وأما القول الثاني فقد وجدته عند محمد إقبال، حينما عاودت قراءة كتابه «تجديد التفكير الديني في الإسلام» إذ وجدته يستهل الفصل الخامس من هذا الكتاب بهذه العبارة: «صعد محمد النبي العربي إلى السموات العلى، ثم رجع إلى الأرض، قسما بربي لو بلغت هذا المقام لما عدت أبدا.» وهي عبارة قالها - فيما يحكي محمد إقبال - ولي مسلم عظيم هو عبد القدوس الجنجوهي، ثم يمضي إقبال في القول بأنه من العسير - في ظنه - أن تجد في الأدب الصوفي كله ما يفصح في عبارة واحدة عن مثل الإدراك العميق للفرق السيكولوجي بين نمطين مختلفين من أنماط الوعي: أما أحدهما فهو النمط الذي تتميز به حالة النبوة، وأما الآخر فهو ذلك الذي تتميز به حالة التصوف، ففي هذه الحالة الثانية - حالة التصوف - ترى المتصوف إذا ما بلغ شهود الحق تمنى ألا يعود إلى دنيا الناس، وحتى إذا هو عاد - كما لا بد له أن يعود - جاءت عودته غير ذات نفع كبير للناس؛ لأنه سينحصر في ذات نفسه، منتشيا بما قد شهد، ولا عليه بعد ذلك أن تتغير أوضاع الحياة من حوله أو لا تتغير، وأما في حالة النبوة فالأمر على خلاف ذلك؛ لأن مشاهدة الحق يتلوها رجوع إلى الناس في دنياهم، لا ليقف النبي بما يجري حوله موقفا سلبيا غير مكترث، بل ليغامر فيه بما يغيره التغيير الذي يخلصه من أوجه الفساد، ويصعد به نحو مثال الكمال، كما ارتسم في إدراكه الواعي لحظة الشهود.
إن إدراك الحق عند الصوفي هو غاية يوقف عندها، وأما عند النبي فهو بمثابة يقظة تصحو بها كوامن نفسه، حتى لتتحول تلك الكوامن بين جوانحه إلى قوى تهز أركان العالم هزا ليستفيق من سباته، فيبدل قيما بالية بقيم جديدة، فكأنما عودة النبي من حالة الشهود إلى حالة الفعل هي بمثابة مقياس يقيس شيئين في وقت واحد: يقيس مدى ما تنطوي عليه المثل العليا التي شوهدت في حالة الرؤية الروحية من قدرة على التطبيق والإصلاح، ثم يقيس مدى ما تستطيعه الإرادة القوية والعزيمة الماضية من مواجهة الصعاب، حتى تزيل حياة فسدت؛ لتقيم مكانها حياة جديدة منشودة.
هذان هما القولان اللذان صادفتهما فيما قرأت منذ قريب، واللذان يلتقيان عند نقطة واحدة مشتركة، هي التفرقة بين رجلين: رجل يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجل يرى الحق فلا يستريح له جنب حتى يغير الحياة وفق ما رأى، ولئن كنت قد وجدت هذه التفرقة مقصورة على التمييز بين حالتي التصوف والنبوة، فلست أرى ما يمنع من التوسع في التطبيق، بحيث يجعلها تفرق بين المثقف الذي ينعم بثقافته، ثم لا يغير من مجرى الحياة شيئا، والمثقف الذي لا ينعم بثقافته إلا إذا استخدمها أداة لتغيير الحياة من حوله، وفي هذه الحالة الثانية يكون المثقف مثقفا وثائرا معا ...» (اقرأ تفصيلات المعنى في الفصل الخاص بهذا الموضوع في كتابي «في حياتنا العقلية»).
4
أكتفي بالأمثلة الثلاثة التي قدمتها؛ لأقدم بها نموذجا لما أخذت أكتبه في مجلة «الفكر المعاصر» شهرا بعد شهر في أواسط الستينيات، وكان من الموضوعات التي حللتها على هذا المنوال: إرادة التغيير، طراز من الفردية جديد، معنى الصراع الفكري، قيادات الفكر المعاصر، روح العصر من فلسفته، الماركسية منهجا ... وكانت طريقتي كما قد رأيت من الأمثلة التي عرضتها في الفقرة السابقة هي أن أمسك بعدسة مكبرة تكشف للقارئ عناصر الفكرة التي هي مدار الحديث، موقنا أن ذلك وحده كفيل بأن يزيل ضباب الغموض الذي يكتنف المفاهيم المحورية التي عليها تدور ثقافتنا إبان تلك الفترة، فلقد كنت تقرأ للكتاب عندئذ عن تلك الموضوعات وأمثالها؛ ليقيموا على ما يكتبونه نتائج سياسية وغير سياسية، دون أن تكون في أذهانهم أفكار واضحة عما يكتبون عنه؛ فلم يكن ينشأ لنا عن الغيوم العقلية إلا غيوم، وما «العقل» إلا ضروب من «التحليل»؛ يبين حقيقة العلاقة بين المقدمات والنتائج، وفيما يلي قصة أرويها من حياتي سنة 1958م؛ لأنها - من جهة - تسجل نوعا من النشاط الثقافي الذي اضطلعت به، ثم هي - من جهة أخرى - ذات دلالة على مدى الأهواء اللاعقلية في تشكيل مواقفنا واتجاهاتنا في شئون ثقافية كان من حقها أن تظفر من أصحاب الريادة الفكرية بقسط من ضوابط أكثر جدا مما يمارسونه.
