9 - أصالة ومعاصرة
10 - مصري يكتب عن مصر
قصة عقل
قصة عقل
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
في سنة 1965م أصدرت كتاب «قصة نفس»، الذي أردت به أن يكون ترجمة ذاتية من الباطن لا من الظاهر، بمعنى ألا تجيء تلك الترجمة سردا للأحداث البارزة التي صنعت لي مجرى حياتي؛ لأن تلك الأحداث الخارجية وحدها إن هي في الحقيقة إلا سطح يخفي وراءه ما يخفي، وهي - بعد ذلك - أحداث في مستطاع الباحث المتعقب - إذا أراد - أن يلتمسها في مظانها ويرويها مسلسلة في صورة مترابطة الأطراف، لكنني أردت لنفسي شيئا آخر حين كتبت «قصة نفس»، فرب حادثة تبدو لأعين الآخرين تافهة لا تستحق الوقوف عندها، فإذا هي عندي نقطة تحول في طريق الحياة بأسرها؛ لما كان لها في نفسي من آثار عميقة، فأين هو ذلك الباحث الخارجي الذي يستطيع أن يتعقب النتائج التي أحدثتها في حياتي كلمة سمعتها تقال عني، وأنا في نحو الرابعة عشرة - فيما أذكر - تنصح أبي بأن يكف عن تعليمي بسبب قصر في البصر، من شأنه حتما أن يحول بيني وبين وظائف الحكومة؛ أقول: أين هو ذلك الباحث الذي يستطيع إذا ما وجد في الوثائق ما يدله على أن هذه الكلمة قد قيلت ذات يوم، فيستدل منها أنها كانت هي إحدى نقاط التحول الرئيسية في مجرى حياتي؛ إذ هي بدل أن تكون عندي عامل تثبيط وإحباط، كانت حافزا على مضاعفة القراءة لأثير الغيظ في نفس قائلها، وما إن ضوعفت القراءة منذ تلك اللحظة، حتى أصبحت من حياتي بمثابة الروح من الجسد، أو كادت! إن مثل هذه الهزة الداخلية المؤثرة، كائنا ما كان المحدث لها، لا يدرك حقيقة حجمها إلا من يرى نفسه من الداخل.
إذن فقد أردت بكتاب «قصة نفس» حين أنشأته، أن أصور حياتي كما سارت بها عوامل الباطن، وكان حتما أن ألجأ إلى الرمز؛ لأن ثمة من حقائق الحياة الباطنية عند كل إنسان ما لا قبل لأحد بردها، ومع ذلك فهي مما لا يجوز الإفصاح عنه بحكم موازين المجتمع. وكان أول ما لحظته في نفسي حين بدأت العمل - وأظنه كذلك مما لا بد أن يلحظه كل إنسان في نفسه لو أمعن النظر - هو أنني بمثابة عدة أشخاص في جلد واحد، فهنالك من تجرفه العاطفة ولا يقوى على إلجامها، ولكن هناك إلى جانبه من يوجه إليه اللوم ويحاول أن يشكمه حتى يقيد فيه الحركة التي تقذف به إلى الهاوية، على أن هذا الشد والجذب في داخل النفس، بين عاطفة تشتعل وعقل يخمد اشتعالها، لا يمنع أن ينعم الإنسان بلحظات هادئة تتصالح فيها العاطفة والعقل، فيسيران معا في اتجاه واحد.
وعلى هذا الإطار الثلاثي أقمت «قصة نفس»، فلما أن صدر الكتاب وقرأته مطبوعا؛ أحسست إحساسا شديدا بأوجه نقص في بنائه؛ مما دعاني إلى التفكير في إعادة كتابته إذا هممت له بطبعة ثانية، لكني فوق ذلك أحسست بما هو أهم؛ وهو أن صورة نفسي كما قدمتها إلى القراء قد أسقطت من حياتي جانبا هو بغير شك أبرز جوانبها وأكثرها إيجابية، وأوفرها نفعا للناس، إذا كان فيما أنجزته ما ينفع. وأعني بذلك الجانب الذي سقط من الحساب في «قصة نفس»، لا عن تقصير فيها، بل عما تقتضيه طبيعة قصة أرادت أن تغوص في باطن النفس؛ أقول: إن الجانب الذي أعنيه هو سيرة «العقل» في حياتي، فهو الذي كان أداة الدرس والتحصيل، وهو الذي طفق طوال سنوات النضج يتصيد «الأفكار» من عند الآخرين حينا، وحينا يعمل على توليدها في ذهني، وهو الذي تولى الكتابة فيما كتبته، حتى لو كان المكتوب أدبا خالصا، فلقد كان الأدب الذي أنتجته من النوع الذي يستبطن «أفكارا» في أطر يقيمها لتصلح حاملا لها .
Shafi da ba'a sani ba