193

Labarin Adabi a Duniya (Sashi na Farko)

قصة الأدب في العالم (الجزء الأول)

Nau'ikan

إن ديموسثنيس قد ركز كل قوته في فن الخطابة وحده، فبات لا يشق له غبار في قوة فصاحته وجزالتها ودقتها. أما شيشرون فقد كان أوسع مدى في دراسته، فلم يجاهد أن يكون خطيبا نابغا وكفى، لكنه أراد أن يكون كذلك فيلسوفا وعالما. واختلاف الخطيبين في المزاج متبين في اختلافهما في الأسلوب، فديموسثنيس في خطابته دائما صارم جاد ينشد الفكرة الجافة. أما شيشرون فيحب النكتة، وقد يبلغ به المزاح في الحديث أحيانا حد المهاترة، ولم يكن الخطيب اليوناني يمدح نفسه في خطبه إلا إن قصد بذلك هدفا ساميا، وحتى إن فعل ففي تواضع وفي غير اعتداد. أما الخطيب الروماني فلا يحاول أن يخفي غروره بنفسه إلى حد الإسراف، مما جعله ممقوتا عند كثير من معاصريه.

وكان للرجلين جميعا مقدرة سياسية ممتازة، لكن بينما نجد ديموسثنيس لا يشغل منصبا سياسيا قط، ويشك في أنه أحيانا كان يبيع موهبته لمن يجزل له العطاء، نرى شيشرون يحكم إقليما في عصره كان الجشع فيه قد بلغ أقصى درجاته، لكنه لم يعرف عنه إلا العطف الإنساني وازدراء المال حتى ليرفض الهدايا البريئة.

إلى هنا ننتهي من استعراض المؤرخين الإغريق، ونخلص مما رأينا بأن فن كتابة التاريخ عند اليونان وإن يكن قد وصل أحيانا من العمق في الفهم إلى أبعد المراحل، إلا أنه لم يصل في الواقع إلى ما وصل إليه المؤرخون المحدثون؛ وذلك لأنه ظل جزئيا، يتحدث عن ناحية خاصة من نواحي الأمم ويهمل ما عداها، فهم لم يكتبوا مثلا تاريخ عصر من العصور يفضلون فيه القول عن الحياة السياسية والحياة العقلية والحياة الحربية والحياة الاجتماعية، بحيث يخرج القارئ بصورة تامة لذلك العصر. ولكننا عندما نذكر أن هذا المنهج الشامل في كتابة التاريخ لم يهتد إليه المؤرخون إلا في القرن التاسع عشر، نستطيع أن نتصور أنه لم يكن من الممكن أن يقفز الإغريق إلى الكمال.

ومع ذلك فقد امتاز المؤرخون الإغريق بصفة هامة هي عدم التحيز، وكانت لهم فوق ذلك قدرة عجيبة على فهم النفس البشرية وإيضاح دوافعها، وفي هذا ما يضمن لكتبهم الخلود، لا من حيث هي مصادر التاريخ فحسب، بل ومن حيث هي كتب أدب إنساني خليق بأن يخصب النفس ويشحذ الإدراك. (4-2) الفلسفة والخطابة (أ) الفلسفة

أغرم العقل اليوناني - بعد أن قطع مرحلة الأساطير والإمعان في الخيال - بإطالة التفكير والتأمل فيا يصادف من ظواهر، فيحاول تعليلها وتعقب أسبابها. وإنك لتقرأ عن اليونان وفلسفتهم فتحسب القوم يتنفسون الفلسفة مع الهواء. وما ظنك بجماعة تناقش موضوعات الفلسفة إذا التقوا في الأسواق، أو صادف بعضهم بعضا في عرض الطريق! وحسبك أن تقرأ ما كتبه أفلاطون وأرسطو، وما بلغت إليه الفلسفة في العصر الحديث، لتعلم أن الإنسانية لم تكد تخطو - في الفلسفة - إلى الأمام بعد اليونان خطوات، بل لتعلم أن الإنسان الحديث في ركضه السريع يوشك أن يتخلف عما أدركه اليونان من حكمة في بعض النواحي. ولنمض مسرعين على هامات القرون، مخلفين وراءنا فلاسفة اليونان الأولين، فأولئك على عظيم قدرهم لا يتسع لهم مقام كتابنا.