ففي سنة 1958م دعيت للقاء زائر أمريكي قال: إنه ممثل لمؤسسة فورد، وقد جاء ليعرض علينا مشروعا ثقافيا تنفق عليه تلك المؤسسة، ألا وهو إخراج موسوعة عربية متوسطة الحجم، على غرار موسوعة كولمبيا الأمريكية، وأرجو من القارئ أن يلتفت إلى قولي «على غرار»؛ إذ كان هذا هو أساس المشروع المقدم إلينا، ولم يكن «ترجمة» لموسوعة كولمبيا، وكان لمؤسسة فورد فيما تبرعت به من إنفاق مالي على المشروع - لو قبلنا تنفيذه - شرط واحد، هو أن يشرف على العمل ويشارك فيه أكبر عدد ممكن من الأقطار العربية جميعا، بمعنى أن تكون تلك الأقطار ممثلة بقدر طاقاتها الثقافية، حتى نضمن أن تكون «الموسوعة» عربية ومن صنع الأمة العربية، لا تحتكر العمل فيها بعض الأقطار دون بعض.
تم هذا اللقاء الأول في «مؤسسة فرانكلين» بالقاهرة؛ لأنها كانت هي التي ستصبح أداة التنفيذ لو كتب للمشروع أن يمضي في طريقه، فكنا في ذلك اللقاء ثلاثة: ممثل مؤسسة فورد وحسن جلال العروسي المشرف على مؤسسة فرانكلين بالقاهرة، وأنا باعتباري اختيارا لرئيس تحرير الموسوعة محتمل الوقوع، وكانت أولى النقاط المطروحة بيننا لتبادل الرأي هي البحث عن الطريقة المثلى لتمثيل البلاد العربية تمثيلا كافيا، فطرأت للعروسي فكرة اللجوء إلى جامعة الدول العربية، وفي ذلك الحين كان الدكتور طه حسين هو القائم على الجانب الثقافي من تلك الجامعة، وهو الجانب الذي كان أحد فروعه معهد الدراسات العربية، الذي كان الأستاذ شفيق غربال عميدا له.
تركنا الأمر للعروسي عند هذه الخطوة؛ ليتصل بالجامعة العربية باحثا عن طريقة التمثيل الذي كان شرطا أوليا، وفي جلسة تالية نقل إلينا العروسي نتيجة اتصاله، وهي أن يوكل الإشراف الأعلى للأستاذ شفيق غربال من حيث هو عميد لمعهد الدراسات العربية، ثم يأتي بعد ذلك مجلس للإدارة يختار أعضاؤه من مختلف الأقطار العربية، وفي تلك اللحظة عرضت علي رئاسة التحرير، ويشهد الله أنني ما شعرت بالخوف من مشروع ثقافي أشارك فيه قبل ذلك أو بعد ذلك بمثل الخوف الذي شعرت به في تلك اللحظة التي قبلت فيها رئاسة تحرير الموسوعة؛ فالعمل كبير ومزالق الخطأ فيه - والخطر - كثيرة، لكني عقلت الأمر وتوكلت على الله وقبلت.
كانت أولى خطوات التنفيذ رحلة إلى أمريكا لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، أزور خلالها مقار الموسوعات الثلاث الكبرى التي تصدر هناك: اثنتان منهما في نيويورك، وهما: «الأمريكانا» و«كولمبيا»، والثالثة في شيكاغو، حيث مقر موسوعة «البريتانيكا» (وأقول هنا استطرادا بأن «البريتانيكا» - الموسوعة البريطانية - لم تعد في بريطانيا كما بدأت، بل اشترتها شركة أمريكية ، وأحدثت فيها بعد ذلك تغيرات في موادها ونسب الأهمية بين تلك المواد)، لكن كانت لموسوعة «كولمبيا» بين هذه الموسوعات الثلاث التي زرتها لمعرفة التفصيلات التي تدار بها تلك الأجهزة الكبرى من الداخل، أقول: كان لموسوعة «كولمبيا» بينها أهمية خاصة في مشروعنا، وهي أن اتفاقا تم معها على أن يصرح لمن شاء أن يأخذ من مادتها في الموسوعة العربية ما أراد أن يأخذ، ومرة أخرى أوجه رجائي إلى القارئ بأن يلتفت إلى هذا المعنى بدقة، فلم يكن مدار الاتفاق مع كولمبيا أن «نترجم» مادتها إلى العربية؛ فقد لا نأخذ منها حرفا واحدا، ولكن إذا حدث أن استعان بشيء منها الأساتذة المسهمون في الموسوعة العربية، فذلك مصرح به مقدما.
وأثناء وجودي في أمريكا دارسا - على الطبيعة كما يقولون - للموسوعات وكيف تعد مادة وإخراجا، استخلصت لنفسي مبدأ نؤسس عليه عملنا، يختص بالنسبة التي تقسم على أساسها مواد الموسوعة: فكم منها يكون للمادة العربية الخالصة وكم يكون لبقية العالم؟ ولقد تنبهت لأهمية هذه النقطة - مسألة النسبة بين الأجزاء والمواد - خلال زياراتي لمقار إدارة الموسوعات الثلاث التي ذكرتها، وكان المبدأ الذي استخلصته هو أن تكون أربعون في المائة للمادة العربية الخالصة وستون لبقية العالم. وبالطبع كان مبدأ هاما أساسيا كهذا هو أول ما يفرض على مجلس إدارة الموسوعة عندما يتم انتخاب أعضائه من مختلف الأقطار العربية؛ ليقره أو ليعدل فيه.
Shafi da ba'a sani ba