ولم يكن لدافيد من يدافع عنه أو يقول: إنه بريء، ومعلوم أن قوانين الحرب قاسية فلم يصدقوا أقسامه الغليظة وحكموا عليه بالإعدام شنقا وأرسلوا الحكم للقائد العام لتصديقه، وأجابوا ملتمس دافيد فأرسلوا إلى منزله يطلبون له ملابس نظيفة ليلاقي ربه بجسم طاهر.
فركب أحد الجنود جوادا وأسرع إلى منزل دافيد، وقال لابنته: أسرعي واحملي لوالدك ثيابا نظيفة؛ لأنه غدا صباحا سيشنقونه عقابا له على تجسسه ومحاولته تسليمنا للعدو.
فصعقت ليا ولم تفهم شيئا مما قاله الجندي وجرت وراءه كالوعل إلى مركز القيادة العامة لمقابلة القائد، وهناك رووا لها تفاصيل الأمر. فبكت أمام القائد وانتحبت وسجدت أمامه وقبلت يديه؛ راجية إياه أن يعفو عن والدها فصادفت آذانا صماء، ولما رأت فشل مسعاها عادت مسرعة إلى المنزل لتنفيذ إرادة والدها الأخيرة.
سارت مسرعة لا تعي على شيء ولم تجد من يوقفها، ولما بلغت المنزل رأت جوادا مربوطا، ثم وجدت في البيت شابا ينتظرها، ذلك الشاب الذي هو أعز مخلوق لديها في هذه الدنيا، ذلك الذي تفكر به ليلا نهارا، ذاك الذي أنقذته من الموت بيديها وما كادت تطأ أرض الغرفة حتى وقعت أمامه بلا حراك، فرفعها وعانقها وأجلسها على المقعد، ولما عاد إليها رشدها سألها: أين والدها؟
فروت له وهي تبكي وترتعش ما جرى لوالدها، فصدق إيفان روايتها عن براءة والدها فقفز من فوره على ظهر جواده، وأطلق له العنان قاصدا القائد العام فوجده نائما، فأيقظه وقص على مسامعه إيواء دافيد له في منزله ومعالجته له ومخاطرته برأسه ورأس ابنته في سبيل خلاصه، وأكد له أن دافيد بريء مما نسب إليه، وكان القائد عادلا فأصغى إلى كلام إيفان ونقض حكم الإعدام، وقال: إن اليهودي يستحق الجزاء دون العقاب، وأمر أن يغادر ميدان القتال.
كاد دافيد ينتظر الموت بين ساعة وأخرى بدون خوف أو وجل؛ لأنه عاش عمرا طويلا في هذه الدنيا، ورأى كثيرا من الخير والشر ورجا أن يرى في السماء زوجه الحبيبة دورا، وإنما كان قلبه يؤلمه على ابنته التي سيتركها وحيدة فريدة، وجعل يصلي لإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب لكي لا يتخلى عنها، وأن يبعد عنها كل شر ومصيبة ويطهر قلبها من حب ذلك الروسي، لبث يصلي ويبكي ليس خوفا على حياته بل حزنا على ابنته ليا التي ستبقى في هذه الدنيا بين أناس أشرس من الوحوش الضارية وأشد خطرا منها.
لبث في بكائه ولم يسمع فتح باب سجنه ولم ير دخول الجنود ومعهم ذاك الذي طلب أن يؤويه في منزله في تلك الليلة الرهيبة ... - اخرج يا داود! إنك حر طليق، قال له ذلك إيفان الضابط، ثم ارتمت ابنته على صدره، ولكنه لم يصدق ما سمع وما رأى، وقال: من أنقذني؟ من برأني؟ ومن منحني الحياة؟
فأجابته ليا والسرور يطفح من وجهها: ذاك الذي أويته في منزلك وهو الآن رد لك حياة بحياة، ذلك الذي أحبه أنا كما أحبك يا أبي. - ليا، ليا عزيزتي! لا تخاطبيني بشأن حبك لأنه لا يجوز لك أن تحبيه؛ لأننا من دينين مختلفين ... - يا أبي! إن له إلها واحدا مثلنا، هو خلصك وأنا أذهب معه وسيكون دينه ديني.
فبكى الشيخ ورفع عينيه إلى السماء ولم يتكلم بلسانه بل بقلبه وقال: لنا إله واحد فلتكن إرادته المقدسة. «إن المياه الغزيرة لا تستطيع إطفاء جذوة الحب، ولا الأنهار إغراقها.»
طرائف ولطائف
Shafi da ba'a sani ba