ومر عام ونصف على هذا النحو، وكان من الممكن أن تمر الحياة كلها، لو أن إدارة السجن لم تنه من خلال الروتين المعقد، إلى كتبة النيابة أنهم قد نسوا أن هناك امرأة ومعها طفل ما زالت موجودة بالسجن ولم تقدم للمحاكمة، ولعدم وجود أدلة في الملف حكم عليها بالحبس خمسة عشر يوما، وفي الواقع أنه كان من الصعب الإفراج ببساطة عن امرأة متهمة بالسرقة، وبعد المحاكمة عرف أن أسيادها السابقين قد وجدوا المفارش المذكورة في دولاب كانوا قد دسوها فيه عند عودتهم من المرقص.
واستمعت ماريا إلى الحكم دون أن ترفع بصرها عن ثديها الذي كان يرضع منه طفل متورد يقرقع بشفتيه، أزرق العينين عميقهما.
وكانت سعيدة بفكرة أنها ستستطيع بعد خمسة عشر يوما ، أن تحمل طفلها الحبيب خارج تلك الأقبية والأبواب المغلقة في السجن.
وفي اليوم السادس عشر ودعت اللصوص نساء ورجالا، وأسندت رأس طفلها على كتفها المطرز بحرير قميصها، وأخذت لفافة ملابسها، وتوجهت نحو مكاتب الإدارة حيث قال لها الموظف المختص: «إن أمر الإفراج لم يصل بعد، وليس لك إلا أن تنتظري، فهو لن يتأخر»، وانتظرت ماريا ساعة وأخرى، ثم جاء وقت الغداء. - ألم يصل ذلك الذي تحدثت عنه. - لم يصل بعد.
وهكذا انتظرت حتى وقت العشاء، ثم يوما آخر ... ثم اثني عشر يوما! ومات الطفل الذي كان قد سقط مريضا في تلك الأثناء، وفي اليوم الثالث عشر ترك الطفل السجن وحده محمولا إلى المقبرة في نعش يجره حصان واحد، وبقيت ماريا بلفافة ملابسها، والهدايا التي كانت قد قدمت للطفل في السجن ذي الأقفال الثقيلة، وفي اليوم الخامس عشر وصل الأمر، فقد كانوا قد نسوها للمرة الثانية!
وعند عتبة باب السجن الكبير، ترنحت ماريا نيكيفور وانهار وجهها، وعجزت عن أن تتم الخطوة التي بدأتها، وتجمدت أمام الأسوار ذات المخابئ العالية التي يكمن فيها الحراس، ومن فوقها ترتفع قباب الكنيسة، وأكثر علوا قبة السماء البيضاء في الخريف.
وفي مواجهتها على مسافة ما كانت تلوح المقبرة، وإلى اليمين الطريق الذي ينحدر إلى المدينة ... إلى العاصمة.
بنايت إستراتي (1884-1935)
بالرغم من أن بنايت إستراتي قد كتب مؤلفاته أول الأمر بالفرنسية، إلا أن جوركي البلقان - كما عرفه في روعة رومان رولان - ينتمي إلى رومانيا بالمادة وروح الخلق، وهو قد ولد في برايلا على شاطئ الدانوب، وقد عاش إستراتي شبابه كما وصفه في قصصه الطريفة المؤثرة، واضطر إلى أن يزاول كافة المهن، وأن يمر بكافة التجارب، وبعد سنوات شاقة طويلة عرف في فرنسا - بعد سنة 1920 - النجاح الذي ضمنه له إنتاج أدبي فريد في نوعه، يضم الشعر، والواقعية الحادة، والاعترافات، والحوار الدسم، وتصوير الفلاحين المرهقين بالبؤس، وتمرد الفقراء وسحر المواني، والدعارة في الطبقات الدنيا، وسحر الشرق الأوسط، والحنين إلى سهول الوطن.
فكل هذا وجده القارئ الغربي في كتب إستراتي ، مع ما نثره فيها من اصطلاحات وأمثلة رومانية نقلها كما هي إلى الفرنسية لكي يزيد من إشراق أسلوبه، ولنذكر من إنتاجه القوي الأصالة قصص: «أدريان زغرافي»، و«كيراكيرالينا»، و«العم إنجيل»، و«الهيدوكيون»، و«أشواك باراجان». (1) كيراكيرالينا
Shafi da ba'a sani ba