ولنقف عند القرن الخامس قبل الميلاد، حيث سوفوكليز ويوريبيد يعرضان على المسرح آياتهم، لننظر إلى هذا الفيلسوف الذي يذرع شوارع أثينا ويغشى أسواقها، يناقش ويحاور في منطق سليم وأسلوب أخاذ، لننظر إلى سقراط جالسا ومن حوله معارضوه ومؤيدوه ؛ فما يزال يلقي هنا سؤالا وهناك سؤالا، ويتلقى من هذا جوابا ومن ذاك جوابا حتى يستقيم له الموضوع الذي يناقشه، ويبلغ النتيجة التي يريد، متهكما ساخرا بمن زعموا لأنفسهم العلم وهم جاهلون، مستحثا الشباب أن يفكروا لأنفسهم ليدركوا الحق بأنفسهم معلنا أنه لا يدري شيئا، وأنه إنما ينشد الحكمة عند الآخرين مسيرا في ذلك كله بصوت باطني لعله أن يكون وحيا من الآلهة. ولقد أحب سقراط من فهموه، وسخط عليه من كانت لهم في نفوس الناس مكانة علمية فزلزلها سقراط وعرضهم لسخرية الساخرين؛ فرفع ثلاثة من هؤلاء أمر سقراط إلى القضاء بتهمة إفساد عقول الشبان، وإنكار الآلهة، ومهاجمة الدولة ونظامها. وكانت المحاكمة وكان الحكم، فإذا هو أن يجرع سقراط كأسا من السم ليموت، فلم يظهر من شخصية سقراط عندئذ إلا جانب الفيلسوف. وقضى آخر أيامه في السجن يحاور تلاميذه في النفس وخلودها! وهل ترى أمر سخرية في تاريخ الإنسانية كله من هذه الحقيقة المرة: وهي أنها تقتل من أبنائها من يعلو وينبغ.

و إن أردت أن تقرأ ما نطق به سقراط في محاوراته مع الناس، فارجع في ذلك إلى تلميذه الأكبر «أفلاطون» الذي كان كأستاذه محاورا، ولكن بالقلم لا باللسان؛ فأخذ يكتب «المحاورات» يديرها بين النابهين من أهل أثينا، ويتخذ من سقراط شخصية رئيسية ليجري على لسانه ما يريد لنفسه من أفكار؛ فبات متعذرا أن نميز بين آراء سقراط وآراء تلميذه التي أجراها على لسان أستاذه، ولكن هل يعني ذلك شيئا عند من ينشد حكمة اليونان؟ كلا! فاقرأ المحاورات الأفلاطونية تقرأ حكمة يونانية، وحسبك ذاك، وسترى في تلك المحاورات أسلوبا فنيا رائعا يضع أفلاطون في الصف الأول بين الأدباء؛ ففيها أخذ ورد، وسؤال وجواب، وموافقة واعتراض، مما جعلها قطعة حية بين آيات الأدب. وتبلغ هذه المحاورات في عددها ما يقرب من عشرين، تكاد لا تستثني شيئا من جوانب الفكر الإنساني إلا مسته مسا رقيقا أو عميقا، حتى قيل: إن بذور الفكر الإنساني كله قديمه وحديثه تراها منشورة مبذورة في محاورات أفلاطون، لا تستثني من ذلك عقائد المسيحية نفسها! هذا ما يقوله عنها أبرع مترجميها إلى اللغة الإنجليزية وهو «بنيامين جووت»

200

الذي أصبحت ترجمته لها تعد في نفسها قطعة من الأدب، ومقدماته لتحليلها آية في النقد، وترجم إلى اللغة العربية قبس منها.

201

Shafi da ba'a sani ba