع الخمس عشرة الفاصلة في حياة البشر، وكان السؤال العظيم الذي كان جوابه في شفار السيوف وأسنة الرماح هو: «أتصبح أوربا مسيحية أم مسلمة؟ أتكون نوتردام التي لم تبن بعد كنيسة أم مسجدا؟ أتردد كنيسة سنت بول تراتيل المسيحية، أم تدوي بها أصوات المصلين من المسلمين؟» ذلك أنه لم يكن هناك من سبب يدعو مطلقا إلى وقوف الفاتحين عند ساحل المنش إذا لم تصد جيوشهم عند تور، ولكن قضت الأقدار بأن مد الغزو الإسلامي قد بلغ غايته، وأن الجزر أخذت تبدو مظاهره للعيان.
لم يكن شارل والإفرنج من أتباعه من الصنف الخائر العزيمة الضعيف المخنث كبقايا الإسبان والرومانيين والقوط، بل كانوا في الشجاعة والشدة أكفاء للعرب أنفسهم وأمثالا، وكان لهم من بسطة الجسم وعنفوان القوة ما كان له أكبر الأثر في أعدائهم.
وقد قضى الجيشان ستة أيام في المناوشة، واشتد الالتحام في السابع وحمي الصدام، فاخترق شارل صفوف العرب بصولة لا تقاوم، ثم أخذ يرسل يمينا وشمالا ضرباته القوية التي سمي من أجلها: بشارل مارتل، أو إن شئت «شارل المرزبة أو المطرقة»، وسرت روحه في جنوده فانقضوا على المسلمين بقوة ساحقة، فتمزق جيشهم ولاذوا بالفرار، ودعي بين الحزن والذعر مكان هذه الموقعة ببلاط الشهداء حينا من الدهر طويلا.
زال الخطر عن غرب أوربا لأن كارثة العرب كانت فادحة حتى إنهم لم يفكروا طوال القرون التي حكموا فيها في الجنوب أن يغزوا فرنسا، نعم إنهم احتفظوا بأربونة والجهات المشارفة للسفوح الشمالية لجبال البرت (البرانس) حتى سنة 797م/181ه، ثم خاطروا بإرسال غزوات على بروفانس، ولكن طموحهم لم يصل بهم إلى أبعد من هذا، فإن موقعة «تور» حققت استقلال فرنسا، ووقفت سدا أمام الفتوح العربية.
لقد غمرت حشود العرب الأرض كما يغمرها مد البحر، وكانت جيوشهم تملأ كل مكان، ولكنهم الآن بعد هزيمتهم الساحقة أصبحوا يسمعون صوتا غريبا يرن في آذانهم صائحا: «هنا ستقفون، وهنا ستستقر أمواجكم المزهوة المغرورة».
وكان ملوك فرنسا مع كل هذا يثقون بشجاعة جيرانهم العرب ويخشون بأسهم، حتى إنهم - وإن فرحوا أحيانا بانتصارهم عليهم في وقائع صغيرة - لم يحاولوا إخضاع إسبانيا إلا مرة واحدة، ذلك حينما فقد قارله (شارلمان) - الذي شبهوه بالإسكندر - راحته وأحس بقلقه لشدة مناعة العرب في الجانب الآخر من جبال البرت، وظن أن من واجب المسيحي أن يستأصل شأفة الملحدين، ورأى أنه - وهو الملك العظيم المظفر - لا يجمل به أن يحتمل إلى جانبه دولة مستقلة بالأندلس، وقد سنحت له الفرصة في النهاية حينما ثار بإسبانيا بعض القبائل لتولية أول أمير أموي، وقد دأبت القبائل طيلة أيام العرب بالأندلس على السخط والهياج، فدعي شارلمان للتدخل في الأمر وطرد الأمير الغاصب.
ويزعم مؤرخو الإسبان أن ألفونسو ملك أشتورش (أستورياس) هو الذي استنجد بملك فرنسا، ولكن الأرجح أن الدعوة جاءت من بعض زعماء المسلمين الذين خابت آمالهم وانعكست مطامعهم في عبد الرحمن الداخل الأموي،
5
Shafi da ba'a sani ba